ومن شابههم من المسلمين في الإعراض عن عبادة الله -عز وجل- التي خلقوا لها وأمروا بتحقيقها - فإن له نصيباً من المعيشة الضنك والحياة القاسية وشقاء القلوب والقلق والحيرة، ولو ظهرت عليهم أمارات السعادة والسرور، ونحن نسمع عن انتشار الأمراض النفسية في كثير من العباد، لا سيما في صفوف الشباب والشابات منهم في هذا الزمان، ولا شك أن أعظم أسبابها ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واستعدوا ليوم ترجعون فيه إلى الله، فتوفى كل نفس ما كسبت ولا تظلم شيئاً، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 254].
عباد الله: لقد أمر الله -عز وجل- عباده بأمر عظيم، وخلقهم لأجل هذا المأمور به، ألا وهو عبادته -سبحانه وتعالى-، فقال -جل من قائل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]. وقال -جل ذكره-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
فالآمر هو الله -عز وجل-، والذي خلق الجن والإنس؛ لتحقيق هذا المأمور به هو الله الخالق العليم؛ فالواجب على العباد جميعاً ذكوراً وإناثاً إنسا وجنا، امتثالُ هذا الأمر، وتحقيق هذا المأمور به، ألا وهو عبادة الله -عز وجل-.
وكيف يمتثل العباد هذا الأمر ويحققون هذا المأمور، وهو من الحقوق التي لله عليهم، كما في حديث معاذ بن جيل -رضي الله عنه- لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟" فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال له: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" الحديث؟!.
وكيف لا يتمثل العباد هذا الأمر ويحققون هذا المأمور، وهو أمر يحبه الله -عز وجل- ويرضاه، ويفرح به -جل في علاه-، مع أن منفعة هذه العبادة للعباد أنفسهم والله غني عنها، لكنه له -سبحانه- من جهة محبته له ورضاه بها؟!
كيف لا يتمثل العباد هذا الأمر ويحققون هذا المأمور، ولله عليهم من النعم والآلاء ما لا يحصيه إلا الله -عز وجل-؛ كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [النحل: 18]؟!.
أليس الله -عز وجل- هو الذي خلقهم من العدم، ولم يكونوا شيئاً مذكوراً قبل خلقهم؛ كما قال -جل وعلا-: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 1- 3]. وقال -سبحانه-: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 8 - 10]؟!.
أليس هو -جل وعلا- الذي أجرى رزق عبده عليه وهو في بطن أمه، وبعد أن خرج من الدنيا ضعيفاً حقيراً، حتى اشتد ساعده وقوي عظمه، وقدر على كسب رزقه بنفسه؛ فهل بعد هذه النعم وهذه الآلاء، وبعد هذا التكريم والتفضيل يقابل الله -عز وجل- بالجحود والنكران، ومعصيته، فيما أمر به، ونهى عنه، وهو -سبحانه- خالقه ورازقه ومحييه ومميته، ومقلب قلبه ومصرف أموره، لا رب له غيره ولا مالك له سواه ولا خالق له إلا هو؟!
انظر إلى نفسك -أيها الإنسان- هل لك يد أو لغيرك يد في خلقك ورزقك؛ فلولا الله -عز وجل- ما وجدت على هذه الأرض، ولولا الله -عز وجل- ما رفعت إلى فمك لقمة عيش.
إذًا، امتثل هذا الأمر وحقق هذا المأمور، تفز بالخير العظيم.
إذًا، امتثل هذا الأمر وحقق هذا المأمور، تفز بالخير العظيم والسعادة الكبيرة في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعل ذلك فالعاقبة السيئة والمآل القاسي لك -أيها العاصي وأيها الجاحد-؛ فاستعن بالله على امتثال هذا الأمر وتحقيق هذا المأمور؛ بالعلم الشرعي الذي ينير لك الطريق في الحياة الدنيا والآخرة، وبمجاهدة أعدائك الذين يريدون صدك عن هذا الأمر العظيم؛ من نفس أمارة بالسوء ومن شيطان مريد ومن هوى مضل ومن دنيا فاتنة وخادعة ومن دعاة ضلالة وفسق؛ فإن الله -عز وجل- قد وعد الذين يجاهدون فيه بأن يهديهم سبله، وبشرهم بأنه معهم بعلمه؛ يكلؤهم وينصرهم ويمدهم بعونه وتوفيقه، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
وأما الذي يغتر بزينة الحياة الدنيا ويتبع الهوى ويعرض عن هذا الأمر ولا يحققه ويستكبر عنه - فإن الله -عز وجل- يخفضه ولا يرفعه، يذله ولا يعزه، يهينه ولا يكرمه، قال -سبحانه وتعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
ولهذا أمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يتْلُو على الناس نبأ الذي أعطي علما فانسلخ منه، فاستحوذ عليه الشيطان فأطاعه، وعصى ربه وأخلد إلى زينة الحياة الدنيا، واتبع الهوى ودعاة السوء والضلالة، فكانت عاقبته الغواية والضلالة والخفض والذل؛ فلا ينتفع بالمواعظ، فقال -سبحانه- وتعالى في ذلك: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175- 176].
ونحن -عباد الله- في زمان كثرت فيه الفتن التي تصد الإنسان عن عبادة ربه -سبحانه وتعالى-؛ فتن الشبهات وفتن الشهوات، فإذا لم يتحصن الإنسان بالعلم الشرعي الذي يحميه -بإذن الله- من فتن الشبهات، ولم يتحصن بالخوف من الله -عز وجل- ومراقبته وذكره -سبحانه وتعالى- بما يحميه -بإذن الله- من فتن الشهوات - فإنه لا محالة سيقع في شراك تلك الفتن، فتصده عن امتثال هذا الأمر وتحقيق المأمور به، ألا وهو عبادة الله -عز وجل-؛ فحينئذ يبوء بشر حال.
وانظروا -عباد الله- إلى الذين فتنوا بالدنيا، واغتروا بدعاة السوء والضلالة، واتبعوا الهوى، فقد تركوا هذا الأمر وانصرفوا عنه؛ فابتلوا بعبادة الهوى والشيطان فساءت أحوالهم، وقست معيشتهم، واحتارت عقولهم، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: - 124 - 126].
فهؤلاء الكفرة الفجرة إنهم -والله- يعيشون في ضنك من العيش ولو كانت أجسامهم صحيحة سليمة، ولو أعطوا من الدنيا ولذاتها ما أعطوا، فقلوبهم في شقاء وحيرة وقلق، فهم كما قال فيهم ابن القيم -رحمه الله-:
والله لو شاهدت هاتيك الصد *** ور رأيتها كمراجل النيران
ووقودها الشهوات والحسرات *** والآلام لا تخبو مدى الأزمان
أرواحهم في وحشة وجسومهم *** في كدحها لا في رضي الرحمن
هربوا من الرق الذي خلقوا له *** فبلوا برق النفس والشيطان
ومن شابههم من المسلمين في الإعراض عن عبادة الله -عز وجل- التي خلقوا لها وأمروا بتحقيقها - فإن له نصيباً من المعيشة الضنك والحياة القاسية وشقاء القلوب والقلق والحيرة، ولو ظهرت عليهم أمارات السعادة والسرور، ونحن نسمع عن انتشار الأمراض النفسية في كثير من العباد، لا سيما في صفوف الشباب والشابات منهم في هذا الزمان، ولا شك أن أعظم أسبابها هو: الإعراض عن عبادة الله -عز وجل-، والإقبال على عبادة الهوى والشيطان.
ولا يتصور أحدكم أننا إذا قلنا عبادة الشيطان والهوى، نعني بذلك السجود والركوع للشيطان وللهوى -وإن كان ذلك عبادة-، وإنما نعني بعبادة الهوى والشيطان طاعتهما فيما يأمران به ويدعوان إليه من معصية الله -عز وجل- ومخالفة أمره؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وغيره عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قوله -تعالى-: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [التوبة: 31] فقال: إنا لسنا نعبدهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحرمونه؟" فقال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم".
فالواجب علينا -عباد الله- هو امتثال أمر الله -عز وجل- وتحقيق المأمور به وهو عبادته -سبحانه وتعالى-، وأن نبادر إلى ذلك ولا تتأخر؛ فإن السعادة والسرور والبهجة والحبور، والطمأنينة وسلامة الصدور، في عبادة الله العزيز الغفور.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتكم.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.
عباد الله: قد يقول الإنسان: أنا أحب وأرغب في امتثال أمر بي -جل وعلا-، وتحقيق ما أمر به -وهو عبادته سبحانه وتعالى-، ولكن يحيط بي أعدائي في ديني من كل جانب؛ فما السبيل إلى تحقيق أمر الله -عز وجل-؛ بعبادته وحده -سبحانه-، والخلاص والفكاك من هؤلاء الأعداء الذين يتربصون بي الدوائر، ويريدون صرفي عن عبادة الله وصدي عنها؟
أقول لهذا: سأتطرق لما ذكرت في الخطبة القادمة -إن شاء الله تعالى-، وأسأل الله -سبحانه- أن يحمينا جميعاً من أعدائنا وأعداء ديننا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي