العفو والصفح

أحمد عماري

عناصر الخطبة

  1. التعريف بصفتي العفو والصفح
  2. مكانة العفو والصفح في الإسلام
  3. فوائد العفو والصفح

الخطبة الأولى:

تحدثنا في الجمَع الماضية عن الصّلح ومكانته وضرورته في الحفاظ على وحدة المجتمع ولحمة الأسر؛ غير أنَّ ثَمَّة خلافاتٍ قد لا يُتَوصَّل فيها إلى رأْيٍ وسط، بل يَأخذ بالطرفين فيها العسرُ والشطط، وقد يحتدم النقاشُ ويرتفع اللغط، فيشرِّق هذا ويغرِّب ذاك، وتتسع الفجوةُ، وتتصل الجفوة، فيحتاج الداء إلى دواء، وتفتقر المشكلة إلى حلٍّ، وإنه لا علاجَ في مثل هذه المواقف أنجعُ ولا أنجح من علاجٍ تملكه نفوسٌ آمنتْ بالله وابتغتْ ما عنده، وتقبلُه قلوبٌ امتلأتْ بمحبة الخير للناس، وتتسع به صدورُ قومٍ مؤمنين؛ إنه العفو والصفح.

نعم، العفو والصفح، ونسيان ما تقدَّم ومَضَى، والتنازل عمَّا للنفْس من حقٍّ عند الآخرين، لا عن ضَعف أو خوَر، ولا بدافع من خوف أو جُبنٍ، ولكن رغبة خالصة فيما عند الله، وإيثارًا صادقًا للآخرة على الدنيا، وتفضيلاً لِمَا يبقى ويدوم على ما يَفنَى ويزول.

فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم ففيه الطمأنينة والسكينة، وفيه العزة وشرف النفس، وبه تكتَسَبُ الرّفعةً والمحبة عند الله وعند الناس؟

والعفو التجاوز وترك الانتقام. والصفح ترك التأنيب والعتاب، قال البيضاوي: "العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك لومه"، وقيل: إن العفو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه.

وللعفو -يا عباد الله- مكانة عظيمة لا يصل إليها إلا من جرّد نفسه لله، وجاهد نفسه، وكظم غيظه.

العفو والصفح أمر ربّاني: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109]، ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]، ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]، قال ابن تيميّة -رحمه الله-: "ذكر الله -تعالى- في كتابه الصّبر الجميل والصّفح الجميل والهجر الجميل. الصّبر الجميل هو الّذي لا شكوى فيه ولا معه، والصّفح الجميل هو الّذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الّذي لا أذى معه".

العفو أمر نبوي؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلمَ– قَالَ: "تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ" (أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إلي) (أخرجه النسائي وأبو داود والحاكم والدار قطني والبيهقي)، وأخرج الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ لِي: "يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ"، وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ فَلاَ يَقْرِينِي وَلاَ يُضَيِّفُنِي، فَيَمُرُّ بِي، أَفَأَجْزِيهِ؟ قَالَ: "لاَ، أَقْرِهِ" (أي أكرمه وأحسن ضيافته ولا تقابله بمثل فعله).

العفْوُ من صفات الله -عز وجل-، والعفوّ من أسمائه الحسنى، ومعناه: الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً﴾ [النساء: 43]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أن الله -تعالى- عفوّ كريم يحبّ من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتجاوز بعضهم على بعض؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَة القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قولي: اللهمّ إنّك عفوّ تحبّ العفوَ فاعف عنّي".

الله -تبارك وتعالى- هو العفوّ الذي له العفو الشامل، الذي وسع عفوه الورى، ووسع ما يصدر عن عباده من الذنوب، لا سيما إذا أتوا بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة.

وهو سبحانه العفوّ الغفور الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطرّ إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه.

والله -عزَّ وجلَّ- عفوّ كريم يحب العفو، ويحب من عباده أن يسعوا في فعل الأسباب التي ينالون بها عفوه، من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه.

ومن كمال عفوه سبحانه: أنه مهما أسرف العبد على نفسه، ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جُرمه وخطيئته؛ كما قال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وعن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".

وهو سبحانه الحليم الذي لولا كمال عفوه، وسَعة حِلمه، ما ترك على ظهر الأرض من دابّة تدِبّ ولا نفس تعيش: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [النحل: 61].

وهو سبحانه العفو القدير الذي لم يزل ولا يزال ينعم على جميع الخلق، ويعفو عن المذنبين والمجرمين، مع قدرته على عقابهم والانتقام منهم.

فسبحان المولى الكريم الذي يعفو عن زلات العباد، وذنوبهم العظيمة، ويُسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام، الصادر عن قدرته.

العفو خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين؛ فهذا يوسف -عليه السلام- فَعَلَ إخوتُه فيه ما حكاه الله -تعالى- لنا في كتابه، فلمّا مكّن الله له، وجاؤوا إليه يعتذرون؛ هل انتقم منهم؟ هل عذبهم كما عذبوه؟ هل ضربهم كما ضربوه؟ هل أهانهم كما أهانوه؟ أبدا، بل قابلهم بالعفو والصفح، والمعروف والإحسان: ﴿قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92].

وهذا نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- قد بلغ القمة والدرجة العالية في العفو والصفح، كما هو شأنه في كل خلُقٍ من الأخلاق الكريمة، فكان عفوه يشمل الأعداء فضلاً عن الأصحاب.

كان صلى الله عليه وسلمَ أجمل الناس صفحاً وعفوا، يتلقى من قومه الأذى والعداء فيُعرض عن لوْمهم أو تعنيفهم أو مقابلتهم بمثل عملهم، ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلق شيئاً منهم، عن أَبي عَبْدِ اللَّهِ الجَدَلِيّ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ"، وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".

وفي صحيح البخاري عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: "لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ صخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".

ومن أراد أن يتعرّف على صفة العفو في رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فلينظر في موقفه مع أهل مكة، الذين آذوْه وكذبوه وحاصروه وأخرَجوه من بلده مكة، حتى إنه صلى الله عليه وسلمَ وَقَفَ وهو ينظر إلى مكة فَقَالَ: "عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" لما أظهره الله عليهم، وتمكن من رقابهم في فتح مكة، لم يقابِل الشدّة بمثلها، ولا العنف بعنف مضاد، بل إنه عفا وأصفح، وقال قولته الشهيرة: "من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن".

عبادَ الله: العفو من سمات الصالحين، ومن صفات المتقين الأطهار الصادقين، الذين شرفت نفوسهم وطهرت قلوبهم وعلت عند الله مراتبهم؛ قال سبحانه وتعالى في وصفهم وبيان جزائهم: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾ [آل عمران: 133 – 134]، وقال سبحانه مبينا السبل التي تؤدي إلى تقواه: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [البقرة: 237].

فهؤلاء الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- الذين رباهم النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وغرس خُلقَ العفوِ والتسامح في نفوسهم، وإن قوبلوا بالصدّ والإعراض والقطيعة؛ فكانوا مثالا يُحتذى في العفو والصفح عمن أساء إليهم؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يستهزئ به رجل ويتهمه بالبخل والظلم فيعفو عنه ويصفح؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عنه ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن عُيَيْنَة بْنَ حِصْنِ بْن حُذَيْفَةَ دَخَلَ عَلى عمر فقَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ بْن قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ".

وهذا أبو الدرداء -رضي الله عنه- يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22].

وهذا أبو ذر -رضي الله عنه- يقول لغلامه يوما: "لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغِيظك. قال: لأجمعَنّ مع الغيظ أجرًا، أنت حرٌّ لوجه الله -تعالى-".

وهكذا كان أئمة السلف -رحمة الله عليهم أجمعين- متخلقين بهذا الخلق الكريم؛ فهذا الربيع بن خثيم -رحمه الله- شتمَه رجل، فقال له: "يا هذا، قد سمع الله كلامك، وإنّ دون الجنة عَقبَة، إن قطعْتُها لم يَضُرَّني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شَرٌّ مما تقول".

وهذا الإمام البخاري -رحمه الله- يقول له بعض أصحابه: "إنّ بعض الناس يقع فيك!"، لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومَن هم؟! أما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما قيلت له هذه الكلمة: "إن بعض الناس يقع فيك"، قال: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76]، وتلا أيضًا قوله تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر: 43].

وقيل لأحدِهم: إن فلاناً يقع فيك، ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرُك بسوء! فيقول: رجل صالح ابتلي فينا، فماذا نعمل؟! مَن تعدّى حدود الله فينا لم نتعدّ حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يُعذبَ أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك.

قيل لي قد أساء إليك فلان *** ومُقام الفتى على الذلّ عارُ

قلت قد جاءنا فأحدث عذرا  *** ودِية الذنب الاعتذارُ

أيّها المسلمون: عليكم بالعفو والصفح والتجاوز؛ فإنه لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة، وغواش الغِلّ، ونيران العداوة، وحسائِك الحقد، ومن أمسَك في قلبِه العداوة وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه.

وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً، يرجو الثواب والأجر من الله؛ لأنه عفا ولم ينتقم.

أما من انتصر لنفسه وانتقم لها فإنه يبيت مضطربا قلقا تراوده الهموم والهواجس؛ لعله قد تجاوز الحد واعتدى، فيقول: يا ليتني عفوت وتجاوزت وما انتقمت.

ويرحم الله الشافعي إذ يقول:

لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداوات

عباد الله: إن مكانة المؤمن أعزّ وأسمى مِن أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يعفو ويصفح، ويتجاوز ويتسامح، ويقابل الإساءة بالإحسان، لعلمه أن العفو خير؛ فوائده عظيمة، ونتائجه جليلة.

بالعفو تنال العزة والشرف؛ فلا تظن -أخي الكريم- أن العفو يَنِمّ عن ضعف وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان؛ فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاَ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ" ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا قِلَّةً".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله" (أخرجه مسلم)، وقيل لأبي الدرداء: من أعز الناس؟ فقال: "الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله –تعالى-".

وقال الشّافعيّ -رحمه الله-:

قالوا سَكتّ وقد خُوصِمْتَ قلتُ لهم *** إنّ الجواب لِبَابِ الشّرّ مفتاحُ

فالعفو عن جاهل أو أحمق أدبٌ *** نعَم وفيه لِصوْن العِرض إصلاحُ

إنّ الأسُودَ لتُخشى وهي صامِتة *** والكلبُ يُحْثى ويُرْمَى وهو نبّاحُ

حسن العاقبة؛ فالعفو أقربُ للتقوى، والصَّفح أكرمُ في العُقبى، والتجاوُز أحسنُ في الذِّكرى: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)﴾ [الشورى: 36 – 37].

فاحرصوا -رحمكم الله- على العفو عمن أذنب، والصفح على من أساء، فإن لذة العفو أطيب من لذة التشفّي؛ لأن لذة العفو يلحقها السرور وحَمْدُ العاقبة، ولذة التشفي يلحقها الندَمُ وذمّ العاقبة.

الخطبة الثانية:

عباد الله: مَن مِنا لا يريد أن تغفر ذنوبه؟ ومَن منا لا يريد أن يَكثر أجره وثوابه؟ ومَن منا لا يريد أن يَكثرَ أصدقاؤه ويَقلّ أعداؤه؟

السبيل إلى ذلك هو العفو والصفح والتجاوز، به تغفر الذنوب، وبه يعظم الأجر والثواب، وبه تنقلب العداوة إلى صداقة، والخصومة إلى مودّة وأخوّة.

بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة؛ فإنّ مجتمع المؤمنين لا ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات، والانتصاف لها في كل صغيرة وكبيرة.

وإنما ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الشرع، وحثّ عليه رب العالمين: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾ [فصلت: 34 – 35]، قال ابن كثير في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] أي إذا أحسنتَ إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك، والحنوّ عليك، حتى يصير كأنه وليّ لك، ﴿حَمِيمٌ﴾ أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك.

فشتان شتان بين الحسنة والسيئة، وبين الخير والشر، وبين العفو والانتقام؛ فإن السيئة إذا قوبلت دائما بالسيئة أوغرت الصدور، وأورثت الأحقاد، وأنبتت الضغائن.

أما إذا قوبلت السيئة بالحسنة أطفأت أوار الغضب، وهدّأت من فورة النفس، وغسَلت أدران الضغينة، فإذا المتعاديان يُصبحان صديقين حميمين متناصرين متآزرين، بكلمة طيبة، وبسمة حانية، بالتجاوز عن كل ما سلف وكان.

إنها لخصلة حميدة، وإنه لفوز عظيم لِمن دفع السيئة بالتي هي أحسن: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ [فصلت: 35] بكظمِ الغيْظِ وَاحْتِمَالِ الأذى، صبروا على الإساءة فعَفوْا وتجاوزا ابتغاء الأجر والثواب: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35] أي لا يوفق لهذا الخلق الكريم وَهذه الْخَصْلَة الشَّرِيفَة إلا ذو نصيب وَافِرٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: "الْحَظُّ الْعَظِيمُ الْجَنَّةُ"، وقَالَ الْحَسَنُ: "وَاللَّهِ مَا عَظُمَ حَظٌّ قَطُّ دُونَ الْجَنَّةِ".

فبالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة، ويتحول ألدّ الأعداء إلى وليّ حميم، وإلى صديق مُحِبّ؛ وهل تعلمون سببَ إسلام ثمامة بن أثال سيّد بني حنيفة؟ أسلم لمّا أحسن إليه النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وعفا عنه، بعد ما وقع في قبضة المسلمين، وقد كان شديد العداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ولمن معه من المؤمنين؛ ففي الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ ما بين الحجاز والعراق من أرض العرب، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ" فَانْطَلَقَ إِلَى نَخلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، وَلاَ وَاللَّهِ، لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-".

العفو يؤثر في القلوب القاسية، فيجعل المسيء نادما متأسفا على سوء فعله وتصرفه؛ فهذا عليّ بن الحسين -رضي الله عنهما- كلمه رجل فافترى عليه، فقال: "إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك" فقام إليه الرجل فقبل رأسه، وقال: جُعِلتُ فِداك، ليس كما قلتُ أنا، فاغفر لي. قال: غفر الله لك".

ولمّا سَبّ رجلٌ عبدَ الله بنَ عباس -رضي الله عنهما- ما ردّ عليه ولا أجابه، بل قال رضي الله عنه لمولاه عِكرمة: يا عِكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكّس الرجل رأسه واستحى.

ومرّ يهودي معه كلب على إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-، فجعل يستهزئ به ويسخر منه، قائلا: ألحيتك يا إبراهيم أطهر من ذَنَبِ هذا الكلب، أم ذَنَبُ الكلب أطهر من لحيتك؟ فماذا كان ردّ إبراهيمَ بنِ أدهم -رحمه الله-؟ هل خاصمه؟ هل سبه؟ هل ردّ عليه بالمثل؟ ما كان منه إلا أن قال (بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله -عز وجل-): "إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذَنَب كلبك، وإن كانت في النار لذَنَب كلبك أطهر منها" فما مَلك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء".

أيها المسلمون: لابد لنا أن نستخلص من كل ما سبق الدروس والعبر، لنعلم أن العنف يهدم ولا يبني، والشدة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض في القلوب إلى محبة صادقة فياضة.

ولستُ معاتبا خِلا لأني *** رأيت العَتبَ يُغري بالعقوق

ولو أني أوقف لي صديقاً *** على ذنب بَقيت بلا صديق

بالعفو والصفح تغفر الذنوب، وما أحوج العبدَ إلى مغفرة من الله الغفور الرحيم؛ يقول ربنا -سبحانه-: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: 14]، ويقول اللَّه -عز وجل-: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22] كان من جملة الخائضين في حادث الإفك "مسطح بن أثاثة" كان فقيراً من المهاجرين، وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يُنفق عليه لقرابته منه، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه؛ وقال: "وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ"، فنزلت هذه الآية، ينهاه الله –تعالى- فيها عن هذا الحَلِف المتضمّن لقطع النفقة عنه، ويَحثه على العفو والصفح، ويَعِدُه بمغفرة اللَّه إنْ غفر له، فقال سبحانه: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22] أي أنكم إذا عاملتم عبيدَه، بالعفو والصفح، عامَلكم بذلك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- لما سمع هذه الآية: "بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي"، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ.

وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَة فيَتَصَدَّقُ بِهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ" (أخرجه الإمام أحمد).

دخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فجعل يشكو إليه رجلا ظلمه، ويقع فيه، فقال له عمر: "إنّك أن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خيرٌ لك مِن أن تلقاه وقد اقتصصتها".

بالعفو يُنال الأجرُ والثواب: يقول سبحانه: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40]، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "من ترك القِصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو: ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40] أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: "فكان العفو من الأعمال الصالحة"، وقال السعدي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40] يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا.

وأما مرتبة الظلم؛ فقد ذكرها بقوله: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40] الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم، وأخرج الإمام أحمَد وأبو داود وابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أبيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذهُ، دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الْحُور شَاءَ".

بالعفو عمن أساء يُنال العفوُ من الله -سبحانه-؛ فالجزاء من جنس العمل، فمن عفا عَفا الله عنه، ومن صفحَ صفح الله عنه، ومن غفرَ غفر الله له، ومَن عامل العباد بما ينفعهم ولا يضرّهم، نال محبة الله ومحبة عباده، قال سبحانه: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة" (أخرجه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي).

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".

سامح صديقك إن زلّت به قدمٌ *** فليسَ يسلمُ إنسانٌ من الزَّلل

فتعافَوا بينكم -عبادَ الله-، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ اجعلوا العفو والصَّفح شعاركم وخلقا لكم في بيوتكم وشوارعكم ونواديكم وأسواقكم، اخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فسحةِ المُسامحة، ومن مَشقة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُوموا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه.


تم تحميل المحتوى من موقع