إنها المُجازفة والمُخاطرة التي تجعلُ لسانَ المرء وفعلَه مُتقدِّمَين على قلبِه وعقلِه، فيقعُ بسببهما في محاذِير يصعُبُ التخلُّصُ منها أيًّا كانت، حسِّيَّةً أو معنويَّة، بصورةٍ لا ينفعُ معها تلفيقٌ، ولا يُجدِي فتوقَها رُتوق. ولله، كم من لسانٍ تهوَّر، فاحتاجَ بعد ذلك إلى اعتذاراتٍ طويلةٍ لا يُجدِي كثيرٌ منها بعد فواتِ الأوان. وقد صدقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «ولا تكلَّم بكلامٍ تعتذرُ منه غدًا» ...
الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، نحمدُه - جلَّ شأنُه - على ما أولَى وأنعَم، لا نُحصِي ثناءً عليه هو كما أثنَى على نفسه.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه سيِّدُ الأولين والآخرين، وإمامُ الغُرِّ المُحجَّلين، تركَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المُؤمنين، ورضِيَ الله عن صحابتِه الغُرِّ الميامين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن هذه الدنيا دارُ ممرٍّ لا دارَ مقَر، وأن الله مُستخلفُكم فيها فينظُر كيف تعمَلون، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 35].
أيها المسلمون:
إن من أعظم ما يَزينُ المرءَ في حياتِه دينَه وعقلَه اللَّذَين أكرمَ الله بهما، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً؛ فبالدين يرتفعُ عما يُغضِبُ اللهَ ويُسخِطُه من معايِب الأخلاق وسفسافِها، وبالعقلِ يزُمُّ نفسَه عن كل ما يَشينُ تصرُّفاته وقراراته التي تثلِمُ صفةَ الأناة والرَّزانة، ووعيِ مُقدِّمات الأمور وعواقبِها.
ومن المُقرَّر - عباد الله - أن ترادُف الأحداث وتقلُّب الأمور بالضوائِق والعوالِق، وتعقُّد حِبالِها، ليس لها بعد حفظِ الله وتوفيقِه إلا التأنِّي وإعمالُ الفِكر في المُقدِّمات والعواقِب، وفيما ينبغي الإقدامُ عليه أو الإحجامُ عنه.
وإن عدوَّ ذلك كلَّه ومرضَه الذي ينخُرُ في عقلِ المرءِ، فلا يجلِبُ له إلا المعرَّة، والعودَ بالألَم فيما يطلُبُ منه السلامة، والإثمَ فيما يطلُبُ منه الأجر هو ما يُسمَّى بالمُجازفة، أو المُغامَرة، أو التهوُّر، أو المُخاطَرة، أو الإلقاء باليدِ إلى التهلُكة؛ إذ كلُّها تدورُ حول معنًى واحد، هو الإقدامُ على الأشياء جُزافًا دون روِيَّةٍ أو تمحيصٍ، بل بإفراطٍ يستنكِرُه أوساطُ العُقلاء من الناسِ لمُخالفته القُدرة على الصبر والأناة والحلمِ والحِكمة والفِطنة.
نعم، عباد الله:
إنه التهوُّر والطيشُ، واللامُبالاة، في الفكر، والسياسة، والإعلام، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية. إنها المُجازفة في المدحِ الذي يُعمِي صاحبَه عن العيب أو الذمِّ، الذي يقتُلُ الإنصافَ فيقلِبُ الحسنات سيئات.
نعم، إنها المُجازفة والمُخاطرة التي تجعلُ لسانَ المرء وفعلَه مُتقدِّمَين على قلبِه وعقلِه، فيقعُ بسببهما في محاذِير يصعُبُ التخلُّصُ منها أيًّا كانت، حسِّيَّةً أو معنويَّة، بصورةٍ لا ينفعُ معها تلفيقٌ، ولا يُجدِي فتوقَها رُتوق.
ولله، كم من لسانٍ تهوَّر، فاحتاجَ بعد ذلك إلى اعتذاراتٍ طويلةٍ لا يُجدِي كثيرٌ منها بعد فواتِ الأوان.
وقد صدقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «ولا تكلَّم بكلامٍ تعتذرُ منه غدًا» (رواه أحمد وابن ماجه).
إن المُجازفة والتهوُّر وأضاربَهما لا تحتملُ إلا وجهًا واحدًا، هو الذمُّ والتقريع، لتجاوُزها حدودَ المعقُول، وإنه لمن المُؤسِف حقًّا أن تلقَى صُورٌ من المُجازفات والمُخاطرات رعاياتٍ إعلاميَّةً تحظَى باهتمامٍ واسِع، للافتِخار بوُلُوجِ موسوعاتٍ قياسيَّة، أو بالحُصول على إعجابِ الجماهِير وانتِشار الصِّيت.
وكم هم ضحايا تلكُم التطلُّعات من الذين لقُوا حتفَهم في سبيل الوُصولِ إليها، فحِيلَ بينهم وبين ما يشتَهون، بعد أن ضربُوا صُورًا من الطَّيش اللامسؤُول بمركباتهم بالسُّرعة القاتِلة، أو التلاعُب والتفنُّن بمُغامراتٍ بهلوانيَّة مُلقِيةٍ إلى التهلُكة.
ناهِيكُم - عباد الله - عن المُغامَرة بحقوقِ الآخرين، في أموالهم وأعمالهم. فكم من مُغامِرٍ أخذَ أموالَ الناس مُتهوِّرًا باستِثمارها فيما ليس من تخصُّصه، أو قُدرته في وِردٍ ولا صدَر، ولا هو من بابَتِه، أغرَى من خلالِه من وَثَقوا به بمكاسِب تسيلُ لها جُيوبُ ذوي الأموال، فطاشَت أموالُهم بطَيش عقلِه وتهوُّر ذمَّته. ولا عجَبَ - عباد الله -، فإن المُجازفة بالشيءٍ عن جهلٍ هو كالعلمِ به.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناس يُريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله» (رواه البخاري).
إن من أدواءِ المُجتمعاتِ - عباد الله -: أن تكون الأُسرة أسيرةَ التعلُّق بالمظاهر، والتلبُّس بغير لَبُوسِها، فتُغامِرُ في تصنُّع بعض العوائِد الاجتماعية التي تعودُ عليها بالحمالات المالية، والأعباء الحقوقية، لأجل أن يُقال عنها: كذا وكذا.
فكم هي مُجازفات الولائِم والأفراح والبَذْخ! وكم هم الذين يقعُون ضحايا لتلكُم العوائِد التي ضرَّت ولم تنفَع، فركِبَت غيرَ مركبِها، واتَّكأَت على غير مُتَّكئِها. فكان من عواقبِها: الديُون، والطلاق، والخلافات الأُسرية، فضلاً عن إثمِ الإسراف والتبذير والبطَر، وحدِّثُوا عن مثلِ ذلكُم ولا حرَج.
وإن من أقبَح صُور المُجازفات - عباد الله -: ما كان منها مُتعلِّقًا بكرامةِ الآخرين وحقوقِهم، من خلال الاستِرسال بسُوء الظنِّ تجاهَهم، أو اتِّهام النيَّات التي لا يعلمُها إلا الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى، فيُلقُون التُّهمَ نحوَهم جُزافًا، دون بيِّنةٍ ولا إقامةِ حُجَّة، يظهرُ من خلالِها ابتِذالُ اللسان، وكثرةُ السَّلقِ به، واللامُبالاة بحقوقِ المُسلم تُجاهَ أخيه.
وإن مثلَ ذلكم الاستِرسال كفيلٌ - عباد الله - بالزَّجِّ بصاحبِه في الغلُوِّ المُردِي، والتشدُّد المَقيت، ليقعَ في فخِّ التضليل والتكفير، بمُجازفةٍ تُعمِيه عن تحقيق شُروطِه وانتِفاء موانعِه.
وما أكثرَ الذين ولَجُوا هذا البابَ المُهلِك، في حينٍ لو سألتَ أحدَهم عن عدَّة المُطلَّقة، أو قدرِ زكاةِ سبعين من الإبِل أو عشرٍ من البقَر لم يُحِر جوابًا!
بل وأعجبُ من ذلكم: أن يُجازِفَ بالتكفير من لا يعرِفُ شروطَ الدخول في الإسلام أصلاً، وذلك - لعَمرُ الله - من أقسَى البلايا.
ويا لله العجَب، كيف يُعرِّضُ المُجازِفُ نفسَه إلى تكفيرِ نفسِه؟! لأنه إن لم يقَع التكفيرُ موقِعَه عادَ على صاحبِه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما رجلٍ قال لأخيهِ: يا كافِر، فقد باءَ بها أحدُهما»؛ متفق عليه.
ألا فاتَّقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن الرِّفقَ ما كان في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وسلُوا اللهَ الثباتَ والعفوَ والعافية.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29، 30].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
وبعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار.
ثم اعلَموا - يا رحِمكم الله - أن الإسلام حين منعَ التهوُّر والمُجازفة، فإنه قد فرَّقَ بينهما وبين الحَزم والعَزم؛ فإن ثمَّة أمورًا لا يصلُحُ معها البُطءُ ولا التباطُؤ، وإن الحزمَ فيها والعزمَ لا يُعدَّان مُجازفةً ولا تهوُّرًا؛ بل هو إنزالٌ للأمور منازِلَها.
وما قِتالُ أبي بكرٍ الصدِّيق - رضي الله عنه - للمُرتدِّين إلا من هذا البابِ، رادًّا بذلكم على من ظنَّ أن قِتالَهم هو المُجازفةُ والمُغامرة.
إن الأمورَ الواضِحات - عباد الله - لا يصلُحُ لها إلا حزمٌ وعزمٌ لا يقبَلان التأجيل ولا التسويف.
فإذا كنتَ ذا رأيٍ فكُن ذا عزيمةٍ *** فإن فسادَ الرأيِ أن تتردَّد
فالله - جل وعلا - قد قال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159].
فالإسلامُ - عباد الله - دينٌ وسَط لا إفراطَ فيه ولا تفريط؛ فإنه إذا منعَ المُجازفة من ناحية، فإنه قد حضَّ على العزمِ من ناحيةٍ أُخرى. وإذا ذمَّ العجلَة في أمورٍ كثيرةٍ، فإنه قد حضَّ عليها في بعضِ الأمور التي لا يسَعُ تأخيرُها أو التوانِي عنها، وربما كانت المُجازفةُ مُتمثِّلةً في ترك الحزمِ ذاتِه. والعاقلُ هو من يُدرِك ما لهذا وما لتِلك.
ومن الخطأ البيِّن: ظنُّ بعضِهم أن الحزمَ والعزمَ يعنِيان الشدَّة أو القسوَة، والحقيقةُ أنهما يعنِيان إعطاءَ كل ذي حقٍّ حقَّه من المواقِف؛ فللشدَّة موضِعُها، وللِّينِ موضِعُه.
وما ضرَّ الأمةَ في كثيرٍ من شُؤونِها إلا عدمُ التفريقِ بين المُغامَرة والعَزم، فوضعَت التراخِي موضِعَ العَزم، ووضعَت المُجازفة موضِع التراخِي، فأخطأَت تقديراتها حتى كثُرت أخطاؤُها، وترادَفَت حلقاتُ خسائِرِها، فاضطرَّت إلى رُتوقٍ باهِظةٍ لتغطِية فُتوقِها.
وإن في الأيام والأحداث لعِبرًا وعِظاتٍ، والسعيدُ من وُعِظ بغيرِه، فقادَته فِطنَتُه - بعد توفيقِ الله - إلى سواءِ الصراط، (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور: 46].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأمركم به أيها المؤمنون، فقال - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمرنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رِضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالهم في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن مع جنودِنا المُرابِطين في الثُّغور يا حي يا قيوم، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم اربِط على قلوبهم، اللهم اشدُد أزرَهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي