وإن من سعادة العبد في دنياه وآخرته أن يكون ذا قلب رحيم فبالرحمة يرحمه الله.. وإن من شقاوة العبد أن يكون ذا قلب قد نزعت منه الرحمة فلا تُنزع الرحمة إلا من شقي، وأولى الناس برحمتك أبوك وأمك، فبرحمتك لهم تبرهم، وتحسن إليهم، وتسارع في مرضاتهم، وتخفض لهم جناح الذل من الرحمة لا سيما عند كبرهم وحاجتهم وضعفهم، ثم تستمر رحمتك لهم بعد موتهم بالدعاء لهم والاستغفار لهم والصدقة عنهم وصلة رحمهم ..
أما بعد: فإن الرحمة وصف كريم وخلق عظيم، والله -تعالى- هو الرحمن وهو الرحيم، وصف نفسه بالرحمة في مواطن كثيرة من كتابه الكريم؛ فقال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:165]، وفي الصحيح "لما قضى الله الخلق كتب في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" متفق عليه.
والله -تعالى- أرحم بعباده من الأم بوليدها فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلَّب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" متفق عليه.
ولكنَّ رحمة الله -تعالى- تُنال بعد فضله بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، كما قال -تعالى- (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف: 165].
فليحذر المسلم من التمادي في المعاصي ركوناً منه إلى أن الله غفور رحيم فإنه كذلك شديد العقاب كما قال -تعالى- (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر: 49-50].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو نبي الرحمة كما قال عن نفسه: "أنا نبي الرحمة"، وهو المرسل رحمة للعالمين كما قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، وهو الرحيم بالمؤمنين كما وصفه ربه في قوله -تعالى- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
وإن من سعادة العبد في دنياه وآخرته أن يكون ذا قلب رحيم فبالرحمة يرحمه الله كما ثبت في الحديث "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي الحديث الآخر: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله".
وإن من شقاوة العبد أن يكون ذا قلب قد نزعت منه الرحمة ففي الحديث: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي".
فأولى الناس برحمتك أبوك وأمك، فبرحمتك لهم تبرهم، وتحسن إليهم، وتسارع في مرضاتهم، وتخفض لهم جناح الذل من الرحمة لا سيما عند كبرهم وحاجتهم وضعفهم، ثم تستمر رحمتك لهم بعد موتهم بالدعاء لهم والاستغفار لهم والصدقة عنهم وصلة رحمهم وأحبابهم.
ومن أولى الناس بالتراحم الزوجان قال -تعالى- في شأن الزوجين (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]، فبالتراحم فيما بينهم تظلهم السعادة وتبسط عليهم أكنافها وتظلهم بظلالها فيقوم كل منهما بالحقوق التي عليه بنفس راضية وهمة قوية، وبالرحمة يتغاضى عن كثير من النقص، ويتجاوز عن كثير من الحق الذي له حتى تستقيم الحياة الأسرية.
ومن مواضع الرحمة ومواطنها: الأولاد، ولا سيما في طفولتهم فهم من أحق الناس بالرحمة والرأفة واللطف ومن مظاهر رحمتهم الإنفاق عليهم وحسن رعايتهم وإظهار المحبة لهم بالتقبيل والتعبير عنه بالكلام فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذهب إلى البيت الذي يسترضع فيه ابنه إبراهيم فيقبله ويشمه. (رواه البخاري).
وكان يقبِّل الحسن بن علي؛ ابن بنته فاطمة -رضي الله عنهم-. وكان يحمل أسامة بن زيد والحسن بن علي ويقول: "اللهم إني أُحبُّهما فأَحِبَّهما" (رواه البخاري).
ومن أولى الناس برحمتك أقاربُك ذوو رحمك فالرحم مشتقة من اسم الله الرحمن من وصلها وصله الله برحمته ورضوانه، ومن قطعها قطعه الله، والعياذ بالله ففي الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللَّهُ: أَنَا اللَّهُ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ" (رواه أحمد والترمذي).
فتعاهدهم بالصلة والزيارة ومشاركتهم في أفراحهم ومواساتهم في أحزانهم كل ذلك من مظاهر الرحمة وآثارها.
ومن أحق الناس بالرحمة الخدم فلا يظلمون في أجرة ولا طعام ولا شراب ولا لباس، ولا يكلفون من العمل ما لا يطيقون. ومن رحمتهم العفو عنهم إذا غلطوا قدر الإمكان فقد سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- كم نعفو عن الخادم فسكت فسأله الثانية فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل يوم سبعين مرة" (رواه أبو داود والترمذي).
ولم تقتصر الرحمة في الإسلام على الإنسان بل شملت الحيوان البهيم، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصُّ علينا خبر امرأة بغي من بني إسرائيل، فتح الله لها أبواب رحمته وأبواب جنته فغفر لها وأدخلها الجنة؛ لأنها رحمت كلباً فسقته.
ويقص علينا -صلى الله عليه وسلم- خبر امرأة أخرى دخلت النار بسبب قسوة قلبها وجبروته حين حبست هراً حتى مات جوعاً وظمأ.
والمراد من هذه القصص أن نرحم الحيوان، وأن نتجنب تعذيبها وظلمها؛ فالله ينتقم ممن ظلمها ويرحم من رحمها.
اللهم ارحمنا برحمتك وعاملنا بلطفك وحلمك، واجعلنا من عبادك الرحماء إنك سميع الدعاء، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: فإن الرحمة الكاملة ليست الرحمة المحصورة بمن تربطك بهم علاقة من قرابة أو صداقة ونحو ذلك، ولكنها الرحمة العامة التي تشمل بها من تعرف ومن لا تعرف، ولذا قال البخاري: باب رحمة الناس والبهائم، وفي حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا". قالوا: بلى يا رسول الله، كلنا رحيم. قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكن رحمة العامة" (رواه النسائي في الكبرى والطبراني كما في المجمع).
فترحم الجاهل فتعلمه، والعاصي فتعظه، والكافر فتدعوه للإسلام، وترحم أهل بلدك ووطنك فتسعى فيما يصلحهم، وتتجنب فعل ما يضرهم في دينهم أو أخلاقهم أو أمنهم.
عباد الله: إن عقوبة الجاني وتأديب الولد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والقصاص؛ كل ذلك لا ينافي الرحمة، بل هو من الرحمة حتى تصلح أحوال الناس وتستقيم أمورهم ويكفوا عما لا يليق بهم فعله، بل إن خلق النار رحمة كما قال سفيان بن عيينة: "خلقت النار رحمة يخوف الله بها عباده لينتهوا" (أخرجه أبو نعيم في الحلية).
وهكذا تشريع الجهاد في الإسلام، والأمر بالشدة على الكفار، كل ذلك لا ينافي الرحمة؛ لأن المقصود من الجهاد في الإسلام هو إيصال دعوة التوحيد إلى الناس، فإن أسلموا صاروا إخواننا وإن أبوا الإسلام وقبلوا الجزية كففنا عنهم؛ لأنهم بذلك يعيشون في كنف المسلمين، ويمكنهم أن يطلعوا عن قرب على سماحة الإسلام وعدالته وكماله، فيكون ذلك داعياً لهم للدخول في الدين، وإن أبوا صاروا بذلك سداً منيعاً أن تصل دعوة الإسلام لمن وراءهم، فنستعين بالله على قتال من صد الناس عن دينه الذي خلقهم له.
ومع ذلك فأحكام الجهاد في الإسلام مبنية على الرحمة فلا تُقتل امرأة ولا صبي ولا شيخ كبير ولا مَنْ لا علاقة له بالحرب، وليس في الإسلام تمثيل وتعذيب بذبح الرقاب كذبح الشياه، ولا بقطع الأطراف والأعضاء ولا التحريق بالنار؛ كما يفعله اليوم باسم الإسلام من شوَّهوا الإسلام، ونفَّروا الناس عنه.
فالرحمة والغلظة كلها يجب أن تكون مضبوطة بضوابط الشرع لا منفلتة تتحكم فيها الأهواء والمقاصد والأغراض.
معاشر المؤمنين: صلوا وسلموا ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي