علاج مشكلة الفقر (1) أسبابه وخطورته

علي باوزير
عناصر الخطبة
  1. شمولية الإسلام وعظمته .
  2. هل الفقر مشكلة؟! .
  3. الفهم الصحيح لأحاديث مدح الفقر والفقراء .
  4. ذم الفقر وبيان بعض مفاسده وآثاره .
  5. الفقر بوابة للكفر .
  6. أخطار الفقر على الأسرة والمجتمع. .

اقتباس

الفقر مصيبة ضررها عظيم وخطرها جسيم، الفقر خطر على الدين، خطر على العقيدة، كم من إنسان انسلخ من دينه وخرج عن عقيدته بحثًا عن المال؛ لأجل أن يسد فقره، ويدفع حاجاته! كم من مسلم تنصَّر وكم من سُنِّي تشيع؟! وكم من إنسان خالف مبادئه وقيمه وخرج عن إيمانه لأجل حفنة من المال؟! ما دفعه إليها إلا الفقر والحاجة. فالفقر من أهم أسباب الجهل، من أهم أسباب الأمية، من أهم أسباب التخلف، الفقر سبب لمعظم المشاكل التي يعيشها الناس، سبب للمشاكل السياسية سبب للمشاكل الاقتصادية، سبب للمشاكل الاجتماعية، سبب للمشاكل الصحية، سبب للمشاكل التعليمية؛ فالفقر بلاء...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد أيها المسلمون عباد الله: الإسلام دين عظيم جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ليدلهم على سبل الرشاد وعلى طرق الهداية، وعلى مسالك النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، جاء الإسلام ليحل مشاكل البشرية، ليزيل ويرفع ويخفف عنهم مشاق الحياة وأعباء هذه الحياة، فيعيش بذلك حياة طيبة في الدنيا مع ما ينتظرهم عند الله -سبحانه وتعالى- من النعيم المقيم.

كثيرًا من المشاكل -أيها الأحباب- التي يعاني منها البشر جاء الإسلام بأحسن الحلول وأفضل الحلول لها، ومن هذه المشاكل الكبرى التي جاء الإسلام بحلها "مشكلة الفقر"، هذه المشكلة التي أرَّقت البشرية كلها والتي يئن منها معظم الناس ويتوجعون ويتألمون في كل زمان وفي كل مكان، فهي مشكلة قديمة حديثة، وهي مشكلة حاضرة في واقع الناس وفي حياتهم اليومية.

حاول الناس أن يتخلصوا من هذه المشكلة، حاولوا أن يُوجدوا لها الحلول والمعالجات ولكن دون جدوى.

الإسلام -أيها الأحباب- جاء بأفضل الحلول وبأحسنها وأكملها وأنجعها، لكن قبل أن نتحدث عن هذه الحلول يحق لنا أن نتساءل سؤالاً مهمًّا: هل الفقر مشكلة وبلاء ينبغي أن يسعى الناس في رفعه وإزالته؟ أم هو قدر إلهي يجب على الإنسان أن يستسلم ويرضخ له ولا يعترض عليه؟

قد يتساءل بعض الناس هذا التساؤل خاصة، وأن البعض يسمع التكلم عن هذه القضية فيرغب في الفقر ويمدحه ويثني عليه ويصوره على أنه أمر مطلوب شرعًا، خاصة إذا سمع بعض الأحاديث التي تدل على فضيلة الفقر كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام"، واليوم من أيام الآخرة بألف عام.

وغيره من الأحاديث التي تدل على فضيلة الفقر، فيفهم البعض منها أن الفقر مطلوب ومرغوب شرعًا، وهذا التصور -أيها الأحباب- ليس بالتصور الصحيح ولا بالفهم السليم المستقيم؛ فإن هذه الأحاديث وأمثالها إنما يُرَاد منها بيان أن الفقر ليس بعيب وليس أمرًا يدعو إلى استنقاص أصحابه فلا ينتقص الفقراء لمجرد فقرهم، بل قد يكونون عند الله -سبحانه وتعالى- أفضل من كثير من الأغنياء.

هذه الأحاديث يراد منها كذلك تصبير الفقراء الذين يعانون من ألم الفقر الذي كتبه الله عليهم وقدَّره عليهم، فحين يعلمون أن هناك ثواباً عظيماً وأجراً كبيراً ينتظرهم عند الله إن هم صبروا واحتسبوا أجرهم عند الله؛ فإن هذا يدعوهم إلى تحمُّل آلام الفقر وإلى الصبر على متاعبه، خاصة -أيها الأحباب- وأن الفقير ليس عنده القدرة على المعصية كما هو الحال عند الغني فتكثر الآثام والذنوب عند الأغنياء بخلاف الفقراء.

وعلى هذا تفهم هذه الأحاديث، وليس المراد منها الحث على الفقر أو الترغيب فيه، كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه كان يستعيذ من الفقر، كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أظلم أو أُظلم".

تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين: كان -صلى الله عليه وسلم-يستعيذ فيقول "اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، ومن فتنة القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر".

يستعيذ من فتنة الفقر كما يستعيذ من فتنة الغنى، فالفقر بلاء، والفقر مصيبة، والفقر أمر مذموم لا خير فيه.

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه فيسأله أن يدفع عنه الفقر، كان في دعائه كما في الصحيح يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر"؛ هكذا كان يدعو -صلى الله عليه وسلم-.

ولهذا جاء الإسلام -أيها الأحباب- بتخليص الناس من الفقر، فالفقر بلاء، الفقر مصيبة ضررها عظيم وخطرها جسيم، الفقر خطر على الدين خطر على العقيدة، كم من إنسان انسلخ من دينه وخرج عن عقيدته بحثًا عن المال؛ لأجل أن يسد فقره، ويدفع حاجاته! كم من مسلم تنصَّر وكم من سُنِّي تشيع؟! وكم من إنسان خالف مبادئه وقيمه وخرج عن إيمانه لأجل حفنة من المال؟! ما دفعه إليها إلا الفقر والحاجة.

قال بعض السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك"، فالكفر قرين للفقر، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر؛ لأن الفقر بوابة للكفر".

وبهذا استطعت المذاهب المنحرفة والعقائد الباطلة والأديان المخالفة استطاعت أن تتغلغل في البلاد الإسلامية مستغلة حاجة المسلمين ومستغلة فقرهم، والعياذ بالله.

الفقر -أيها الأحباب- قد يشكك الإنسان -غير الموقن- في رحمة الله، يشكك الإنسان في عدالة الله وحكمته، حين يرى شخصًا من الناس قد أُعطي وأُعطي من المال وهو لم يعطَ من ذلك شيئًا، إن لم يكن مؤمنًا صادقًا، إن لم يكن مؤمنًا متيقنًا برحمة الله وعدله وحكمته وإلا فإنه سيشك في ذلك.

وهذا الذي جعل شاعرًا قديمًا يقول:

كم عالم عالم أعيت مذاهبه *** وكم جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي صيَّر الأذهان حائرة *** وصيَّر العالم النحرير زنديقا

تزندق لأنه لم يستطع أن يفهم هذه القضية لماذا يعطى فلان ولا يعطى فلان، أما المؤمن الصادق فإنه يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- حكم عدل لا يظلم أحد من الناس شيئًا يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، وما ربك بظلام للعبيد.

الفقر -أيها الأحباب- خطر على الأخلاق، خطر على القيم، خطر على المبادئ والسلوك، سبيل للانحراف، سبيل للضياع، حين يجد الإنسان ألم الفقر فإنه عند ذلك يكون مستعدًّا لفعل أي شيء.

حين لا يجد طعامًا يأكله، ولا يجد لباسًا يستره، ولا يجد مسكنًا يؤويه، حين يرى أولاده يتزاورون جوعًا أمامه، يتألمون من المرض، يتمنون ما يعجز عن تقديمه لهم، عند ذلك يكون مستعدًّا لفعل أي شيء، مستعدًّا لأن يقتل، مستعدًّا لأن يسرق، مستعدًّا لأن يزني، بأن يغش، بأن يخادع بأن يفعل أي شيء.

تعرفون -أيها الأحباب- قصة الثلاثة النفر الذين خرجوا فآواهم المبيت إلى غار، فهبطت صخرة فسدت باب ذلك الغار، فأخذ كل واحد منهم يدعو الله -سبحانه وتعالى- بأخلص عمل عمله لله؛ فكان منهم رجل ذكر أنه كان له ابنة عم وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء وراودها عن نفسها فأبت.

يقول وهو يحكي قصته قال: "حتى ألمَّت بها سنة من السنين"، ألمَّت بها حاجة وفقر، فجاءتني فطلبت مالاً، قال فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت.

امرأة شريفة امرأة عفيفة تمنعت من الفاحشة، ورفضت وأبت، ولكن دفعتها الحاجة إليها دفعًا، واضطرت إلى الموافقة على ذلك بسبب الفقر.

في الصحيحين قصة جميلة يرويها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل من بني إسرائيل تبين أثر الفقر في دفع الناس إلى الإجرام، وفعل الفواحش والموبقات.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه-: "قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل، فوجد امرأةً، فوضع الصدقة في يدها، فأصبح الناس يقولون: تُصُدِّق الليلة على زانية! فقال الرجل: الحمد لله! على زانية؟! لأتصدقن الليلة بصدقة. فخرج فوجد رجلاً، فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصُدِّق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوجد رجلاً فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصُدِّق الليلة على غني؟!"

فجاءه ملك في صورة رجلٍ، فقال له: "أما صدقتك فقُبلت، فأما المرأة الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله يخرج الذي عنده".

أكثر أهل الجرائم إنما دفعهم إلى سلوك طريق الجريمة الحاجة والفقر، فلو وجدوا ما يسد حاجاتهم ويكفيهم لتركوا هذا الطريق، ولتركوا هذا السبيل.

الفقر -أيها الأحباب- يغيِّر الأخلاق، يغيِّر السلوك، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من أن يستعيذ فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، أي الدين، والدين ما تلجئ إليه الحاجة والفقر.

فقال له قائل: يا رسول الله! ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف"، إذا ركبته الديون وصار مطالبًا بها أمام الناس اضطر إلى الكذب حتى يتخلص منهم، واضطر إلى أن يَعِدَ فيخلف مواعيده حتى يتهرب من الدائنين وكل ذلك بسبب الفقر، وقد أحسن من قال:

بلوتُ أمور الناس سبعين حجة *** وجربتُ صرف الدهر في العُسر واليُسرِ

فلم أرَ بعد الدِّين خيراً من الغنى *** ولم أرَ بعد الكفر شرّاً من الفقرِ

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.

وبعد -أيها الأحباب الكرام-: الفقر كذلك خطر على الأسرة، خطر على تكوينها وخطر على استمرارها وبقائها، فمن أكبر الموانع التي تمنع من إقامة الأسر وإنشائها "الفقر" هو الحائل الأكبر بين الشباب وبين الزواج مع غلاء المهور وارتفاع النفقات والتكاليف صار كثير منهم يعجزون عن الزواج فلا تتكون بذلك الأسر، فإذا تكونت الأسرة كان الفقر أيضًا مهدِّدًا لبقائها، مهددًا لاستمرارها، فمعظم المشاكل الأسرية التي توجد سببها ومنشأها يعود في كثير من الأحوال إلى الفقر.

المرأة إذا عجز زوجها عن النفقة عليها لها الحق بأن تطالب بفراقه، وأن تطالب بطلاقها وإن كانت غير كارهة له، ولكن تريد نفقتها، تريد طعامها وكسوتها.

الفقر -أيها الأحباب- دفع بعض الآباء إلى أن يقتلوا أولادهم يتخلصوا منهم حتى لا يتحملوا أعباءهم ولا نفقتهم، فعل ذلك أهل الجاهلية الأول فخاطبهم الله وعاتبهم وقال (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151].

ولكن حين يضعف اليقين ويضعف الإيمان، ويزداد الفقر عند ذلك قد يلجأ الإنسان إلى أن يفعل هذا بأولاده، وفي زماننا هذه وفي أيامنا هذه، بل وفي بلادنا هذه نسمع عمن يقتل أولاده، وعمن يتخلصوا منهم حين ترهقه نفقتهم، ولا يستطيع أن يوفر لهم حاجاتهم.

الفقر -أيها الأحباب- خطر على المجتمع يهدِّد استقراره، يهدِّد أمنه وسلامته، يهدد تماسكه وبقاءه، إذا نشأ الفقر من قلة الموارد وكثرة الناس فقد يصبر الفقير عند ذلك كسائر الناس، ولكن إذا نشأ الفقر من سوء توزيع الثروة وظلم الناس بعضهم على بعض، وتسلطهم على أموال وحقوق بعض، فعند ذلك لا يصبر الفقير ولا يتحمل مثل هذا الحال.

حين يوجد في الناس من يعيش في الأكواخ ويوجد من يعيش في القصور، حين يوجد من يموت من الجوع، ويوجد من يموت من التخمة، حين يوجد من هو أعلى درجات الثراء ويوجد من هو في أدنى درجات الشقاء، عند ذلك لا تسأل عن حال مثل هذا المجتمع.

يقول أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه-: "عجبت بمن لا يجد قوته في بيته كيف لا يخرج شاهرًا سيفه على الناس"، لا يريد أبو ذر أن يدعو إلى مثل هذا الفعل، ولكنه يتحدث عن واقع، وعن نتيجة طبيعية حين يفتقد الإنسان ضروريات حياته، حين لا يجد الطعام الذي يسد رمقه؛ عند ذلك تصير الحياة والموت عنده على حد سواء لا يجد شيئًا يخسره فلا يجد مانع من أن يخرج ويقاتل تحت أيّ راية، ولأجل أي هدف وغاية لا يهمه، فليس عنده شيء يخسره.

تعم الشحناء تعم البغضاء، تهدم أواصل المحبة والإخاء حين يوجد الفقير بجانب الغني ولا يلتفت إليه ولا يعطيه شيئًا مما أعطاه الله -سبحانه وتعالى-.

الفقر -أيها الأحباب- خطر على سيادة الأمة، خطر على استقلالها، حين لا يجد البائس المحتاج، حين لا يجد أن وطنه هذا قد أطعمه من الجوع أو آمنه من الخوف، فإنه لن يجد في قلبه ولاءً لهذا الوطن يكون مستعدًّا لبيعه بأبخس الأثمان ولأعدى الأعداء وحين تكون الأمة فقيرة تكون مرتهنة بأيدي الأغنياء.

الفقر -أيها الأحباب- خطر على العلم خطر على العقول، خطر على الأفكار حين يكون الإنسان مشغولاً بالبحث عن رزقه، وعن لقمة عيشه متى سيجد الوقت ليتعلم، متى سيجد الوقت ليدرس، أبناء الفقراء يُدفعون دفعًا إلى العمل لأجل أن يُوفروا حاجاتهم فلا يستطيعون أن يتعلموا ولا يتمكنوا من أن يدرسوا.

متى سيجد الإنسان وقتًا لأجل أن يفكر لأجل أن يعمل عقله والعمل يتطلبه ليل نهار ليوفر حاجاته ونفقاته، وقد أحسن من قال:

إذا قل مال المرء قل حياؤه *** وضاقت عليه أرضه وسماؤه

وأصبح لا يدري وإن كان حازماً *** أقدامه خير له أم وراؤه

يروى أن الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمهما الله- يروى أنه مرة دخل بيته فقالت له جاريته: نفذ الدقيق. فقال لها: "قاتلك الله لقد أضعت أربعين مسألة من الفقه"؛ بسبب هذه الكلمة فقط، حين أخبرته أنه ليس في بيته دقيق ليأكله، فمن أين يأتي العلم مع وجود الفقر والحاجة.

فالفقر -أيها الأحباب- من أهم أسباب الجهل، من أهم أسباب الأمية، من أهم أسباب التخلف، الفقر سبب لمعظم المشاكل التي يعيشها الناس، سبب للمشاكل السياسية سبب للمشاكل الاقتصادية، سبب للمشاكل الاجتماعية، سبب للمشاكل الصحية، سبب للمشاكل التعليمية وهكذا كثيرا من المشاكل تعود لهذا السبب.

ولأجل هذا وغيره جاء الإسلام ليخلِّص الناس من الفقر ليحل لهم هذه المشكلة العويصة التي استعصت عليهم على مر التاريخ.

ولا يسع المقام الآن لنتحدث عن هذه الحلول، ولكن نرجئ الحديث عنها إلى الخطبة القادمة، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرفع عنا الغلاء والبلاء والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي