عباد الله: عندما تبكي العينان، ويحزن الفؤاد، ويتلفت المرء فلا يجد له ناصرا ومعينا، فيرجع كئيباً حزينا، قد أُخذ حقه، أو تعدى على عرضه، أو وشي به إلى من له سلطة دنيوية عليه فعاقبه وحرمه من حق له، فماذا يا ترى ستكون حال هذا المظلوم وهذا المقهور؟ وصاحبه الذي ظلمه وقهره متحصن إما...
الحمد لله الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، وصاحب الشفاعة العظمى، والمقام المحمود في يوم المصير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واستعدوا ليوم ترجعون فيه إلى الله، فتبلى فيه السرائر، ويُحصل ما في الصدور، قال الله -عز وجل-: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 9- 10].
عباد الله: عندما تبكي العينان، ويحزن الفؤاد، ويتلفت المرء فلا يجد له ناصرا ومعينا، فيرجع كئيباً حزينا، قد أُخذ حقه، أو تعدى على عرضه، أو وشي به إلى من له سلطة دنيوية عليه فعاقبه وحرمه من حق له، فماذا يا ترى ستكون حال هذا المظلوم وهذا المقهور؟ وصاحبه الذي ظلمه وقهره متحصن إما بجاهه وقربه، وإما بماله وغناه، وإما بقوته وبطشه، ولا شك أن وقع الظلم على النفوس شديد، والقهر للرجال صعب وأليم، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من أن يظلم أو يُظلم، فقد أخرج النسائي في سننه، عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من بيته، قال: "بسم الله، رب أعوذ بك من أن أزل أو أُزل، أو أضل أو أُضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل عليّ".
وقد كان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من قهر الرجال، أي غلبتهم.
إن حال هذه المقهور، وهذا المظلوم، تختلف باختلاف المقهورين والمظلومين، فمنهم من يستطيع أن يرفع المظلمة التي وقعت عليه والقهر الذي ألم به إما بجاهه وإما بغناه وإما بقوته، ومنهم من لا يستطيع ذلك، هنا يتبين حسن العقل والحلم والعلم، وسوء الجهل والغضب والسفاهة، فأهل العقول الراجحة، والحلم الواسع، والعلم الشرعي، يتعاملون مع من ظلمهم وقهرهم، بالحكمة والصدق والصراحة والوضوح، فليسوا مثل ما يقول الشاعر فيه وفي قومه:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وليسوا كمن يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا فلعله لا يظلم
ليسوا كذلك.
وهم قسمان:
القسم الأول: قادرون على أخذ مظلمتهم بأنفسهم إما لجاههم وقربهم من ولي الأمر، وإما لمناصبهم وثرائهم، وإما بعشيرتهم وقبيلتهم، ولا يردهم عن ذلك أحد إلا الخوف من الله ومراقبته جل في علاه، ولكنهم لا يستعملون قدرتهم في أخذ مظلمتهم، ورفع القهر عنهم ما دام الأمر ليس عدوانا على نفس أو عرض أو مال، ولكنه بالتحايل والغش والخداع، إذ لو كان الأمر صيالة فهم لا شك سيدفعون من صال عليهم بالأسهل فالأسهل، وبالأخف فالأخف، وإن لم يندفع إلا بالقوة والبطش، ولكن موقفهم ممن يأخذ حقهم ويقهرهم بالتحايل والغش والخداع، هو أنه إن ردت إليهم مظلمتهم، ورفع القهر عنهم، بالوسائل المشروعة، والطرق الصحيحة، فذاك هذا أحب إليهم من رد الظلم بظلم، ورد القهر بقهر وغلبة، وإن لم ترد إليهم مظلمتهم، ويرفع القهر عنهم، ناصحوا من ظلمهم وقهرهم، وخوفوه بالله العلي العظيم، القهار الجبار، فإن نفع فيه ذلك، فهو أحب إليهم، وأرغب لهم، فإن لم ينفع فيه، وسطوا أهل الخير والجاه والمنزلة، فإن نفعت وساطته، وآتت ثمارها يانعة، فذاك، وإن لم تنفع وساطة أهل الخير والجاه، قاموا بمخاطبة ولي الأمر في من ظلمهم وقهرهم، فإن نفع فيه وإلا فإنهم يتورعون عن أخذ حقهم بالقوة والتعدي، لعلمهم بأن في ذلك افتياتا على ولي الأمر، وسببا من أسباب الفتنة والشر، ولكنهم يتوجهون حينئذ بقلوبهم ووجوههم وأيديهم إلى علام الغيوب، إلى العليم الحكيم، فيسألونه سؤال المضطر، وهو سبحانه قريب من عبده السائل والداعي، يسألونه أن ينتقم لهم ممن ظلمهم وقهرهم، وقد قال سبحانه وتعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62].
وقال جل وعلا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]
فهؤلاء حري أن يستجاب لهم فيمن ظلمهم وقهرهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار".
القسم الثاني: منهم من لا يستطيع ذلك لعجزه وضعفه، فليس لهم جاه ولا مناصب، وليس لهم عشيرة وقبيلة، فهؤلاء ليس لهم في رد مظلمتهم إليهم، ورفع القهر عنهم، إلا مناصحة من ظلمهم وقهرهم وتخويفه بالله -عز وجل-، فإن نفع فيه فذاك وإلا توجهوا بقلوبهم وأيديهم إلى علام الغيوب، فسألوه أن يرد إليهم مظلمتهم، ويرفع القهر عنهم، وينتقم لهم ممن ظلمهم وقهرهم، فهذا هو موقف أهل العقل والحلم والعلم ممن ظلمهم وقهرهم، وأما موقف أهل الجهل والسفه والغضب، ممن ظلمهم وقهرهم بالتحايل والغش والخداع والخيانة، فهو استعمال القوة والبطش تارة فيأخذون الحق بأيديهم بقوتهم وبطشهم، فهذا فيه افتيات على ولي الأمر وتعد عليه؛ لأن هذا من باب الفوضى، ولأنه يؤدي إلى فتن ومشاكل لا تنتهي، وربما كان الحق الذي أخذ منهم والقهر الذي نزل بهم يسيراً وليس كبيراً، فينتج عن رد المظلمة، ورفع القهر بالقوة والبطش مفسدة أكبر وأعظم وفتنة أشد وأكبر من تلك المظلمة، وهذا القهر، أو يقومون باستعمال التحايل والخداع والخيانة تارة، مع من ظلمهم وقهرهم، وهذه أخلاق فاسدة، وأعمال سيئة، لا يليق بالمؤمن أن يفعلها ويرتكبها لكون غيره ارتكبها وفعلها، فإن هذه الأخلاق تزيد الأمر سوءاً، وتجعل الناس يتمادون في أخلاقهم الفاسدة، وأعمالهم السيئة، وإليكم وإلى هؤلاء هذه القصة التي وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل ظلمه جاره وآذاه، فقد أخرج أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره، فقال له: "اذهب فأصبر" فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال: "اذهب فاطرح متاعك في الطريق" ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه: فعل الله به، وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع، فإنك لن ترى مني شيئاً تكرهه.
وفي رواية عن الطبراني: فكان كل من مر به، قال: ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني، قال: فيدعو عليه، فجاء جاره، فقال: رد متاعك فإني لا أوذيك أبداً، فلم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الجار يأخذ حقه، ويرفع الظلم عنه بالقوة والبطش، وإنما أرشده إلى تلك الطريقة التي فيها من التنبيه والتأديب لهذا الجار المؤذي ما فيها.
ونحن نقول للذين يظلمون الناس ويقهرونهم: اتقوا الله -عز وجل- وخافوه، واعلموا أنكم ملاقوه جل وعلا، فاحذروا أن تموتوا وأنتم مصرون على ظلم الناس وقهرهم، فإنكم إن فعلتم ذلك وأيسرتم واغتنيتم بهذا الظلم والقهر، فإنكم أنتم المفلسون يوم القيامة، واستمعوا إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
وإن سلمتم من القصاص والمحاسبة في الدنيا في حقوق الإنسان وأعراضهم، فإنكم لن تسلموا من القصاص والمحاسبة في الآخرة، يوم تقفون مع من ظلمتم وقهرتم بين يدي الله -عز وجل-، واستمعوا إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه".
فالنجاة النجاة قبل الوقوف بين يدي صاحب العظمة والكبرياء.
والتوبة التوبة قبل أن يغلق بابها، فلا ينفع الندم، ولا يجدي الاعتذار.
اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
اللهم إنا نعوذ بك أن تَضل أو تُضل، أو نَزل أو نُزل، أو نَظلم أو تُظلم، أو نَجهل أو يُجهل علينا.
بارك الله...
الخطبة الثانية.
بعد المقدمة.
عباد الله: ذكر أهل السير: "أن رجلاً ظلم رجلاً آخر وتمادى في ظلمه، وهذا المظلوم لا يقدر على دفع الظلم عنه، فذات يوم جاء هذا المظلوم إلى من ظلمة وتمادى في ظلمه عليه، فقال له كلمات هي في الحقيقة كلمات مؤثرة ومعبرة، ولها معانيها الكبيرة، أرجو أن تسمعوها -عباد الله- فمن كان منكم قد وقع في ظلم غيره وقهره، فليأخذ منها عبرة، ومن كان سالماً من ذلك فليأخذ منها فائدة، ولتكن له وقاية، قال له: يا أخي قد طاب ظلمك علي بأربع، قال ما هي؟ فقال: طاب لأن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والديان يفصل بيننا، فلما سمع هذا الظالم هذه الكلمات أثرت في نفسه، وأدخلت الخوف من ربه في قلبه، فقال له: والله لن ترى مني ما يسوؤك بعد اليوم".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي