يا كرام: ونحن في موسم الأضحية, ونحن نعدد صوراً من تضحيات الأمة, فما أحوجنا لاستلهام درس التضحية! أجل, التضحية مَعلم راقٍ, ودرسٌ عظيم, وعمل لا يتمثله إلا الكرام من الناس, فهل أنت مستعدٌ للتضحية؟...
الحمد لله المحمود بكل لسان, المعبود في كل زمان, المقصود من كل مكان, يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الديان, الرحيم الرحمن, خالق الإنس والجان, ومدبر الأكوان: (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, خاتم الأنبياء, وخير البرية, وسيد ولد عدنان, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولى النهى والعرفان، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقب الجديدان.
إبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن, أبو الأنبياء, سيد الأصفياء, إمام الحنفاء, ابتلاه ربه، بأن لم يرزقه الذرية إلا على كبر, ورزق بعدها بإسماعيل, شبّ الغلام فكان ملء سمعِ أبيه وبصرهِ, وخادِمَهُ وسنَدَه, بنى معه البيت, ورفعا القواعد, وكان لديه أغلى من كل أولاد الناس ولا عجب فهو الولد.
عندها جاء الامتحان الحق, والبلاء المبين, الأمر من رب العالمين, وأرحم الراحمين: يا إبراهيم اذبح ولدك؟ نعم اذبح ولدك, لم يكن هذا الأمر تلقاه إبراهيم من ربه كفاحًا, لا، ولا تلقاه من جبريل, كلا, بل كان رؤيا منام -ورؤيا الأنبياء وحي- فلا تردد ولا تلكؤ, عجبًا إسماعيل جمّارة القلب، وريحانة الفؤاد، يذبحه وبالسكين! لكنه أمر رب العالمين.
جاء إبراهيم على كبر سنه يحث الخطى إلى ابنه, ويقول له بكل ثقة وعزيمة: يا إسماعيل (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) هل يستشير الأب ابنه في ذبحه؟ كلا، بل كان مخبراً ومشعراً أن استعد, فما لأمر الله ردّ, لم يكن ردّ الابن بأغرب من موقف أبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) اصنع ما شئت, لن تجدني إلا مسلماً مذعناً، ولك على امتثال أمر الله معيناً: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102] عندها؛ استعد الأب وابنه، وأضجع الأب ابنه, هذا حدّ شفرته، وللجبين تلّه, وهذا أسلم لله أمره, بقيت ساعة الصفر, أن تتحرك السكين لتقطع منه الوتين, يا الله موقف لا كالمواقف! حينها, وفي تلك الأثناء, وقبل الذبح, ولما نجح إبراهيم في الابتلاء أن ليس في قلبه إلا ربه، ولا يزاحم حُبَّه لخالقه حُبّ, فلأجل الله يهون كل شيء, جاء الأمر من رب العالمين أن قد جُزت الابتلاء المبين, فأناله ربه جزاء تضحيته وسام خليل الرحمن, وفدى ابنه بالقربان, وقال الرحمن في محكم التبيان: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 104 - 107].
عباد الله: إن إبراهيم -عليه السلام- قد أبلى في تضحيته، فصار كما قال ابن القيم عنه: "ولده للقربان, وجسده للنيران, ومالُه للضيفان, فاستحق أن يكون خليل الرحمن، وهكذا يكون العظماء".
وجاء من بعده أقوام أبدعوا في التضحية, فنالوا من ربهم التزكية, محمد -عليه السلام-, كان يحب مكة كثيرًا, فهي بلدته التي عاش فيها وترعرع, ومع هذا ضحى ببلده في سبيل أن ينشر دعوته، ووقف عليها كما في الحديث، وقال: "والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت" لم يرده حب الديار عن همّ نشر الرسالة.
ومن بعد كل هذا ظلت أمة الإسلام أمَّة التضحيات, فكم قدمت من الشهداء؟ وكم بذلت من الأموال؟ وكم سطر أتباعها من البطولات؟ مضحين لأجل الله -سبحانه-؟
ولن يحيط محيط بتضحيات الأمة في عصر واحد، فكيف بمر العصور, ولكن دونكم اليوم درس في التضحية بل دروس, ها هو المسجد الأقصى من حوله قوم ضحوا براحتهم, وأمنهم, بل وبالدنيا كلها, ضحوا بكل هذا في سبيل أن يحافظوا على الأقصى من دنس اليهود, كم تُكبر تلك الحرّة الأبية, وذلك الفتى الصغير, والشيخ الهرم, يقف شامخاً بصدره أمام عشرات الجنود مستعلياً, مضحياً بكل شيء, ولا ينال اليهود من هذه البقعة التي باركها الله, ولعمري إنها لَصورةٌ من التضحية شامخة, حُقَّ للأمة أن تفاخر بها, فمن ذا الذي يضحي بحياته في سبيل أن لا يُدَنَّسَ بيتُ ربه.
الجنود المجاهدون في سبيل الله, في اليمن, وفي الشام, أمام الحوثيين والنصيرية والرافضة, سطروا أروع صور التضحية, حين ترى من يُقدِم وهو يقدم على الموت, خلّف من وراءه زوجة وأولاداً يرجون عودته, لكن العقيدة والدين أغلى من كل هذا.
ولعمري إن نفساً تضحي بكل هذا لهي نفسٌ كريمة.
نصر الله جنودنا والمجاهدين في اليمن والشام، وغيرها.
ألم تسمع -يا موفق- بمن ضحى بماله لنصرة المستضعفين, وسدّ جوعة اللاجئين, طفل يبذل مصروفه اليومي بعدما جمعه لأشهر، وامرأة تبيع جلّ ذهبها وتتصدق به, وتاجرٌ شاطر الفقراء في الشام ماله, وتلك صور لا تتناهى, سطّرت الأمة فيها منذ القدم وإلى اليوم؛ أروع صور التضحية, فالمال غالٍ, ولا يُضحّى به إلا فيما هو أغلى، وهو رضى الرب -جل وعلا-.
يا كرام: ونحن في موسم الأضحية, ونحن نعدد صوراً من تضحيات الأمة, فما أحوجنا لاستلهام درس التضحية!
أجل, التضحية مَعلم راقٍ, ودرسٌ عظيم, وعمل لا يتمثله إلا الكرام من الناس, فهل أنت مستعدٌ للتضحية؟
دعني إذن أقول لك: ثمة أمورٌ من حولك تحتاج لحزمِ حازمٍ, وتضحية عازم.
رُفقتك التي تؤزك للعصيان, وتباعدك عن الايمان, أَلِفوكَ وأَلِفتهم حتى صرت لا تفارقُهم, ليسوا أكرم من ابن إبراهيم, فضح بهم لأجل ربك وابقاءً على دينك.
وكم من امرئٍ ما ردّه عن الخير إلا رفقة الشر, وإن لم يضح اليوم بهم فربما قال غداً: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف: 38].
مكسبك الذي يدخل عليك من وجه محرم, إما ربا أو غيره, والله لن تجد فيه بركة دنيا, ولا ربح دين, مهما كثر, فضح به ارضاءً لمولاك, وتحرّ الحلال في ربحك.
راحتُك ضح بها في سبيل نشر دينك، وإسعاد الناس، وهداية الحيارى, فالدعوة والعلم يحتاجان منك لعناءٍ، ومفارقةِ الدعة, لكنها تضحيةٌ لأجل الأمة كلها, فطوبى لك.
ملذّاتك من سمع محرم, ونظر مذموم, وخطوة آثمة, وسيجارة محرقة, قد آن لك أن تضحي بها كلها, وإن هوتها نفسك, لأجل خالقك.
أجل -يا موفق- فما بالنا نضحي بأنعامنا, ولا نضحي برغباتنا المحرمة, وآثمنا الموبقة؟
لا تقل: اعتدت هذا الذنب، فلن أقدر على تركه! أحببت هذا الأمر فلن أطيق مباينته! فليس ذلك أحب ولا أغلى على إبراهيم من ابنه الذي أراد أن يضحي به لأجل أمر ربه -عليه صلوات ربنا وسلم-.
وبعد: فجميل أن تضحي بشاتك, وأجمل منه أن تجمع مع ذلك أن تضحي بكل خلّة مستكرهة, وخصلة ذميمة, تضحي بها لأجل ربك, وربُك يستحق منك كل شيء, فضح لأجله, وستجد أنه سبحانه هو الكريم حقاً, يعطي على القليل الكثير, ومن تقرب منه ذراعا تقرب الرب منه باعاً.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد.
حين تتحرك القلوب للحج شوقاً, وتدمع العيون أن لم يكن المرء من حجاج بيت الله الحرام, ويذوب قلبه، وهو يرى الجموع متجهة, والتلبية مرتفعة, والمشاعر ممتلئة, ويوم أن يكون لسان الحال:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مـِنًى بِقِيـَادِي *** هَيَّجْتُمُ يَـوْمَ الرَّحِيـلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي *** الشَّوْقُ أَقْلَقْنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
فليذكر القاعد: أن ربه أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، لم يترك القاعدين من أبواب الخيرات، قال ابن رجب: لما كان الله -سبحانه وتعالى- قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام, وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام, فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره, وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين, فمن عجز عن الحج في عامٍ قدر في العشر على عملٍ يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضلُ من الحج.
فيا من قعدتم في الديار: قد أبقى الله لكم خير أيام الدنيا, العشر كلها, مضى البعض وبقي مثله, فماذا فعلنا فيها.
بين أيديكم أشرفُ يومين في الدنيا: عرفة, ويوم النحر.
أما عرفة، فالصوم والذكر والدعاء, يومٌ تكفر به خطايا سنتين, وساعات أغلى من الذهب, فمغبون مغبون من فرط فيها: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ".
قال ابن رجب: "يوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدًا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد منهم موسم الحج ومن لم يشهده لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة".
في يوم عرفة أكثر من الدعاء، ف "خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ".
في يوم عرفة أكثر من التكبير، فذاك هدي الصالحين من أسلافك -رحمهم الله-.
في يوم عرفة أكثر من قول خير القول, ولك في المصطفى -عليه السلام- الأسوة: "خَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي -أي في عرفة-: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ".
يا من بقيت فلم تحج: ستدركُ يومَ النحر, وخاتمةَ العشر, وأفضلَ أيام الدهر في حق القاعدين, والذي قال فيه سيد المرسلين: "إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ" [رواه أبو داود]، ففيه تقرب لربك بصلاة العيد, فلتلك الصلاة فضيلة شريفة, وبذبح الأضاحي إن قدرت, فلن تتقرب إلى الله يوم النحر بشيء أحب إليه من ذبح الأضاحي، وإراقة الدماء.
وفي حديث عائشة مرفوعاً: "ما عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا" [رواه الترمذي بسند فيه كلام].
وبعد: فكم من جالسٍ حبسه العذر وما جلس الحجاج مجلساً، ولا ارتقوا مرتقاً, إلا وهو معهم في الثواب, وفضل الله واسع, وقد قال صلى الله عليه وسلم في أشد الغزوات مشقة: "إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا نزلتم وادياً إلا كانوا معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر".
فمن فاته في هذا العام القيام بعرفة، فليقم لله بحقه الذي عرفه, ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبيِّت عزمه على طاعة الله وقد قرّبه وأزلفه, ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم لله بحق الرجاء والخوف, من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح أضحيته هنا، وقد بلغ المُنى, ومن لم يصل إلى البيت؛ لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت، فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد.
اللهم تقبل من الحجاج حجهم, ومن أهل الأمصار ضحاياهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي