وليس معنى التفقه في الدين -أحبتي في الله- أن يكون الإنسان طالب علم، وأن يحفظ المتون والمسائل، وأن يعرف أقوال العلماء ويرجح بينها، إنما المقصود أن يرفع عن نفسه الحرج بأن يتعلم ما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه من العلم حتى يقيم عبادته؛ ليعبد الله -تبارك وتعالى- على بصيرة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد كرم الله -تبارك وتعالى- العلم والعلماء في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا يكاد شيء من العبادات والطاعات والقربات أن يوازي وأن يداني فضل العلم والعلماء في الكتاب والسنة.
فضلهم عظيم وخيرهم عميم فهم ورثة الأنبياء والمرسلين، وإن الأنبياء والمرسلين لم يورثوا درهما ولا دينارا، إنما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر.
وإن العلم -أحبتي في الله- الذي جاء الثناء عليه في الكتاب والسنة المقصود به علم الكتاب، أن يقضي الإنسان أوقاته في تعلم أحكام الله -تبارك وتعالى-؛ ليعمل بها، وليساهم في رفع الجهل عن المسلمين هذا الذي جاء الثناء عليه في الكتاب والسنة.
أما سائر العلوم من العلوم الدنيوية؛ كعلم الطب والهندسة والزراعة وغير ذلك فإنها تكون محمودة بحسب مآلاتها ونية أصحابها، فإذا نوى أصحابها من تعلمها أن ينفعوا هذه الأمة، وأن يسدوا الثغور، وأن يرفعوا الحرج فإنهم يؤجرون من هذه الحيثية؛ وإلا إذا أردنا أن نقف على الفضل الذي جاء في الكتاب والسنة من العلم إنما يصرف إلى علم الكتاب والسنة.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114]. يأمر الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله الاستزادة من العلم، ولم يقل وقل ربي زدني مالا أو وجاهة أو مكانة أو منصبا إنما قال: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].
وقال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] وقال الله تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11] درجات أي في جنات نعيم ما بين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض لمن سلك طريق العلم والعلماء.
وقال الله -تبارك وتعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين".
فالذي لا يتفقه في الدين هذه علامة سيئة؛ كما قال أحد العلماء المعاصرين قال "مفهوم المخالفة من هذا الحديث أن الذي لا يتفقه في الدين ما أراد الله به خيرا" ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وليس معنى التفقه في الدين -أحبتي في الله- أن يكون الإنسان طالب علم، وأن يحفظ المتون والمسائل، وأن يعرف أقوال العلماء ويرجح بينها، إنما المقصود أن يرفع عن نفسه الحرج بأن يتعلم ما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه من العلم حتى يقيم عبادته؛ ليعبد الله -تبارك وتعالى- على بصيرة.
وقال -عليه الصلاة والسلام- كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه قال: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة".
تريد الجنة -يا عبد الله-؟ تريد أن تفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؟ اسلك سبل العلم والعلماء.
نقف -أحبتي في الله- في دقائق يسيرة مع سيرة عطرة مع أحد العلماء الربانيين الزاهدين المجاهدين -وأمتنا زاخرة في القديم والحديث، أمة الإسلام ولادة تولد العظماء من العلماء والقادة والمفكرين والمبدعين والفاتحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. من مثل أمتنا ومن مثل تاريخ أمتنا؟! أمتنا العظيمة أمتنا المجيدة صاحبة الكتاب الخالد وصاحبة السنة المباركة وصاحبة التاريخ المشرق المضيء، صاحبة الفتوحات، صاحبة العلماء، صاحبة القادة المجاهدين، صاحبة الأبطال! هذه هي أمة الإسلام!- نقف مع عالم من علمائنا إنه البحر الحبر العالم المجاهد الرباني -رحمه الله رحمة واسعة- إنه "الأوزاعي" -عليه رحمة الله-.
ولد الأوزاعي -رحمه الله- في سنة 88 من الهجرة في محلة الأوزاع بمدينة بعلبك المعروفة في بيروت.
اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن محمد العالم العامل المجاهد بلسانه وجنانه وسنانه، قال عنه الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "لم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار والعلماء وغيرهم أعقل منه، ولا أكثر أدب ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتا منه، وما تكلم بكلمة إلا تعين على السامعي من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها ولما تضمنته من حكم عظيمة".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "قد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به والثوري يقول: افسحوا للشيخ، حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه العلم والحديث" رحمة الله عليهم أجمعين.
سفيان الثوري والإمام مالك قمران زاهران في سماء الدنيا بين العلماء والمبدعين، بين العلماء والفقهاء والمحدثين يأخذان بزمام ناقة هذا الإمام الكبير عليه رحمة الله.
عبادته -أحبتي في الله- والله وتالله وبالله لولا أننا نقرأ هذا الكلام في كتب الثقات كالإمام ابن كثير والإمام الذهبي وغيرهم عليهم رحمة الله لما كان الإنسان أن يصدق؛ لأنه شيء قد فاق الوصف والخيال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قال الوليد بن مسلم: "ما رأيت أحد أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة"، وقال غيره: "حج الإمام الأوزاعي فما نام على الراحلة إنما هو في صلاة فإذا نعس استند إلى القتب" المسند الذي يكون خلف على الراحلة وقال غيره: "وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى".
وعن الوليد بن مزيد قال: "كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوى عليه، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي" يحيي ما بين الصلاتين بصلات أو ذكر أو تلاوة للقرآن أو طلب للعلم أو نشر للعلم وهكذا لا يضيع دقيقة واحدة إلا وتكون في طاعة الله -عز وجل-.
دخلت أم الأوزاعي -رحمه الله- يوما إلى منزل ابنها الأوزاعي -الذي كان متواضعا- فتلمست مكانه فوجدت في مصلاه بلل على الأرض فما كان من أم الأوزاعي إلا أنها نهرت زوجة الأوزاعي وقالت: غفلتي عن الصبيان حتى تبولوا في مسجد الشيخ؟ قالت هذا وهي لا تعلم أن هذا من أثر دموعه -رحمه الله- في صلاة تهجده وقيامه لله رب العالمين.
هكذا كانوا -أحبتي في الله- يراوحون بين جباههم وركبهم إذا أتى الليل وأسدل سدوله وخيم بظلمته يقومون يصلون لله رب العالمين، وإذا أصبحوا شعث غبر من آثار القيام والتهجد والدعاء والتضرع لله رب العالمين، فيقومون صائمين ذاكرين تالين متعبدين لله -تبارك وتعالى- حتى قضوا حياتهم وهم يسيرون على درب نبيهم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "مالي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على حبيبي وقرة عيني محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد: كان الإمام الأوزاعي -رحمه الله- بالإضافة إلى عبادته وزهده وعلمه وعلو كعبه في فقه الكتاب والسنة -نحسبه كذلك والله حسيبه- كان عالما أثريا سلفيا متبعا لآثار السلف لآثار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-، وكان شوكة في أعين المبتدعة، وكان سدا منيعا لكل من أراد أن يبتدع في دين الله -عز وجل-، فكان يصيح به وينكر عليه؛ صيانة لدين الله -تبارك وتعالى- وهذا الميثاق الذي أخذه الله -عز وجل- على الذين أتاهم الله -عز وجل- علما أن يبينوه للناس ولا يكتمونه.
عن العباس بن الوليد قال: حدثني أبي قال: سمعت الأوزاعي يقول: -واسمعوا لهذه الكلمة الرائعة الجميلة ما أجمل كلام السلف، كلامهم قليل ومعانيه كثيرة- يقول -رحمه الله-: "عليك بآثار من سلف" أي بآثار الصحابة والسير على منهجهم وهديهم لا تبدل لا تغير في فهم الدين وفي فهم الشريعة، الدين قد كمل بفهم أولئك الأخيار الأبرار الأطهار الذين زكاهم الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم.
قال "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم".
متى تكون على طريق مستقيم؟ إذا تمسكت بهدي السلف، إذا تمسكت بهدي الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وإن أتتك ما أتتك من الفتن فلا تبحث عن قول الرجال وما قالوه، وإنما ابحث عن قول الصحابة وما ذكروه؛ فإن الأمر إذا انجلى وإذا أدبرت ترى نفسك أنك على الصراط المستقيم؛ لأنك تمسكت بآثار الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
وعن بقية بن الوليد قال لي الأوزاعي: "يا بقية لا تذكر أحدًا من أصحاب نبيك إلا بخيرٍ؛ فالعلم ما جاء عن أصحاب محمد -صلى الله عليه و سلم-، و ما لم يجئ عنهم فليس بعلم".
هذا هو الضابط والميزان الذي وضعه لك هذا العالم الرباني السلفي الأثري.
قال محمد بن عبيد الطنافسي: كنت عند سفيان الثوري، فجاءه رجل، فقال : رأيت كأن ريحانة من المغرب رفعت، قال سفيان الثوري: إن صدقت رؤياك، فقد مات الأوزاعي. فكتبوا ذلك اليوم الذي رأي فيه الرجل الرؤيا فوجدوا ذلك اليوم يوافق اليوم الذي جاء فيه خبر وفاة الإمام الأوزاعي -رحمه الله- في سنة 157 من الهجرة في بيروت، وله من العمر 69 سنة قضاها في العلم والمنافحة عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدق القائل في أبياته الجميلة:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبدا *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
اللهم يا ذا الجلال والإكرام والعظمة والسلطان اللهم أحي قلوبنا بذكرك يا رب العالمين، اللهم احي قلوبنا بذكرك يا ذا الجلال والإكرام..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي