ولله درُّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. كم من مظهر شركي قضوا عليه وطمسوه! وكم من فتاة حصان رزان كادت أن يُدَنَّس عِرضها فأدركوها -بعد رحمة الله- في اللحظات الأخيرة! وكم من عائلة شريفة عفيفة حموها من تدنيس السمعة وتلطيخ الشرف! وكم من أطنان المخدرات ضبطوها! وكم من مصنع للخمور كشفوه! وأهرقوا ما فيه من خمر.. وكم ... وكم...!!
الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْزَلَ الْكِتَابَ المُبِينَ، وَأَوْضَحَ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَأَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَأَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ؛ ونتوب إليه ونستغفره.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ خَيْرِيَّةَ الْأُمَّةِ فِي بَيَانِهَا لِلْحَقِّ، وَاحْتِسَابِهَا عَلَى الْخَلْقِ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ) [آل عمران:110]؛ فَهِيَ أُمَّةٌ لَا تَتَوَاطَأُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا تَتَّفِقُ عَلَى الشَّرِّ، وَتَتَوَاصَى بِالْحَقِّ وَباِلصَّبْرِ، وَتَبْقَى خَيْرِيَّتُهَا مَا بَقِيَتِ الْحِسْبَةُ فِيهَا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بشيراً ونذيراً؛ فَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَأَمَرَ بِالْوَاجِبَاتِ، وَنَهَى عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَفَرَضَ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ؛ لِتَتَرَبَّى أُمَّتُهُ عَلَى أَتَمِّ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَأَزْكَى الْأَخْلَاقِ وَالمُعَامَلَاتِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد أيها الإخوة: كان النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يضرب بعض الأمثلة لتقريب المعنى للسامع وسهولة الفهم من ذلك قَولُه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً لأَصْحابِهِ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ [القائم فيها يعني: الذي استقام على دين الله فقام بالواجب وترك المحرم] وَالْوَاقِعِ فِيهَا [أي في حدود الله أي الفاعل للمحرم أو التارك للواجب] كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا [اقترعوا] عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا.. (رواه البخاري في صحيحه عَنِ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا).
أيها الأحبة: صورة عجيبة تلك الصورة التي تتمثل في النفس عند قراءة هذا الحديث.. إنها صورة حية موحية معبرة.. ويا له من جمال بديع في اختيار هذا التشبيه بالسفينة.. فالحياة كلها هذه السفينة الماخرة في العباب، لا تكاد تسكن لحظة حتى تضطربَ من جديد.. ولن تُكتبَ لها السلامةُ والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد..
والمجتمع كله هذه السفينة.. يركب على ظهرها البر والفاجر، والمتيقظ والغافل، وهي تحملهم جميعاً لوجهتهم.. ولكنها وهي محكومة بالموج المضطربِ والرياحِ من جانب، وما يريده لها الربان من جانب آخر لتتأثر بكل حركة تقع فيها، فتهتز مرة ذات اليمين.. وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الأفق أحياناً وربما رسبت إلى الأعماق..!
أيها الإخوة: وفي خضم الأحداث التي وقعت هذه الأيام، وما تناقلته وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماع من طرح فجّ من بعض الكُتّاب والمغردين -هداهم الله- حول شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، وواحدة من ضروريات الحياة السعيدة النظيفة للأمة؛ شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اتُّخِذَت غرضاً وهدفاً لاتهامات باطلة من بعض المتطاولين على العلم الشرعي، والذين يخلطون بين الشعيرة الدينية ومن يؤديها أو تؤدى عليه عن قصد أو غير قصد..
نقول لهم: إن شعائر الإسلام ثابتة وقائمة، والأمة مطالبة بإقامتها، ولو أخطأ الناس في تطبيقها؛ فلو أخطأ الناس في القيام بالصلاة مثلاً على خلاف ما أمر الله هل نقول للناس لا تصلوا وأغلقوا المساجد.. وكذلك في أي أمر من أمور الدين أو الدنيا إذا أُخطئا في تطبيقه أو ممارسته، هل نجعل الممارسة الخاطئة من بعض المنتسبين له سبباً في إيقافه وإلغائه!!
لا.. وألف لا .. لا يقول بهذا عاقل رشيد، وعلينا أن نفرق بين العمل ومن يعمل به..
فالمسلم الذي يعلم عظم هذه الشعيرة وأهميتها يقول: نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أمر بإنشائها ومساعدتها وحمايتها قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله -تعالى- جعل وجودها وقيامها بعملها سبباً للنصر منه والتمكين، قال تعالى: (.. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:40،41].
نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- ربط بقاء الدولة ببقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أحل لعنته –سبحانه- على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه، فقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78، 79].
نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأُمَّةَ لاَ يُنَجِّيهَا صَلاحُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، وَلا اسْتِقَامَتُهُمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ عُكُوفُهُمْ فِي المَسَاجِدِ، وَلاَ لُزُومُهُمُ المَصَاحِفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُصْلِحُونَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تعالى- عَلَّقَ نَجَاةَ النَّاسِ مِنَ العَذَابِ عَلَى وُجُودِ مُصْلِحِينَ فِيهِمْ فقال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]. وقال عز من قائل: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25].
ولا شك أن ظهور المنكرات سبب لهلاك الأمم وذهاب الدول وتسلط الأعداء.. وفي الصحيح عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا- قَالَت قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ.؟ قَالَ "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".
فالمعاصي والمنكرات سببٌ لغضب الله ومقته وعقابه، قال الله -تعالى- واصفاً بعض أحوال الأمم الهالكة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:6-14]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
نعم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها تعزز القيم الفاضلة للمجتمع وتمثل خط الدفاع الأول عن الأمة، وتسهم في بناء المجتمع بتعزيز الخير ودفع الشر، وهي أيضاً صمام أمان للمجتمع المسلم فكرياً واجتماعياً، لقيامها بتقليل الفساد ومحاصرته، فبركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في زجر المجرمين وتخويفهم يعني أمن المجتمعِ وسلامتِه..
أيها الإخوة: نعم لجهاز الحسبة وهي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها تمنع ظهور الأفكار المتطرفة؛ لأن وجود الفساد وظهوره، وجرأة المجاهرين بالمعاصي يستفز أهل الاستقامة؛ فإما أن يغيِّروا المنكر بأنفسهم وهذا ما لا تُحمد عقباه، ويفضي إلى مفاسد كثيرة، وإما أن يقوم بهذه العمل جهات رسمية مسئولة وفق نظام وجهاز إداري متكامل من المؤهلين تحت نظر الدولة وسمعها، يعزز فيها العمل الصواب، ويقوم المخطئ وبهذا نقطع الطريق أمام الأفكار والأعمال المتطرفة، ونقطع الطريق كذلك أمام أي اجتهادات غير منضبطة من بعض الغيورين أو المغرضين أو الضالين، تضر أكثر مما تنفع.
وبعد أيها الإخوة: الأُمَّةُ الَّتِي تَرْفُضُ الاحْتِسَابَ جَدِيرَةٌ بِالعَذَابِ، وَالأُمَّةُ الَّتِي تُحَارِبُ المُحْتَسِبِينَ يَضْعُفُ فِيهَا المُصْلِحُونَ، وَيَتَكَاثَرُ المُفْسِدُونَ حَتَّى تَحُلَّ بِهَا عُقُوبَةُ اللهِ -تعالى- وَنِقْمَتُهُ وَغَضَبُهُ، قال الله -تعالى- عن الأمم التي أهملت الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْض إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:116].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
أيها الإخوة: قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، تدل هذه الآية على أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ومعنى فرض الكفاية من إذا قام به مَن يكفي سقط عن الباقين، وإن قصروا أثمت الأمة جمعاء..
وقال سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].
أيها الأخ المبارك: أهل الحسبة يتحدثون باسمك، ويقومون بهذا الواجب نيابة عنك، ولئن تخلى هؤلاء وغيرهم ممن يقوم بهذا الواجب عنه؛ فسوف ينالك الإثم؛ لأنك من الأمة ومخاطب بهذا الواجب الشرعي.
أيها الإخوة: ولله درُّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. كم من مظهر شركي قضوا عليه وطمسوه! وكم من فتاة حصان رزان كادت أن يُدَنَّس عِرضها فأدركوها -بعد رحمة الله- في اللحظات الأخيرة! وكم من عائلة شريفة عفيفة حموها من تدنيس السمعة وتلطيخ الشرف! وكم من أطنان المخدرات ضبطوها! وكم من مصنع للخمور كشفوه! وأهرقوا ما فيه من خمر.. وكم ... وكم...!!
أقِلّوا عَلَيْهِمْ، لا أبَا لأبِيكُمُ، من اللّوم *** أوْ سدّوا المكان الذي سدّوا...
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي