الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
شرفُ العلم بشرف المعلُوم، وأشرفُ العلوم وأزكاها العلمُ بالله، والحاجةُ إلى معرفته - سبحانه - وتعظيمه فوق كل الحاجات؛ بل هي أصلُ الضرورات، والله فطرَ عبادَه على محبَّته ومعرفته، والقلبُ إنما خُلق لذلك، (
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)
[الروم: 30].
وهي الحنيفيَّةُ التي يُولَدُ عليها كلُّ مولودٍ، وشياطينُ الجنِّ والإنسِ يسعَون لحرفِ فِطَر الخلق، قال الله في الحديث القُدسي: «
خلقتُ عبادي حُنفَاء كلَّهم، وإنهم أتَتهم الشياطينُ فاجتالَتهم عن دينهم»؛ رواه مسلم.
وكلُّ مُسلمٍ مأمورٍ بتعاهُدِ فِطرته لتعود المُنحرِفةُ إلى أصلِها، ويزدادَ الذين آمنوا إيمانًا.
والله أقامَ آياته دليلاً على ربوبيَّته وإلوهيَّته، ولو كان ماءُ البحر مِدادًا وجِيء ببحورٍ تمُدُّه لما نفِدَت كلماتُ الله وآياتُه الدالَّةُ عليه.
والرُّسُل بُعِثوا لتقرير الفِطرة وتكميلِها، وتوحيدُ الربوبيَّة بإفراد الله بأفعاله أعظمُ ما جاؤُوا به، فهو أصلٌ من أصول الإيمان، وأحدُ أنواع التوحيد الذي لأجله خلقَ الله العبادَ، وهو دليلٌ على وحدانيَّته في الإلوهية، وبه احتجَّ الله على إفراده. والشِّركُ فيه أعظمُ وأقبحُ أنواع الشِّرك، ولا يغلَطُ في الإلهيَّة إلا من لم يُعطِه حقَّه.
والله - سبحانه - كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، ومن صفاته - جلَّ شأنُه - الربوبيَّةُ لا شريكَ له فيها، كما لا شريكَ له في إلوهيته، قال تعالى: (
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)
[الأنعام: 164].
وهو - سبحانه - المُتفرِّدُ بالخلق والمُلك والرِّزق والتدبير، خالقٌ ولا خالقَ معه، بديعُ السماوات والأرض، خلقَ فسوَّى وأحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَه وهو الخلاَّقُ العليم، وكما بدأَ الخلقَ سيُعيدُه يوم القيامة وهو أهونُ عليه.
وكلُّ من سِوى الله لا يستحقُّ العبادة، والله المُستحقُّ لها وحدَه؛ لأنه الخالِق، (
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)
[النحل: 17].
وهو - سبحانه - الملِكُ والمُلكُ له، (
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)
[فاطر: 13].
ومالِكٌ لخلقِه، له ما في السماوات وما في الأرض، وجميعُ الخلق له قانِتون ومُسبِّحون وكلُّهم له يسجُدون.
هو السَّيِّدُ لا شريكَ له والجميعُ عبيدُه، (
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)
[مريم: 93].
له المُلكُ التامُّ الدائِمُ، مالِكُ الدنيا ويوم الدين، وفي الآخرة يتجلَّى ويقول: (
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)
[غافر: 16]، فيُجيبُ نفسَه بقوله: (
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
انفردَ - سبحانه - بتدبير شُؤون خلقِه ومُلكِه، فالأمرُ كلُّه بيدِه وحدَه، (
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)
[الأعراف: 54].
يأمرُ وينهَى، ويخلُقُ ويرزُقُ، ويُعطِي ويمنَعُ، ويخفِضُ ويرفَعُ، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُحيِي ويُميت، (
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)
[الزمر: 5]، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)
[الروم: 19].
جميعُ الخلق تحت قهره ومشيئته، وقلوبُ العباد ونواصِيهم بيدِه، وأزِمَّةُ الأمور معقُودةٌ بقضائِه وقدَره، قائِمٌ على كل نفسٍ بما كسبَت، والسماءُ والأرضُ قائمةٌ بأمره، ويُمسِكُ السماءَ أن تقعَ على الأرض إلا بإذنِه، ويُمسِكُ السماوات والأرضَ أن تزُولا.
وكلُّ من في السماوات والأرض يسألونَه (
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)
[الرحمن: 29]، ومن جُملة شُؤونه: يغفرُ ذنبًا، ويهدِي ضالاًّ، ويُفرِّجُ همًّا، ويجبُرُ كسرًا، ويُغنِي فقيرًا، ويُجيبُ دعوة، قال تعالى: (
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)
[المؤمنون: 17].
أوامرُه مُتعاقبة، ومشيئتُه نافِذة، لا تتحرَّك ذرَّة في الكون إلا بإذنه، فما شاءَ كانَ، وما لم يشَأ لم يكُن، يخلقُ ما يشاءُ، ويفعلُ ما يُريد، وكان أمرُه قدرًا مقدُورًا.
لا مانِع لما أعطَى، ولا مُعطِيَ لما منَع، ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا رادَّ لقضائِه، ولا دافعَ لمُراده، ولا مُبدِّل لكلماته.
قدَّر مقاديرَ الخلق قبل خلقِ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولو اجتمعَ الخلقُ على شيءٍ لم يكتُبه الله ليجعَلوه كائنًا لم يقدِروا عليه، ولو اجتمَعوا على ما هو كائنٌ ليمنَعوه لم يقدِروا عليه، ولو اجتمعَت الأمةُ على ضُرِّ عبدٍ واللهُ لم يُرِد ضُرَّه لم يضُرُّوه، ولو اجتمعَت على نفعِه واللهُ لم يأذَن بنفعِه لن ينفَعوه، يهدِي من يشاءُ فضلاً، ويُضلُّ من يشاءُ عدلاً، إذا أرادَ شيئًا فإنما يقولُ له: كُن، فيكون، (
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)
[الأنبياء: 23].
كلامُه أحسنُ الكلام، لا بدايةَ لكلماته ولا نهايةَ لها، (
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)
[لقمان: 27].
وعلمُه تعالى وسِعَ كلَّ شيءٍ، فيعلمُ ما كان وما لم يكُن وما لا يكُون، ويعلمُ ما فعلَه الخلقُ وما سيفعَلونه، ويعلمُ ما في البرِّ والبحر وما تسقطُ من ورقةٍ إلا يعلمُها، ولا يعزُبُ عنه - أي: لا يغيبُ عنه - مِثقالُ ذرَّة في الأرض ولا في السماء، يعلمُ ما هو غائبٌ عنَّا وما هو شاهِد، ويعلمُ ما تُوسوِسُ به النفوسُ، وما تنطوِي عليه خبايا الصُّدور، ويعلمُ ما تحمِلُه الأُنثَى في البُطون، ومفاتِحُ الغيب لا يعلمُها إلا هو، وعلومُ الخلق كلِّهم كقطرةٍ من بحرِ علمِه، وما علمُهم إلا بمشيئتِه.
نقرَ عصفورٌ في البحر، فقال الخضِرُ لموسى - عليهما السلام -: "
ما نقصَ علمي وعلمُك من علمِ الله إلا مثلَما نقصَ هذا العصفورُ من البحر" (رواه مسلم).
سمعُه وسِع الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبِه. اشتكَت امرأةٌ زوجَها عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشةُ - رضي الله عنها - في ناحية البيت، ويخفَى عليها بعضُ كلامها، والله من فوقِ سبع سماواتٍ سمِعَ كلامَها وأنزلَ: (
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)
[المجادلة: 1].
وبصرُه أحاطَ بجميع المرئيَّات، فأفعالُ العباد في ظُلمة الليل لا تخفَى عليه، وكلُّ أعمالهم هو لها بالمِرصاد.
ولأن الخلقَ خلقُه فالحُكمُ له وحدَه، قال - سبحانه -: (
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)
[الأنعام: 57].
وأحكامُه وحدودُه وتشريعاتُه خيرُ الأحكام، ولا أحسنَ منه حُكمًا وهو خيرُ الحاكِمين، يحكمُ ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا.
لا أرحمَ منه، فهو أرحمُ الراحمين وخيرُهم، أرحمُ من الوالِدة بولدِها، رحمتُه وسِعَت كلَّ شيءٍ، له - سبحانه - مائةُ رحمةٍ، أنزلَ واحدةً يتراحَمُ الخلقُ فيما بينهم، وأمسكَ عنده تسعةً وتسعين جُزءًا.
كريمٌ لا أكرمَ منه، يُحبُّ الإحسانَ والعطاءَ لخلقه، يرزقُهم من فوقهم ومن تحتهم، فضلُه عظيمٌ، وخزائنُه لا تنفَد، (
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
[سبأ: 24].
ويدُه ملأى لا تغيضُها نفقة، سحَّاءُ الليل والنهار. قال - عليه الصلاة والسلام -: «
أرأيتُم ما أنفقَ مُنذ خلقَ السماوات والأرض؛ فإنه لم ينقُص ما في يدِه» (رواه البخاري).
لا يرُدُّ دعوةً للعباد، قال - سبحانه -: (
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
[البقرة: 186].
ولا تتعاظمُه حاجةٌ أن يُعطِيَها، ولو أن العبادَ أولَهم وآخرَهم، وإنسَهم وجنَّهم قامُوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوه، فأعطَى كلَّ واحدٍ مسألتَه، ما نقصَ ذلك مما عنده إلا كما ينقُصُ المخيَطُ إذا أُدخِل البحر.
وتكفَّل - سبحانه - برِزقِ كلِّ مخلُوقٍ من الإنسِ والجنِّ، مُسلِمهم وكافِرهم، (
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)
[هود: 6].
وعطاؤُه بلا منٍّ، وهو خيرُ الرازقين.
فتحَ أبوابَ الخير لعباده، فسخَّر بحارًا، وأجرَى أنهارًا، وأدرَّ أرزاقًا، وأعطَى عبادَه نعمًا كثيرةً وهم لم يسألُوه إياها، ومن كل ما سألُوه آتاهم، ويعرِضُ على عبادِه سُؤالَه فيقول: «
من يسألُني فأُعطِيَه».
كلُّ خيرٍ فهو منه، (
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)
[النحل: 53].
وأوصلَ لكل مخلوقٍ رزقَه، فرزقَ الجنينَ في بطن أمِّه، والنملَ في جُحره، والطيرَ في جوِّ السماء، والحيتانَ في لُجَج الماء، (
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)
[العنكبوت: 60].
قريبٌ مُجيبٌ لا يرضَى أن تُرفعَ الحاجاتُ إلى غيره، ومن لم يسأَله يغضَب عليه، والمحرُومُ من طمِعَ بغير ربِّه، ولا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله، يُشرِكون به ويدَّعون له الولدَ، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقهم.
وفَّق فضلاً منه وكرمًا أهلَ طاعته، وأثابَهم بعد توفيقه. شكورٌ يجزِي على القليل ويُجزِلُ على الكثير، الحسنةُ عنده بعشر أضعافها إلى أضعافٍ كثيرة، وأعدَّ لعباده في الجنة ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطرَ على قلبِ بشر، ولا يزالُ يسترضِيهم فيقولُ: «هل رضِيتُم»، فيقولون: «وما لنا لا نرضَى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقِك»، فيقول: «أنا أُعطيكُم أفضلَ من ذلك»، قالوا: «يا ربِّ! وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟»، فيقول: «أُحلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ عليكم بعدَه أبدًا» (رواه البخاري).
غنيٌّ بذاتِه، صمدٌ تصمدُ إليه الخلائِقُ في حاجاتها، وسيِّدٌ كاملٌ لا جوفَ له، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 3، 4]، وما اتَّخذَ صاحبةً ولا ولدًا، ولم يكُن له شريكٌ في المُلك ولم يكُن له وليٌّ من الذُّلِّ، وما كان معه من إلهٍ.
لن يُطاعَ إلا بفضلِه، ولا يُعصَى إلا بعلمِه، غنيٌّ عن خلقِه، قائمٌ بنفسِه، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به مُفتقِرٌ إليه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].
لا تنفعُه طاعةُ الطائِعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، لو كان الإنسُ والجنُّ على أتقَى قلبِ رجُلٍ واحدٍ ما زادَ ذلك في مُلكه شيئًا، ولو كانوا على أفجَر قلبِ رجُلٍ ما نقصَ ذلك في مُلكِه شيئًا، لن يبلُغ العبادُ نفعَه فينفعُوه، ولن يبلُغوا ضُرَّه فيضُرُّوه.
حيٌّ قيُّومٌ لا تأخذُه سِنةٌ ولا نوم، يخفِضُ القسطَ ويرفعُه، يُرفعُ إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل.
حجابُه نورٌ لو كشفَه لأحرقَت سُبُحات وجهه ما انتهَى إليه بصرُه، كبيرٌ عظيمٌ جبَّار متينٌ، العزَّةُ إزارُه، والكبرياءُ رِداؤُه، قويٌّ لا ظهيرَ له، وعليٌّ لا مثيلَ له، كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وجهَه، مُحيطٌ بكل شيءٍ ولا يُحيطُ به شيءٌ، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) [الأنعام: 103].
والأرضُ جميعًا قبضتُه يوم القيامة والسماواتُ مطويَّاتٌ بيمينه، لا يسُتشفَعُ به على أحدٍ من خلقه، ولا يشفعُ عنده أحدٌ إلا بإذنه.
وكرسيُّه موضِعُ قدمَيه، وسِع السماوات والأرض، وما الكرسيُّ في العرشِ إلا كحلقةٍ من حديدٍ أُلقِيَت في فلاة، والعرشُ أعظمُ المخلُوقات يحملُه ملائكةٌ ما بين شحمةِ أُذُنِ أحدهم إلى عاتقِه مسيرةُ سبعمائة عام.
والله مُستوٍ على عرشِه كما يليقُ بجلاله، والله مُستغنٍ عن العرش وما دُونَه.
تكادُ السماوات يتفطَّرن من فوقهنَّ، أي: يتشقَّقن خوفًا من عظمة الله، وإذا تكلَّم بالوحي أخذَت السماوات منه رَجفةٌ ورِعدةٌ شديدةٌ وصعِقَ أهلُ السماوات وخرُّوا لله سُجَّدًا.
هو الأولُ فليس قبلَه شيء، والآخرُ فليس بعده شيء، والظاهرُ فليس فوقَه شيء، والباطنُ فليس دونَه شيء، قادرٌ على كل شيءٍ وله القوةُ جميعًا، لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، أمرُه كلمح البصر بل هو أقربُ، وله جنودٌ لا يعلمُها إلا هو.
وإذا انقضَى أمرُ الدنيا يرُجُّ الأرضَ رجًّا، ويدُكُّها دكًّا، ويُسيِّرُ الجبال سيرًا وينسِفُها نسفًا، وبنفخةٍ يفزَعُ الخلقُ، وبأُخرى يصعَقون، وبثالثةٍ يقومون للمحشَر.
سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ تنزَّه عن كل عيبٍ ونقصٍ، له من الكمالِ أعلاه، ومن التمام والجمال أسناه، لا نِدَّ له ولا مثيلَ ولا سمِيَّ له ولا نظيرَ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وبعدُ .. أيها المسلمون:
أفلا يجبُ علينا أن نُحبَّ ربَّنا الذي هذه صفاتُه وأفعالُه، وأن نحمده ونُثنِي عليه ونُخلِصَ له العبادة، ومن عرفَ اللهَ اقتربَ منه وخضعَ له وذلَّ وأنِسَ به واطمأنَّ، ورجَا ثوابَه وخافَ عقابَه وأنزلَ به حاجاته، وتوكَّل عليه.
ومن مدَحَ الله وأكثرَ من ثنائِه ارتفع، فلا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجلِ ذلك مدحَ نفسَه، ومن أحبَّ اللهَ وعبدَه أحبَّه الله ورضِيَ عنه وأدخلَه الجنة.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
من أشركَ بالله غيرَه من المخلُوقين والأموات فقد تنقَّص ربَّ العالمين، وأساءَ به الظنَّ وسوَّى غيرَه به، والشركُ يُحبِطُ جميعَ الأعمال، ولا يغفِرُ الله لصاحبِه ولا يُدخِلُه الجنةَ، وفي النار من الخالدِين.
وهو أشدُّ تغيُّرٍ أصابَ الفطرة، وأكبرُ فسادٍ في الأرض، وأصلُ كل بلاءٍ، ومجمعُ كل داءٍ، ضررُه عظيمٌ، وخطرُه وخيمٌ.
والمعاصِي شُؤمُها كبيرٌ، تجتمعُ على العبدِ فتُهلِكُه، وتحولُ بين المرء وبين قلبِه، وبقَدر ما يصغُرُ الذنبُ في العين يعظُمُ عند الله، ولا تنظرُ إلى صِغَر المعصيةِ، ولكن انظُر إلى عظمةِ من عصيتَ.
ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجعَل ديارَهم ديارَ أمنٍ وأمانٍ يا رب العالمين، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم وحِّد صفوفَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر جُندَنا، اللهم ثبِّت أقدامهم، اللهم سدِّد رميَهم، اللهم اربط على قلوبهم يا قوي يا عزيز.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.