رجل يريد أن يسجّل كل دقيقة وثانية عمل، همم في النيات، همم في الأعمال، همم في الأقوال، زيد بن أسلم يحدثنا عن رجل عجيب لكنه لم يكن عجيبًا في ذلك الزمن ولا غريبا في ذلك الرعيل. يقول زيد كان رجل يطوف على العلماء يقول: "من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله -تعالى- فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله. فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهُمَّ بعمله فإن الهامّ بعمل الخير كعامله". لله شأن النية؛ نية تبلغ بصاحبها عند...
الحمد لله المحمود بالأسماء والصفات الممدوح بكل اللغات على مجموع الحالات، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة وجاهد لله حق الجهاد، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
واهًا لريح الجنة! إننا لنجد ريح الجنة من خلف تلك الأيام، واهًا لريح رمضان!
مرحبًا أهلاً وسهلاً بالصيام *** يا حبيبًا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحبٍ مفعم *** كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا *** قلق أسهرنا جنح الظلام
والتالي يتلو الآي ينداح من فيه قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فيبعث الشوق والتحنان، والتالي يقرأ قول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 184]، فلا تملك العين ماءها ولا الروح إشراقاتها، ولا القلب أن يطير من بين الحنايا والضلوع.
شوقه أسكنه الله -عز وجل- أفئدتنا أسأل الله ألا يتحول وألا يتبدل.
مع إشراقة هذه الشمس، ومع بقاء أقل من 48 ساعة نتذكر أيها الإخوة حديث الطبراني من حديث محمد بن مسلمة أنه قال: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً"، لكننا مع هذه الشعارات نرفع شعارًا أعظم هو شعار قول الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) [التوبة: 46] بين يدي رمضان.
أيها الإخوة: لا بد أن نعد العدة وأن نتأهب الأهبة اللازمة لشرف هذا المقام العظيم وهذا الظرف الكبير.
لا أتصور أبدًا أن أحدكم قد جاء إلى الجمعة دون أن يغتسل أو يتطيب، أو يتنظف أو يتطهر، ورمضان حقيق له أن نغتسل، وأن نتنظف وأن نتطيب، وأن نتطهر، والله تعالى يكرر علينا المرة تلو المرة (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 21] .
هل سمعت قط إغراء كان أعظم أو أشد من قول الباري (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) [نوح:10]، (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر:49]، (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) [المائدة: 74].
فالأهبة إذاً أن نتوب من الذنب، وأن نتخفف من الخطأ لنطير، ونتعجل الخطى إلى الله تعالى، ونحن نقول بلسان الحال والمقال: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
يا كثير العفو عمّن *** كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو *** الصّفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء *** الضيف إحسان إليه
إننا نقول لله مع عبارات الاستغفار والاستعتاب والتوبة والندم نقول له:
أتيناك بالفقر يا ذا الغنى *** وأنت الذي لم تزل محسنا
ففي الجود لا أحد مثلكم *** وفي الفقر لا أحد مثلنا
قال أرباب السلوك العالمون بأحوال القلوب: لن تخف بالسير إلى الله -تعالى- بمثل الاستغفار، والتخفف عن الأحمال والأوزار التي قعدت بنا عن الطاعات وعبثت بنا أيما عبث، وتحرفت بنا في الزوايا والسبل (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) مع التوبة والندم والاستغفار لا بد من عقد العزم وتصحيح النية وإصلاحها؛ لأنه كما في الأثر وإن كان بسند ضعيف "نية المؤمن خير من عمله".
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن الحبيب المحبوب المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة".
هل تجدون أحد أجود من الله عطاءً أو أكثر منه وفاءً؟! حاشا.
مجرد الهمّ بالحسنة يأجرك الله -عز وجل- عليها، إذاً من الساعة نعقد العزم والنية على أننا سنفعل ونفعل، وسنقرأ ونختم، وسنصلي ونصوم، وسنتصدق ونبذل، وسنكون حيث يحب الله -عز وجل- من الأقوال والأفعال والأعمال، قال أبو الدرداء: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب الله له ما نوى"، زادت عائشة: "وكان نومه عليه صدقة".
أما حديث زيد بن أسلم فإنه يروي حادثة رجل يريد أن يسجّل كل دقيقة وثانية عمل، همم في النيات، همم في الأعمال، همم في الأقوال، زيد بن أسلم يحدثنا عن رجل عجيب لكنه لم يكن عجيبًا في ذلك الزمن ولا غريبا في ذلك الرعيل.
يقول زيد كان رجل يطوف على العلماء يقول: "من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله -تعالى- فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله. فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهُمَّ بعمله فإن الهامّ بعمل الخير كعامله".
لله شأن النية؛ نية تبلغ بصاحبها عند العرش، ونية لا تزال تحوم به حول الأنتان.
لله شأن النوايا؛ نية ترفرف بصاحبه إلى السماء وتصعد به صنو الجوزاء، ونيات تقعد بأصحابها عن العمل أو حتى عن مجرد الهم بالعمل.
يقول أبو كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصِلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء.." الحديث.
أبخل البخل أن تبخل بنيتك عن عمل الصالحات، إذا رأيت المصدّقين الذين سلّطوا أموالهم في الحق يهلكونه ويتلفونه ليلاً ونهارًا، فلا أقل من أن تتحرك نيتك فإن بالمدينة أقوام قعدوا عن الخروج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أقعدهم الفقر وجلست بهم المسكنة سجل الله -عز وجل- نواياهم: "إن بالمدينة أقواماً ما نزلتم وادياً ولا سلكتم شعباً إلا كانوا معكم في الأجر؛ حبسهم العذر".
لو كان لي مالاً لعملت فيه عمل فلان، صاحب الأوقاف، صاحب الصدقات، صاحب الأربطة، صاحب عيال أيتام، المطعمون الجائعين الذين يبذلونه وينفقونه على حبه فيطعمون مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، لا أقل من أن تتحرك نيتك فتقول: لو أن لي مالاً لعملت به ما عمل فلان (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً).
تذكر في سيرك إلى الله -تعالى- أنك لا تقدم شيئًا إلا أخذت أضعاف أضعافَ مقابله؛ لأن الله -تعالى- لا يضيع أجر العاملين (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7- 8]، (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40].
تذكر أيها السائر.. تذكر "إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".
إذا ليكن الشعار والدثار (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد *** حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
إياك أن تقول: شاق، إياك أن تقول: عسير، إياك أن تقول: صلاة طويلة، صيام طويل، ولكن قل: مستعين أنا بالله، اهدنا الصراط المستقيم، إياك نعبد وإياك نستعين، بعيدًا على كسلان أو ذي ملالة، فأما على المشتاق فهو قريب.
إننا نستقبل عبادة بقلوب مشتاقة لكن هذا لا يمنع أن عبادة الصوم فيها من الصبر ما فيها وفيها من حبس النفس ما فيها، لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ".
إذاً هو شهر الصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التسخط، والتشكي وعن الغيبة والنميمة، وحبس الجوارح على أن تعبس، إنه يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، تذكر عبارة "من أجلي" إنه يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي.
حين يضايقك في السير أحد فيقطع عليك إشارة أو يتجاوز من ذات اليمين، أو ذات الشمال تذكر "من أجلي" يدع طعامه وشرابه الحلال من أجلي، فما باله لا يدع الحرام!
إذاً هو شهر الصبر بمعاناته، بوقوفك في آناء الليل، بصبرك أطراف النهار، تذكر قول الله -تعالى- (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35].
وتذكر يا عبد الله أن الإمامة في الدين لا تُنَال إلا بالصبر واليقين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)، كثيرات هي العبارات، جميلات هي الجمل، لكن أيها الخطيب ضعنا في أول الطريق، كيف لنا أن نبدِّل رمضاننا برمضان آخر؛ رمضان الاجتهاد والعبادة، والصوم والصلاة، والبر والصدقة، وحبس النفس في المسجد..
أقول -رعاك الله- والكلام موجَّه لي قبل أن يوجّه لك: اصبر نفسك مع الرفقة الصالحة ومع الصحبة الطيبة التي تعينك على الخير وتؤيدك عليه (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].
هل نفس كانت نفس قط أزكى من نفس محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! هل رأت الدنيا همة أعلى من همته -صلوات الله وسلامه عليه- مع ذلك يأتيه الوحي يندح عليه (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) لا تنحرف عنهم لأهل الدنيا ولا لأهل الأهواء، قال الحسن البصري: "إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة".
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة *** ولكن إخوان الثقات الذخائر
فاشدد يديك بحبل الله معتصما *** فإنه الركن إن خانتك أركان
إذا عجز عليك أن تجد هؤلاء الثقات الناصحين، فلا أقل من أن تصحب أنفاس الذاهبين الذاكرين؛ عليك بسير أعلام النبلاء، اقرأ عن الحسن، اقرأ عن بشر الحافي، ماذا كان يصنع سفيان الثوري، أبو مسلم الخولاني أيّ شيء قال؟ قال: "أيظن أصحاب محمد أنهم يسبقونا إليه، والله لأسابقنهم عليه".
اقرأ ماذا كان يصنع أحمد، وكيف كان ليل الشافعي، ووضوء أبي حنيفة، وجهاد ابن تيمية؛ فإنه إن عز أن تجد الأفذاذ الثقات فإنك لن تعدمهم على رفوف المكتبات.
قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره".
قال وهيب بن الورد: "إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله -تعالى- فافعل".
ابن عمر كان إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوما وأحيى ليلة وأعتق رقبة.
بذكر هؤلاء تحيى منا العزائم وتستيقظ منا الهمم، والله -تعالى- قال لنبيه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ *** إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، وبلغني وإياكم رمضان؛ فإن قضى ألا يبلغنا رمضان فأسأله ألا يحرمنا أجر من صامه وقامه، آمين.
الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد: أظنك أيها المبارك وأظنك أيتها المستمعة أظنكم لم تعودوا تقرءون القرآن فقط لتؤدوا ختاماته أو لتعدوا حروفه وآياته، إنكم قد تعودتم سنوات بعد سنوات أن تقرءوا القرآن بقلب، ألا وإن من قرأ القرآن بقلب يقف عند هذه المفردة القرآنية التي ذيل الله -عز وجل- بها آيات الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) [البقرة: 183].
ثم (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ثم يختم الله -عز وجل- هذا التطواف مع الصيام بقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة: 186] ولا أدنى من العباد منه جل جلاله أقرب إلينا من حبل الوريد، أقرب إلينا من أنفسنا التي بين أضلعنا.
إذًا لماذا ذيل الله -تعالى- هذه الأحكام بهذه التذيلة العذبة الرطبة، إنه يدعونا على الدعاء ويحثنا عليه، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قد وعد وعدا الله لن يخلفه: "للصائم دعوة لا تُرَدّ" يا للعجب، للصائم في نهاره دعوة لا ترد والصائم قطعًا يؤدي سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليأكل أكلة السحر التي يقول فيها -صلى الله عليه وسلم-: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر "تسحروا فإن في السحور بركة"، وهذا الوقت يوافي وقت نزول الله -تعالى- حين ينزل الله إلى السماء الدنيا ينادي عباده "هل من داعي فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له" فالعجز كل العجز أن نعمر ساعات الليل والنهار بالدعاء.
ما أحوجنا للدعاء، حاجاتنا كثيرة جد كثيرة، يلومني بعض الذين يصلون في المسجد أنك تطيل في الدعاء في ليالي رمضان، فأقول لهم: إن حاجات العباد كثيرة، حاجات الأمة كثيرة، وحقنا أن نعرضها على الله -تبارك وتعالى- في مثل هذا الإقبال التي تقبل فيها القلوب على الله -تعالى-.
إذاً حاجاتنا كثيرة لما لا نقسمها على ليالي رمضان ونهاره، ونعرضها على من بيده قضاء الحاجات.
لا يفوتني أيها الإخوة أن أذكّر بجوع إخواننا في الصومال ثلاثة ملايين نسمة يهددهم شبح الجوع، يتمثل لهم الموت صباح مساء، أنا أنادي فيكم الآباء الذين يرون فلذات أكبادهم؛ هل تستطيع أن تصبر وأنت تسمع صوت صغيرك يصرخ أو يبكي يحتاج طعامًا إلا وتهب من نومتك أو قعدتك أو من شهي طعامك حتى توفر له طعامًا؟!
إنك تستطيع أن توفّر له الطعام، لكن الأب في الصومال يسمع هذا الصراخ ويجمع له بين حرين وبين عذابين؛ عذاب الجوع الذي يحسّه وعذاب جوع صغيره الذي لا يستطيع أن يقدم له شيئًا.
أليسوا بضعة منا؟! أليسوا إخواننا؟!
بالمناسبة الصومال مسلم مائة بالمائة لن تجد في الصومال طوائف ولا ديانات أخرى.
إذاً تربطنا بهم أعظم وشيجة وأحسن قربة وألمهم هو ألمنا، والجوع الذي يجدون في أمعائهم وأحشائهم إنما نجده أيضًا في أمعائنا وأحشائنا إذًا لابد أن نتحرك لهؤلاء.
ذكرت لكم في الجمعة الماضية أنه لا يعوزنا إلا شيء واحد لو كفل كل واحد منا أسرة في الصومال لم يبق في الصومال جائع واحد، كم تعداد السكان في المملكة أيها الإخوة؟ زيادة عن 18 مليون نسمة لو تكفل كل واحد منا بإعالة نصف أسرة لو اجتمع كل أربعة منا على كفاية أسرة واحدة لانتهى شبح الجوع والمسغبة في الصومال.
اللهم ارحم ضعف المسلمين وارزقهم من حيث لا يعلمون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي