الغنى والفقر

محمد بن إبراهيم الشعلان
عناصر الخطبة
  1. تقدير الله للغنى والفقر وبعض حكم ذلك .
  2. حال الأغنياء والفقراء في العصر الحاضر .
  3. محاذير شرعية يقع فيها الأغنياء والفقراء .
  4. نصائح مهمة للأغنياء والفقراء .
  5. فضل التمسك بالإسلام في زمن الغربة .

اقتباس

لو سبرنا أحوالنا الأغنياء، وأحوال الفقراء في عصرنا الحاضر، عصر الحضارة والتمدن، وعصر التكنولوجيا والتقدم، كما يوسم من الذين تقدموا في الحضارة والتمدن، وتأخروا في العبادة والتدين، لو سبرنا أحوالهم لخرجنا منها بمفارقات وأحوال عجيبة، فطائفة من الأغنياء انخدعت بالثراء الذي...

الخطبة الأولى:

الحمد لله العلي العظيم، أحمده سبحانه وأشكره وهو الشكور الحليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع العليم، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الرسول الكريم.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته، إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

الله -عز وجل- يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدره على من يشاء منهم،كما قال سبحانه وتعالى: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد: 26].

يجعل هذا غنياً مستغنياً، ويجعل الآخر فقيراً مستجدياً، يجعل هذا في سعة من العيش، ويجعل الآخر في ضنك من العيش، وله في ذلك كله الحكمة البالغة.

ولو سبرنا أحوالنا الأغنياء، وأحوال الفقراء في عصرنا الحاضر، عصر الحضارة والتمدن، وعصر التكنولوجيا والتقدم، كما يوسم من الذين تقدموا في الحضارة والتمدن، وتأخروا في العبادة والتدين، لو سبرنا أحوالهم لخرجنا منها بمفارقات وأحوال عجيبة، فطائفة من الأغنياء انخدعت بالثراء الذي تمرغت فيه، وجهلت حكمة الله -عز وجل- فيه وفرحت به الفرح المذموم، فوقعت بسبب ذلك في محاذير عدة، من هذه المحاذير ما يلي:

أولا: جعلت هذا الغني وسيلة لإشباع الرغبات النفسية والجسدية والجنسية، فأنفقت على ذلك بلا حدود ولا تدقيق، وأمسكت عن الإنفاق منع على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله، ووجوه البر والاحسان، ومنعت حق الله -عز وجل- فيه من زكاة وكفارة ونفقة، فصار الغنى بلاء عليها، وفتنة وشر، وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شر فتنة الغنى، وفاتها خير عظيم، لو أحسنت صرف هذا  المال في وجهه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني".

المحذور الثاني: وقعت في الكبر المذموم، وهو بطر الحق، وغمط الناس، فردت الحق فلم نقبله، ولم تنقد له، واحتقرت الفقراء والمساكين، وتعالت عليهم، وجعلتهم محل سخرية وتنقيص.

المحور الثالث: وقعت في خلق الجحد والكفران لنعمة الله -عز وجل- وفضله، وفاتها خلق الشكر والعرفان لله الواحد الديان، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- عن نبيه سليمان -عليه السلام- لما أعطاه الله خيراً كثيراً وجئ بعرش ملكة سبأ إليه: (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].

المحور الرابع: وقعت في الغفلة عن مصدر سعادتها ونجاتها في يوم مصيرها الأبدي، ومقرها السرمدي، وهو الدار الآخرة، فلم تنتبه من هذه الغفلة إلا بعد فوات الزمن الكثير من عمرها، وبعد أن سبقها غيرها بالخير والأجر والحسنات، قال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].

المحذور الخامس: وقعت في الطغيان بأنواعه، طغيان في الإنفاق على النفس وشهواتها، وطغيان في الأخلاق والسلوك، وطغيان التمرد والاستعلاء والفخر، وطغيان الظلم والعدوان، وطغيان الجحد ومنع الحقوق والمماطلة بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6- 7].

وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج: 19- 22].

وقال عليه الصلاة والسلام: "مُطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته".

المحذور السادس: أن هذه الطائفة بفعلها هذا تكون سبباً كبيراً من أسباب الفساد في المجتمع، واختلال نظامه، وقد قال سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].

لأنها بذلك توغر الصدور عليها وعلى من يساعدها على ذلك، ولا يناصحها ويخوفها بالله -عز وجل، وتكسر قلوب الفقراء والمحتاجين، لكونها منعت حقهم في المال الذي أنعم الله به عليها.

المحذور السابع: فوات خير كثير عليها بتركها الإنفاق في مجال الدعوة إلى الله -عز وجل-، وذلك بترك الإنفاق على الدعوة والدعاة، وعلى طبع الكتب القيمة، والرسائل المفيدة، وإنشاء الدور التي تكون مقراً لأعمال الخير والبر، فيا ليت هذه الطائفة تدري بماذا جنت على نفسها ومجتمعها بسبب هذا الانخداع بالغنى والثراء، فتفوق من هذه السكرة، وتنتبه من هذه الغفلة، وتعود إلى رشدها وصوابها، وتعرف أن هذا الغنى قد يكون ابتلاء من الله -عز وجل- وفتنة، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].

وقال سبحانه ما دحا عباده المتقين بذكر صفاتهم ومنها الصبر في البأساء والضراء: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

وتعرف أيضا أن الله -عز وجل- يبتلي عباده الأغنياء بعباده الفقراء، ليرى من يعرف الفقير حقا وواجباً وقدراً، ممن لا يعرف له ذلك.

وطائفة من الفقراء اشمأزت من حالها ووضعها، وجهلت حكمة الله -عز وجل-، فوقعت في محاذير عدة:

المحذور الأول: إظهار السخط وعدم الرضى بفعل الله -عز وجل- وقضائه وقدره: "من سخط فله السخط".

المحذور الثاني: الوقوع في خلق الجزع والنفور، وقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19- 21].

المحذور الثالث: الحرص على كسب المال من أي طريق كان، فوقعت بسبب ذلك في مكاسب غير مشروعة، كالربا والرشوة والسرقة، وغيرها من وجوه المكاسب المحرمة، فجرت على نفسها وأهلها شراً ووزراً.

المحذور الرابع: إذلال النفس للأغنياء وإهانتها من أجلهم، والوقوع في التبذل والدناءة من أجل الحصول على المال منهم.

المحذور الخامس: أنهم بفعلهم هذا يكونون سبباً في ظهور الفساد في المجتمع، فساد في الأخلاق وفساد في المعاملات.

المحذور السادس: الغفلة عن المصير الأبدي، والمقر السرمدي، يترك أسباب النجاة والسعادة والكرامة والسيادة، وطرق أسباب الخسارة والشقاوة والذلة والمهانة.

فيا ليت هذه الطائفة تفوق من سكرتها، وتنتبه من غفلتها، وتعلم أن الفقر قد يكون ابتلاء من الله لها، وأن الصبر على البلاء من خلق المؤمنين، كما قال عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".

وتعلم أيضاً أن الفقر قد يكون أصلح لها من الغنى، فلو اغتنت طغت وتجبرت.

فوصيتنا لهاتين الطائفتين: أن تقوم كل طائفة بما عليها من الحقوق للأخرى، وأن لا تغتر طائفة الأغنياء بالغنى، وأن لا تجزع طائفة الفقراء من الفقر، فالله -عز وجل- له الحكمة البالغة، وله التصرف المطلق.

ولنحرص جميعاً على العلم الشرعي والفقه في الدين؛ لأن ذلك سبب للصلاح والاستقامة في جميع أمورنا وشئوننا.

الخطبة الثانية:

بعد المقدمة.

أخرج مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبي للغرباء".

وفي رواية قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس".

أفلا يجدر بنا -عباد الله- أن نكون من الذين لهم طوبى، فنصلح ما أفسد الناس من العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات؟

بلى يجدر بنا ذلك.

فلنتق الله -عز وجل-، ولنصلح أنفسنا أولاً، ثم نصلح أهلينا وأولادنا، ثم نصلح مجتمعنا، ففي ذلك خير ورشاد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي