الخاتمة

محمد بن إبراهيم الشعلان
عناصر الخطبة
  1. نظرة الناس للموت وسرعة نسيانهم له وعدم أخذ العظة منه .
  2. أسباب الاتعاظ بالموت .
  3. أهمية المحافظة على الطاعات .

اقتباس

لكن الذي يحز في النفس، ويبعث على الاستغراب: أن أكثرنا لا يتعظ بالموت، ولا يتعظ بالقبر الذي يدفن فيه الميت، حسبه دموع تخرج من عينه، وشحوب يعتري وجنتيه، وذهول يظهر على محياه لحظة الوفاة، وأثناء الدفن، وبعد الدفن بزمن يسير، تجف الدموع، ويزول الشحوب، ويختفي الذهول، ويعود إلى سيرته الأولى ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله واسع العطاء، أحمده سبحانه حمد الأتقياء، وأشكره شكر البررة الحنفاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العظمة والكبرياء، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه النجباء، وعلى من اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.  

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

يا عبد الله:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة  *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

لهونا عن الأيام حتى تتابعت  *** ذنوب على آثارهن ذنوب

عباد الله: نحن نرى أن نهاية ابن آدم في هذه الدنيا هي الموت، الذي تعددت أسبابه.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

وهذا أمر لا ينكره أحد، وحقيقة لا يجادل فيها أحد؛ لأن الله -عز وجل- أخبر بالموت في كتابه في غير ما آية منه، كما قال -سبحانه وتعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27].

وأخبر به رسوله -عليه الصلاة والسلام- في غير ما حديث من سنته، فقال عليه الصلاة والسلام: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات".

والواقع شاهد بذلك، ولا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الموت بغتة وفجأة، وكثر فيه الموت بالأمراض المستعصية التي لم يجد لها الأطباء في جميع أنحاء العالم علاجاً قاطعاً.

إنني -عباد الله- لن أتحدث عن نفس الموت وحقيقته وما ورد فيه، فهو أمر معلوم لكم، لكنني سأتحدث عن أمر معلوم لكم أيضاً لكنا في غفلة منه إلا من رحم الله.

فأقول: نحن ننظر في الغالب إلى ذات الموت، ونقول: مات فلان -رحمه الله-، ويتأثر أهله وقرابته، وأهل وده بموته، ولا يتعدى التأثر برهة من الزمن، ثم ينسى ويعودون إلى حياتهم، وكأنهم لم يفقدوا قريباً ولا عزيزاً، ولعل هذا من رحمة الله -عز وجل-؛ لأن التأثر بموت القريب لو استمر بقريبه، ربما أضر به، وأقعده عن العمل فيما ينفعه دينا ودنيا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات".

ولم يقل: داوموا على ذكر هاذم اللذات.

لكن الذي يحز في النفس، ويبعث على الاستغراب: أن أكثرنا لا يتعظ بالموت، ولا يتعظ بالقبر الذي يدفن فيه الميت، حسبه دموع تخرج من عينه، وشحوب يعتري وجنتيه، وذهول يظهر على محياه لحظة الوفاة، وأثناء الدفن، وبعد الدفن بزمن يسير، تجف الدموع، ويزول الشحوب، ويختفي الذهول، ويعود إلى سيرته الأولى، لا يكون للموت والقبر أثر فيه بأداء الصلاة إذا كان تاركاً لها، أو بأداء الزكاة إذا كان لا يؤديها، أو بالصوم إذا كان لا يصوم، أو بالحج إذا كان لا يحج، أو بصلة أرحامه إذا كان لا يصلهم، لا أثر للموت والقبر فيه، فيترك شرب المحرمات من خمر أو دخان أو شيشة أو غيرها إذا كان واقعاً فيه، ويترك اكل المحرمات من ربا أو رشوة أو سرقة أو اختلاس من بيت مال المسلمين، أو راتب على عمل لا يقوم به كما أمر، فإذا لم يتعظ هذا بالموت وبالقبر فبأي شيء يتعظ؟ هل سيتعظ عند الاحتضار ورؤية الموت؟

لا ينفعه ذلك.

هل سيتعظ في القبر وفي الموقف العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين؟

لا ينفعه ذلك.

كفى -عباد الله- بالموت واعظاً لمن أراد أن يتعظ.

إن الموت بنقل الإنسان من دار إلى دار، من دار الممر إلى دار المقر، ولن يعود أبداً إلى الدنيا، فعدم الاتعاظ بالموت هو واقع كثير منا في هذا الزمان.

ولا سيبل إلى أخذ العظة من الموت إلا بالعلم الشرعي الذي يطرد الجهل؛ فالجهل بالله -عز وجل- وبشرعه سبب كبير وعظيم في الوقوع في هذا الأمر، ولا سبيل إلى أخذ العظة من الموت أيضا إلا بصحبة الأخيار الذين يذكرون الإنسان بالله -عز وجل- وبالدار الآخرة، ولا أضر على الإنسان من صحبة الأشرار الذين ينسونه ربه -سبحانه وتعالى-، والدار الآخرة.

ولا سبيل أيضاً إلى أخذ العظة من الموت إلا بالحرص على طاعة الله -عز وجل-، الواجب منها والمسنون، والحرص على قيام الليل الذي هو دأب الصالحين من عباد الله، الذين قال الله عنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة: 16].

روى أبو نعيم في الحلية: أن إبراهيم النخعي -رحمه الله- كان يقول: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت، عرف فينا أياماً؛ لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمر صيره إلى الجنة أو النار، وإنكم –يخاطب أهل زمانه- في جنائزكم تتحدثون بأحاديث دنياكم.

ومما نحن في غفلة منه أننا ننظر إلى الموت بذاته على الصفة التي ذكرت، لكن كثيراً منا لا ينظر نظر اعتبار إلى خاتمة الميت على أي حال جاءه الموت، هل جاءه وهو على تقوى وصلاح وهدى ورشاد؟ أم جاءه وهو على فسق وفساد وضلال وغي؟ هل جاءه الموت وهو على التوحيد الذي به النجاة -بإذن الله- من الخلود في دار الجحيم؟ أم جاءه وهو على شرك وكفر، الذي به يكون الخلود في دار الجحيم؟.

نسأل الله -عز وجل- حسن الخاتمة والمآل.

أنت يا ابن آدم على خطر في كل لحظة بأن تزل بك القدم، ويعثر بك الجواد، ما دام فيك نفس يتردد في هذه الحياة الدنيا فأنت على خطر من ذلك، لست في مأمن من سوء الخاتمة والمآل، فأنت ترى بأم عينيك، أو تسمع بأذنيك، أحوالاً عجيبة لبني جنسك، قوم كانوا قبل الموت فسقة وعصاة، ولم يأتهم الموت إلا وهم أهل صلاح وطاعة لله رب العالمين.

وقوم بعكسهم كانوا قبل الموت أهل طاعة وصلاح، ولم يأتهم الموت إلا وهم أهل فسق وعصيان.

قوم كانوا قبل الموت أهل توحيد لله رب العالمين، ولم يأتهم الموت إلا وهم أهل شرك وكفر بالله الحق المبين.

وقوم بعكسهم كانوا قبل الموت أهل شرك وكفر وجحود، ولم يأتهم الموت إلا وهم أهل توحيد وطاعة واعتراف.

ونحن -عباد الله- في زمن عصيب كثرت فيه الفتن التي تصد عن ذكر الله، وكثرت فيه المحن التي تثبط عن طاعة الله، وكثرت فيه الشهوات التي توقع في معصية الله، وكثرت فيه الشبهات التي توقع في الكفر والشرك والتشكيك في دين الله، فكان المسلم اليوم على خطر من أن تزل به القدم، فكان لزاماً عليه أن يسعى إلى تقوية إيمانه بالله -عز وجل-، والثبات عليه إلى يوم الدين، وأن يتضرع إلى الله -عز وجل- بالدعاء بأن يثبته على دينه، ويعافيه من الفتن والشرور، وأن يختم له بخاتمة السعادة.

فلا ينبغي له أن يتساهل بالأمر؛ لأن عاقبة التساهل عاقبة وخيمة؛ ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك".

وأخرج مسلم في صحيحه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا".

فالواجب علينا: الاستعداد للموت قبل نزوله بنا، والحرص على أن تكون الخاتمة حسنة وكريمة، فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وقال له: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

وكان ابن عمر بعد ذلك، يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعل خاتمتي وخاتمتكم حسنة وكريمة.

أسأله سبحانه أن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: قد يقول قائل: ما الدافع الذي يجعلني أحافظ على ديني وطاعتي إلى أن ألقى الله؟

قلنا له:

أولا: تعلم أنك ميت، وأنك ستبعث وتسأل، فأعد لهذا السؤال جواباً.

ثانيا: اعمل بما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- جواباً على سؤال جبريل، حينما سأله عن الإحسان، قال عليه الصلاة والسلام: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

فإذا عبدت الله بهذه الحال، فلا أظنك ستعصيه، أو تقع في مخالفته، ولهذا لما جاء رجل إلى آخر، وقال: عظني وأوجز؟ قال له: "إذا أردت أن تعصي مولاك، فاعصه في موضع لا يراك".


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي