إن الله –تعالى- إنما رفع منزلةَ القوم بهذه المعاني التي قامت في قلوبهم، وصدّقتها ألسنتُهم ومواقفُهم، وأنهم لم يكونوا يقدّمون على قول الله ورسوله قولَ أحدٍ مهما كانت منزلته، ولا يَقبَلون الاعتراضات العقلية، ولا الأقيسةِ المعارضة لما صحَّ من هذه النصوص، بل يسلّمون بها وإن خالفتْ ما يحبّونه - بلْه ما يفهمونه - فتقبّلوها بقلوبٍ فارغة من كل غبَشٍ أو دخيلٍ يُشوّشُ على مطلق التسليم والتلقي؛ ليقوم بناءُ تصوّرهم خالياً من كل رواسب سابقة، سواءٌ كانت من رواسب الجاهلية، أو الظنون البشرية الفاسدة...
إن الحمد لله...، أما بعد:
فقد كان الحديث قبل جمعتين عن "عبودية التسليم"، والانقياد لأمر الله ورسوله، وأن حال المؤمنين هو الاستجابة الفورية دون ترددٍ ولا تلكؤ ولا تباطؤ، بخلاف حال المنافقين والكافرين، الذين سمتهم التردد والتباطؤ في ذلك كلّه، وذكرنا أن مرتبةَ الصديقيّة لا تُنال إلا على جسر التسليم، ومَن رامها بدونه فقد أخطأ الطريق.
ولتجلية موقف السلف من هذه القضية المركزية في الشرع؛ فإني ذاكرٌ بعضَ مواقفهم في تعظيم النصوص والتسليم لها؛ لندرك شيئاً من أسباب الذل والهوان الذي أصاب الأمة بعدَهم، حين ضعف عندهم مبدأُ التسليم والانقياد..بل هان أمرُ اللهِ ودينُه على كثيرٍ منهم! فهانوا على الله؛ فسلّط عليهم ذلاً لا ينزعه عنهم حتى يراجعوا دينَه.
لقد كانت تلك المواقف تحمل ترجمةً عملية لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين" (البخاري ح(15)، ومسلم ح(70).
فطبّقوا هذا مع أقرب الناس إليهم؛ فظهر شيءٌ من فضلهم، وعظيمِ منزلتهم التي بوأهم الله إياها..ومن تلك المواقف:
الموقف الأول: في قصة الثلاثة خُلِّفوا، لم يكن العجيبُ فقط هو التزام الصحابةِ رضوان الله عليهم هَجْر أولئك الثلاثة فحسب، مع أن بعضهم كان قريباً وصديقًا حميماً لبعض هؤلاء الثلاثة؛ ولكن العجب ازداد وعَظُمَ حين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ بعد مرور أربعين ليلة ـ أن يعتزل الثلاثةُ نساءَهم، فقال كعبٌ -رضي الله عنه-: "أطلّقها؟ أم ماذا أفعل؟" قال: "لا، بل اعتزلها ولا تقربها" (البخاري ح(4418)، مسلم ح(2769).
الله أكبر! إنه الاستسلام في أبهى صوره! لم يخطر ببال كعب أن يراجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله! ألم يكن هجرُ الناس لي طيلة هذه المدة كافيًا؟ أو لعلك تخفف هذه العقوبة! كلا.. بل بادر للسؤال عن اللفظ المجمَل الذي كان محتملا للاعتزال البدني، أو حل عقدة النكاح، وهو سؤال شخص يريد التنفيذ، وكان صادقاً؛ فجاءه الجواب الموضِّح، وارتقى بهذه الاستجابة العظيمة، ليكون قدوةً للصادقين إلى يوم القيامة، حيث أمرنا الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
الموقف الثاني: روى مسلمٌ في صحيحه، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنكريها بالثلث والرُّبع، والطعامِ المسمّى، فجاءَنا ذات يومٍ رجلٌ من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمرٍ كان لنا نافعًا - وطواعية الله ورسوله أنفع لنا - «نهانا أن نحاقل بالأرض...»(مسلم ح(1548).
فتأمل قوله: نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا! كم يحمل في طياته من ألوان التسليم والانقياد! والله لو كان ترْكهم له والحكمة خَافيةٌ عليهم لكان موقفًا جليلاً، فكيف وهم يعتقدون أنهم تركوا شيئاً نافعًا؟ ويتعلق بمصدر رزقهم - وهي الزراعة -؟!
الموقف الثالث: روى البيهقي بسند صحيح، أن سعيد بن المسيّب رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يُكثر فيها الركوع والسجود؛ فنهاه، فقال: يا أبا محمد! يعذبني اللهُ على الصلاة؟ قال: "لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة"(السنن الكبير للبيهقي (2/654) وسنده صحيح).
الموقف الرابع: المنقول عن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر -رضي الله عنه-، والذي يؤكد تشرّبه لهذا المعنى العظيم: أنه لما خَلَع أهلُ المدينة يزيدَ بنِ معاوية - بسبب ما وقع منه من ظلمٍ عظيم لأهل المدينة -، جمعَ ابنُ عمر حشَمَه وولدَه، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة"، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم أحداً منكم خلَعَه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه!( البخاري ح: 7111).
علّق ابن الخياط على هذا قائلاً: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كُرْها، وأين يزيد من ابن عمر؟! – أي: في الفضل والديانة -، ولكن رأى بدينه وعلمِه التسليمَ لأمر الله، والفرارَ عن التعرضِ لفتنةٍ فيها مِن ذهابِ الأموالِ والأنفسِ ما لا يخفى بخلعِ يزيدَ لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه، فكيف ولا يعلم ذلك؟
الموقف الخامس: روى مسلم عن عبد الله بن المغفل أنه رأى رجلاً من أصحابه يخذف، فقال له: لا تخذف؛ «فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكره - أو قال - ينهى عن الخذف، فإنه لا يصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر السن، ويفقأ العين»، ثم رآه بعد ذلك يخذف! فقال له: «أخبرك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف! لا أكلمك كلمة كذا وكذا»(مسلم ح: 1954).
الموقف السادس: يحكيه الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي فيقول: سمعت الشافعيّ وسأله رجلٌ عن مسألة, فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, فقال له السائل: يا أبا عبد الله! تقول به؟ فرأيتُ الشافعي أرعد وانتفض, فقال: يا هذا! أي أرضٍ تُقلني, وأي سماء تظلّني, إذا رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثاً فلم أقل به؟! نَعَم! على السمع والبصر, نعم! على السمع والبصر(الفقيه والمتفقه: 1/389).
الموقف السابع: ينقله تلميذُ الإمام أحمد أبو بكر المرُّوذي: قال لي أحمد بن حنبل: ما كتبتُ حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وَقد عملتُ به؛ حتى مَرَّ بي في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجمَ وأعطى أبا طَيبة ديناراً؛ فأعطيتُ الحجام ديناراً حين احتجمتُ. (المصدر السابق (ص: 243) لابن الجوزي).
فرضي الله عن أولئك الرجال حقّا، وجمعنا بهم في دار الكرامة.. ولحديثنا بقية..
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن السامع والقارئ لهذه النماذج المنقولة عن سلف الأمة يخرج بحقيقة ناصعة، وهي: أن الله –تعالى- إنما رفع منزلةَ القوم بهذه المعاني التي قامت في قلوبهم، وصدّقتها ألسنتُهم ومواقفُهم، وأنهم لم يكونوا يقدّمون على قول الله ورسوله قولَ أحدٍ مهما كانت منزلته، ولا يَقبَلون الاعتراضات العقلية، ولا الأقيسةِ المعارضة لما صحَّ من هذه النصوص، بل يسلّمون بها وإن خالفتْ ما يحبّونه - بلْه ما يفهمونه - فتقبّلوها بقلوبٍ فارغة من كل غبَشٍ أو دخيلٍ يُشوّشُ على مطلق التسليم والتلقي؛ ليقوم بناءُ تصوّرهم خالياً من كل رواسب سابقة، سواءٌ كانت من رواسب الجاهلية، أو الظنون البشرية الفاسدة.
يلّخص ابنُ تيمية - رحمه الله - منهجَ السلف في هذا الباب فيقول: "ومن الأصول المتّفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يُقبَل من أحدٍ قطُّ أن يُعارِض القرآنَ لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقولِه ولا قياسِه، ولا وَجْده...؛ ولهذا لا يوجد في كلامِ أحدٍ من السلف أنه عارَضَ القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووَجْد ومكاشفة، ولا قال قطُّ: قد تعارض في هذا العقلُ والنقلُ، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديمُ العقل! ولا فيهم مَنْ يقول: إن له ذوقًا أو وجْدا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآنَ والحديث...، ولم يكن السلفُ يقبلون معارضةَ الآية إلا بآيةٍ أخرى تفسِّرها وتنسخها؛ أو بسنةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفسرها؛ فإن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبين القرآنَ وتدل عليه وتعبّر عنه"(مجموع الفتاوى (13/28)ا.ه-.
فيا مَن تحب السلفَ وتريد أن تسير على طريقهم..هذا هو طريقُهم؛ فاسلكها، واجعل هواك تبعاً لما جاء به النصّ، وقُلْ كما قال الإمام الزهري: «مِن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم» (رواه البخاري: 9/154).
واحذر من أن تبرِّر لنفسك لوْيَ أعناقِ النصوص، أو تتبّع رُخَص العلماء لتجعلها موافقةً لهواك، ومُبَرّرةً لمخالفتك، فهذا إن نفعك عند الناس؛ فكيف تصنع إذا بُعثر ما في القبور وحُصّلَ ما في الصدور؟
اللهم ارزقنا تعظيم أمرك ونهيك.. اللهم اربط على قلوب المرابطين في الحدود،...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي