كلمةٌ باتت تتردد على السماع كثيراً, لا يكاد يوم يمر إلا وقد مرت هذه المفردة البشعة, وطرقت الآذان, كم كدّرت من خاطر, وآذت من مؤمن, وفتحت من باب شرّ, كم هدمت من بيت, وهتكت من ستر, الابتزاز, مصطلحٌ بات يشكل خطراً, وموضوعٌ صار مؤرقاً, وبرغم...
الحمد لله الملك القهار، مقدر الأقدار, ومكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار, تسبح له السموات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، وإن من شيء إلا يسبح بحمده, وكل شيء عنده بمقدار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, لا يعزب عنه شيء, ولا يخفى عن علمه شيء في السر ولا الجهار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
صَعِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر يوماً فنادى بصوتٍ رفيع، فقال: "يا معشرَ من أسلم بِلِسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عَوراتهم؛ فإنّه من تتبَّع عَورةَ أخيه المسلِم تتبَّع الله عَورتَه، ومن تتبَّع الله عَورَته يَفضَحه ولو في جوفِ رحلِه".
كلمةٌ باتت تتردد على السماع كثيراً, لا يكاد يوم يمر إلا وقد مرت هذه المفردة البشعة, وطرقت الآذان, كم كدّرت من خاطر, وآذت من مؤمن, وفتحت من باب شرّ, كم هدمت من بيت, وهتكت من ستر, الابتزاز, مصطلحٌ بات يشكل خطراً, وموضوعٌ صار مؤرقاً, وبرغم تعدد صور الابتزاز, وكثرة ضحاياه, إلا أنه لا يزال مجهولاً لدى الكثير منا, فدعونا نلج هذا العالم, ونحاول التعرف على طرف من هذه الأمور.
الابتزاز، هو القيام بالتهديد بكشف معلومات معينة عن شخص، أو فعل شيء لتدمير الشخص المهدد، إن لم يقم الشخص المهدد بالاستجابة إلى بعض الطلبات.
الابتزاز محاولة الحصول على مكاسب مادية أو معنوية عن طريق الإكراه من شخص, ويكون ذلك الإكراه بالتهديد بفضح سر من أسرار المبتز.
إذن, فالابتزاز له صور عدة, فثمة ابتزاز مالي, وابتزاز وظيفي, ومعلوماتي, لكننا اليوم نريد أن نتحدث عن الابتزاز العاطفي إن صحت التسمية, والذي يسعى فيه المبتز لنيل مراده عن طريق فخ العاطفة, فيظل يجرجر ضحيته, لينال من الضحية مراده.
هذا الابتزاز -يا كرام- هدمٌ للفضائل، ونشرٌ للرذائل، وعبثٌ فاجرٌ بالأعراض، واستغلالٌ وضيعٌ لظروف وسذاجة وأخطاء البعض من النساء، دون اعتبار للقيم، ومُثُل الإسلام.
واليوم قد باتت مراكز الهيئات تنادي بأعلى الصوتِ المصلحينَ والمربينَ أن يوعوا عن هذا الابتزاز العاطفي الذي تتعرض له الفتيات, موقفٌ صدر منها, أو كلامٌ تفوهت به لشابٍ, عبر وسيلة من وسائل التواصل, هاتفٍ, أو غيرهِ من وسائلَ استجدت, أو ربما رسالة, أو صورة تحصّل عليها منها, أخطأت هي ذلك وزلّت, تحسّ بعده بالذنب, لكن هذا الشاب قد نال مراده, وحصّل بغيته, فيظل يضغط ويبتز, كي يحصل على ما يريد, مالٍ, أو فحش, أو غير ذلك.
تقاوم البنت في أول الأمر, فيضغط عليها الشاب, ويضيق عليها الخناق, يهددها إن لم تحقق مراده بما لا تحمد هي عاقبته, يهدد إما بفضيحة, وتشهير, أو إخبار أهل أو غيره, عندها يحصل الإذعان والاستلام, وتلبيةُ المراد, خشيةَ الافتضاح, ويظلُ الأمرُ يتكرر, ويستفحلُ, وصاحبُ الشرِ لا يقفُ عند حد.
ذلكم هو الابتزاز بصورة مبسطة, لكنه والله قضية مؤرقة, وربما نحن لبعدنا عن هذه المستنقعات قد لا نتصور مداه, ولا ندرك حقيقته, لكن سلوا من اكتوى بناره, وسلوا أعضاء الهيئات, ينبئونكم عن أثره وخطره.
وبلمحة موجزة لتتبين فداحة الخطب, فقد تتبعتُ كلام عدد من المستشارين الأسرين, وتواصلت مع عدد من أعضاء الهيئات, وكلهم قال: بأن الابتزاز لم يعد قضية صغيرة, بل بات مشكلةً مقلقةً, وكلهم ذكر بأنه يأتيهم قضايا شبه يومية تشيب لها الرؤوس على حد تعبيرهم, وأما مشروع الحماية من الابتزاز في أحد مراكز التوجيه بالرياض فقد صرحت مديرته لإحدى الصحف المحلية بأن المشروع سجل أكثر من عشرين ألف فتاة تعرضن للابتزاز، وذلك خلال ستة أشهر فقط منذ انطلاقة المشروع, بواقع 100 اتصال يومياً، ورئاسة الهيئات تصرح أن القضايا بازدياد [تحقيق في جريدة عكاظ].
وآخر الأخبار: هيئة القصيم تحرر امرأة من ابتزاز دام عشر سنوات حصل منها على مليونٍ ونصفٍ, وهذا بعض ما ظهر للإعلام, والقضايا أضعافُ ذلك, ولولا تكدير الأسماع لحدثتكم ببعض الوقائع, وكفاك من شرٍ سماعه.
معشر الأحبة: الكثير من الناس لا يحبون الحديث في مثل هذه الأمور, ولكن التغافل عن مثل هذه القضايا, والتعامي عنها, لا يعالج, بل يزيد الأمر انتشاراً, والشر استفحالاً.
لماذا تقع الفتيات في مثل هذا الشَرَك؟ وكيف تُستغفل في مثل هذه الأمور؟
الأسبابُ كثيرة, فدعونا نشير لبعضها، يأتي في مقدمة الأسباب: ما انفتح على الناس من وسائل تواصل، فتحت البيوت على مصاريعها للناس, وصارت تنقل عبر تقنياتها وبرامجها الصورة والحدث, ولئن كنا نعاني من تناقل الصور سابقاً، فالأمر الآن انفتحت أبوابه, وتوسع الناس جداً في تصوير ذواتهم, وحركاتهم, ويومياتهم, وتلك استخدامات جلبت شروراً, وإذا جمعت مع هذا وجود سراق ومبتزين يجيدون التعامل مع هذه الأمور, فإن الأمر قد يسبب الكوارث.
وكم من فتاةٍ تساهلت بوضع صورتها عبر أحد البرامج, ولربما بعثت بها لصديقاتها فحسب, فوقعت في يد غيرهم, فصار يبتزها بذلك.
أيها المسلمون: والفجوة في الأسرة بين الوالدين وبناتهم وأبنائهم, فتخلو المشاعر من عاطفة ومشاعر, واحتواء, في حين أن البنت ربما أوهمها الإعلام أنه لا بد من حب وتقارب, فلربما رفع صاحب الشر عَلَم العاطفة والإغراء, فاصطاد عن طريقه بالحيلة والإغواء.
وحين نتوسع في إيجاد الخصوصية للبنات والأبناء, وإبعادهم عن أنظار العائلة, فإن ذلك أمرٌ ليس كل الناس يحسن التصرف فيه, فالمرء قد يضعف إذا كان لوحده, ولو كان كبيراً عاقلاً, بله الفتاة والشاب, بخلاف وجوده أمام الأنظار, فذاك يردعه ويزعه.
معشر الكرام: وما أحكم الشرع حين نهى عن نزع المرأة ثيابها خارج بيتها, فذاك أمرٌ سبّبَ قضايا ابتزاز عديدة, وقد صرّح مسؤول رفيع في رئاسة الهيئات أن كثيراً من قضايا الابتزاز للنساء تأتي من قِبَلِ "المشاغل النسائية" حين تخلع المرأة ثيابها فتُصَور بدون علمها ممن لا خلاق لها, لتبدأ عملية الابتزاز.
أيها المسلمون: وتعريضُ المرأةِ لمخالطة الرجال, إن في الأسواق, أو عند التواصل مع الدوائر ومدارس الأبناء، أو غير ذلك, في حينِ أن الأبَ بعيدٌ غائبٌ في أعماله, ربما أوقعها في براثن مفسدٍ يستغل الضعف الفطري, وليس يخفى أن خلط النساء بالرجال في الوظائف والأعمال فتحَ بابَ ابتزازٍ كبير, وصدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "ما خلا رجل بالمرأة إلا كان الشيطان ثالثَهما".
وحين تتساهل الفتاة بالتواصل مع الرجال بحجة الترويح, أو العبث, أو التغيير, فذاك بداية خطر, ونذير شر, وربما كان لقرينات السوء سبب بارز في المعضلة.
وتبقى التقنية الحديثة بأنواعها من إنترنت وجوال، وبرامج تواصل؛ سببٌ من أظهر أسباب الابتزاز المعاصر، حينما يُتعاملُ معها تعاملاً منفتحاً، بلا زمام ولا خطام.
كل هذه الأسباب وغيرُها قد أسقطت فتياتٍ في هذا الابتزاز من قِبل قوم لا يرقبون في عفيفة ديناً ولا ذمّة, فكان نِتاجه عوراتٌ هتكت, وأموالٌ انتهبت, وحالاتُ طلاقٍ أو عنوسةٍ وإعراضٍ عن الزواج وجدت, وصدماتٌ نفسية, واضطراباتٌ كالقلق والخوف, وعزلةٌ وبعدٌ عن مواجهة الأسرة, إلى غير ذلك من آثار.
ويبقى الكلام المهم -يا كرام-, والأمر الملح على الدوام كيف المخرج من هذه البلية؟ وكيف يؤخذ بأيدي من صار هذا شبحاً يهدده؟
أما إن ثمة نساءً كثيرات يتواصلن مع المستشارين وأعضاءِ الهيئات ينادين بإنقاذهن من هذا الأمر, وربما أسرتها لم تعلم, شابٌ أمسك عليها بصور, أو باتصال أو برسائل محادثة, فظل يأخذ منها ما يريد, وإن أبت هددها بالفضيحة, فتظل هي تريد أن تداوي الأمر فتزيده داء.
وما أحوجنا جميعاً للتعاون تجاه هذا البلاء، ورد عاديته, وهذا ما نشير له في الخطبة الثانية -ان شاء الله-.
أستغفر الله لي ولكم..
أيها المؤمنون: توعية الأسرة لأبنائها وبناتها مهمة بشأن الشرّ الموجود في هذا العصر, فكثير من القضايا كان سببها قلة التوعية, فإذا تورطت في علاقة مع شاب ندمنا ولات ساعة ندم.
فيأيها الولي: قد نحتاج لمكاشفة أبنائنا وبناتنا وأخواتنا في معنى الابتزاز, معنى الفاحشة, معنى اللواط، لنحذرهم، ونحذرهن بذلك من جلساء السوء، ومن مواقع السوء، ومن طرائق أهل السوء.
ومهم -يا أيها الأولياء- أن توعى البنت بأهمية المصارحة لأمها أو لأبيها, في كل أمورها, كي تجرؤ حين تبلى بمثل هذا –حمانا الله وإياكم- أن تصارح ليعالج الأمر في مبادئه.
أيها الولي: اعط أولادك الثقة, ولكن لا بد من المتابعة لهم, فهذا من حقهم عليك في هذا الزمن، وأمام طوفان المستجدات, اضبط أوقات الدخول والخروج قدر الإمكان, من يصادق ابنُك, ومن تصادق ابنتُك, ليس ذلك شكاً بهم, بل بغيرهم, ولا خوفاً منهم, بل عليهم.
حذِّرْهم من تصوير أفراد العائلة, فربما سُرِق الجهاز أو وقع في يد غريب ممن لا يخاف الله, فانتهز الفرصة.
تلمّس حاجاتِ أبنائك وبناتِك المادية, كن معهم كريماً من غير إسراف، سخياً من غير تبذير، ولا يكن المبتزون المجرمون أكرم منك.
علّقهم بالخالق, ونمِّ في النفوس مراقبة الرقيب -سبحانه-, فالمخلوق ينسى, والأب يغيب, والبشر يغفلون, وتبقى مراقبة الله إذا حيت في القلوب أبلغ من كل رادع.
يا أيها الأولياء: قولوا لبناتنا, وأخواتنا: بأن للشرور أبواباً، فإياكِ أن تفتحي على نفسك باب شرٍّ، فلربما عَسُرَ إيصاده, وتعذر ردّه, قولوا لها: لا تصدقي شاباً يقول لك بمعسول المقال بأنه يريد الحديث والترويح, وأن قصده شريف, وأنه العاطفي العفيف, لا تثقي بمن يستنطقكِ برسالة, أو يطالبك ببعث صورة, أو يوهمك بقصده البريء.
وقولوا لها: إذا بليت أن لا تخافَ من التهديد, ولا تنساق للتخويف, فجلّ من قُبض عليهم بهذه القضايا لا يتممون ما به هدّدوا؛ لأنهم لو فعلوا فالعقوبة عليهم أكبر, إذ القضية قضيتان, ابتزاز وجريمة معلومات, والمحاكم تضرب اليوم بحمد الله بيد من حديد من يسقط بمثل هذه القضايا.
قولوا لها: أن هيئاتِ الأمر بالمعروف مصدرٌ آمنٌ -بإذن الله-, فرائِدُهُم الستر, ومقصدهم الخير, وهمّهم ردُّ شرِّ عوادي الابتزاز, ووسائلُ البلاغ سهُلت, والحزم في الخلاص من الابتزاز خير من التمادي في السكوت.
وخلاصٌ يتم اليوم, وإخبارٌ لفردٍ يُسهِم في الفكاك من الابتزاز, خيرٌ من صمتٍ تعقبه فضيحة لا تُتَدارك, وخيرٌ أيضاً -والله- من فضيحة يوم العرض.
معشر الكرام: وعلى المصلحين من معلمين ومعلمات, وكتّاب، وغيرهم، دور في التوجيه والوقاية, إن في المدارس, أو في المراكز الاجتماعية, أو في المنابر الإعلامية, ومما يذكر ويشكر: اعتماد بعض إدارات التعليم لجاناً لمكافحة ابتزاز الفتيات.
أما ذلكم الشاب الذي استغلّ غفلة وزلة أخته المسلمة: فإننا نقول له: اتق الله، وتذكر أن الله -عز وجل- مطّلعٌ عليك، وكما للناس أعراضٌ يخشون عليها, فلك عرضٌ تخاف عليه وتخشى، فأين الغيرة والحميّة على أعراض المسلمات؟! وقد قيل: أصل الدين الغيرة، فمن لا غيرة له لا دين له.
ومن وضع نُصب عينه قولَ ربه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب 58].
خاف من غَدِه, وتذكر أنه إن أفلت في دنياه فلن يُفلِت من ربه, فأين يذهب من آذى مسلمةً؟ أين يذهب من بات أبٌ يدعو عليه؟ وباتت أمٌ تسأل الله أن ينتقم منه؟ أين يذهب لصوص الأعراض, ولصوص الأموال أيضاً عن طريق الابتزاز من عقوبة من لا تخفى عليه خافية؟ وأين يذهب من انتقام الله الذي يغار, وغيرته حين يأتي المؤمن ما حرم عليه, ولأجل ذلك حرم الفواحش, وفي الصحيح: "َلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ".
فخادع من شئت, واختف عمن خِفْت, وآذ من أردت, لكن اذكر موقفاً لك بين يدي ربك, تشيب من هوله الرؤوس, فماذا ستقول له, ماذا ستقول له.
وبعد -معشر الكرام-: فهذه إشارة يسيرة لموضوع كبير, يستحق أكثر من ذلك بكثير, لم أوفه حقه, ولكن لعل إشارةً تغني عن كثير عبارة, وصدى حديثٍ أبلغُ من حديث, واليقين أن الأمر خطير, فحدِّث بما سمعت مَن ورائك ممن يكون الأمر يعنيه.
سلّم الله شبابنا وبناتِنا ومجتمعنا من شرور الابتزاز.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي