واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق

هلال الهاجري
عناصر الخطبة
  1. تعظيم شأن الدماء في الإسلام .
  2. تأملات في قصة ابني آدم في القرآن الكريم .
  3. دلالة اختيار الغراب في قصة ابني آدم .
  4. مفاسد الجرأة على الدماء المعصومة .
  5. وجوب كف الأيدي عن دماء المسلمين. .

اقتباس

لم يَقصَّ اللهُ -تعالى- علينا في كتابِه متى حدثتْ أولُ حالةِ سَرقةٍ .. ولا أخبرنا بأولِ معاملةِ رِبا .. ولا متى وقعتْ أوَّلُ فاحشةِ زِنا .. ولكنَّه أخبرنا بأولِ جريمةِ قتلٍ حدثتْ في التَّاريخِ .. وذلك لشناعةِ هذا العملِ .. والتَّحذيرِ من الوقوعِ فيه والزَّللِ .. ولذلك سمَّاهُ -عزَّ وجلَّ- نبأً في كتابِه الكريمِ .. وهو الخبرُ المهمُ ذو الشأنِ العظيمِ. كيفَ لا .. وهي الجريمةُ التي استعظمها الملائكةُ قبل أن يخلقَ اللهُ -تعالى- الإنسانَ...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).. وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً أرجو بها النَّجاةَ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ..

وأشهدُ أن محمداً بنَ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ رسولَ اللهِ وخيرتَه من خلقِه وأمينَه على وحيِّه .. بلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَّةَ وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلمَ تسليماً كثيراً.

إنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وشرَّ الأمورِ محدثاتُها وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ..

أما بعد: فيا أيُّها المؤمنونَ.. يقولُ -سبحانَه وتعالى- لنبيِّه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) [المائدة: 27].. فلم يَقصَّ اللهُ -تعالى- علينا في كتابِه متى حدثتْ أولُ حالةِ سَرقةٍ .. ولا أخبرنا بأولِ معاملةِ رِبا .. ولا متى وقعتْ أوَّلُ فاحشةِ زِنا .. ولكنَّه أخبرنا بأولِ جريمةِ قتلٍ حدثتْ في التَّاريخِ .. وذلك لشناعةِ هذا العملِ .. والتَّحذيرِ من الوقوعِ فيه والزَّللِ .. ولذلك سمَّاهُ -عزَّ وجلَّ- نبأً في كتابِه الكريمِ .. وهو الخبرُ المهمُ ذو الشأنِ العظيمِ.

كيفَ لا .. وهي الجريمةُ التي استعظمها الملائكةُ قبل أن يخلقَ اللهُ -تعالى- الإنسانَ .. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30].. فذكروا سفكَ الدِّماءِ بالخصوصِ مع أنَّه من الفسادِ في الأرضِ .. لأنَّه على الدِّينِ عظيمُ الخطرِ وواسعُ الشَّررِ .. وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لا يَزَالُ الْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا".

وحيثُ قالَ اللهُ تعالى: (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) .. فهو الخبرُ الحقُّ الذي لا ريبَ فيه ولا شكِّ  .. ولذلكَ ليسَ لنا أن نزيدَ في النَّبأِ ما قد جاءَ في الإسرائيلياتِ .. مما لا يُعرفُ الصحيحُ منه والمعطوبُ .. والصَّادقُ منه والمكذوبُ.

والذي يظَهرُ من هذه الآياتِ أن هذينِ الابنينِ هما أبناءُ آدمَ من صُلبِه .. بل ووقعتْ الجريمةُ في حياتِه .. وذلك لأنَّه لو كانَ قد ماتَ لعلمَ النَّاسُ طريقةَ دفنِ الموتى في الأرضِ .. ولمَا أرسلَ اللهُ -تعالى- الغُرابَ ليُريَ القاتلَ كيفَ يُواري جُثمانَ أخيه .. ثمَّ تكونُ سنَّةَ النَّاسِ في دفنِ موتاهم إلى يومِ القيامةِ.

بدأتْ الحادثةُ (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) .. أيْ: أخرجَ كلٌّ منهما شيئاً من مالِه لقصدِ التَّقربِ إلى اللهِ -تعالى- .. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) [المائدة: 27].. بأنْ عُلِمَ ذلك بخبرٍ من السَّماءِ، أو بالعادةِ السَّابقةِ في الأُممِ أنَّ علامةَ تَقبُّلِ اللهِ لقُربانٍ، أنْ تنزلَ نارٌ من السَّماءِ فتُحرقُه..

(قَالَ) الابنُ الذي لم يُتقبَّلْ منه لأخيه: (لَأَقْتُلَنَّكَ) حَسداً وبغياً .. فقالَ له الآخرُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27] .. فلماذا تقتلني وليسَ الأمرُ بيدي، ولو كنتَ تقيَّاً لتقبَّلَ اللهُ -تعالى- منكَ، فأساسُ قَبولِ العملِ هو ما يقومُ في القلبِ من التَّقوى، وهذا كانَ الهاجسُ الحقيقيُّ الذي أشغلَ قلوبَ الصَّالحينَ.

جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-، فَقَالَ لابْنِهِ: أَعْطِهِ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ، فَقَالَ: "لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً، أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِليَّ مِنَ الْمَوْتِ، أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ .. (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]".

وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ، فَقَدْ كُنْتَ وَكُنْتَ؟ .. فَقَالَ: يُبْكِينِي أَنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ -تعالى- يَقُولُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].

ثمَّ قالَ له أخوه: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة: 28].. فلا يمنعني من قتلِك إلا خوفي من اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بارتكابِ هذا الجُرمِ الكبيرِ .. "فَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" .. ثُمَّ خوَّفَه عقابَ اللهِ -تعالى- .. (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 29].. فلن أكونَ عبدَ اللهِ القاتلِ ولكن أكونَ عبدَ اللهِ المقتولِ .. وذلك لحُرمةِ الدِّماءِ وعظيمِ إثمِها ..

عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ، قَالَ: دَخَلُوا قَرْيَةً، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ، ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟، قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي.. قَالُوا: أَنْتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قَالَ: نَعَمْ .. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ، حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- تُحَدِّثُنَاهُ؟، قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، قَالَ: "فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ، فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ" .. قَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قَالَ: نَعَمْ .. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَالَ دَمُهُ.

وهذا في أيامِ الفِتنِ التي لا يَعرفُ فيها القاتلُ لماذا يَقتلُ .. ولا المقتولُ لماذا قُتلَ .. فعنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، قَالَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي"، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي، فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ: "كُنْ كَابْنِ آدَمَ".

ولكن لم ينفعْ معه النُّصحُ ولا الوعظُ ولا التَّذكيرُ .. ولم يُفدْ معه التَّرهيبُ من عذابِ العزيزِ القديرِ .. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 30].

وهكذا تُزيُّنُ النَّفسُ الأمارةُ بالسوءِ للجُهلاءِ .. فيخوضونَ في محارمِ اللهِ -تعالى- ويسفكونَ الدِّماءَ .. فيخسرونَ الدُّنيا والآخرةَ ويتعرَّضونَ لغضبِ مَنْ في السَّماءِ .. وأيُّ خسارةٍ أعظمُ من دخولِه في قولِه تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]..

وأيُّ ذنبٍ أكبرُ من قولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" .. وأيُّ جُرمٍ مثلُ سَفكِ دمِّ جميعَ البشرِ (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].. وأيُّ تهديدٍ كقولِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ" .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. اللهمَّ اعصمنا من الخلَلِ.. واحفظنا من الغِوايةِ والزَّللِ.

(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي) [المائدة: 31].. أرسلَ اللهُ -تعالى- الغُرابَ لتعليمِ ابنِ آدمَ وهو من فُسَّاقُ الطُّيورِ .. دلالةً على أن القتلَ من عملِ الفاسقينَ .. والغرابُ أسودٌ في لونِه لسوادِ عملِ القَاتلينَ .. والغرابُ يدلُّ على غربةُ القاتلِ عن دينِه وأهلِه والنَّاسِ أجمعينَ .. والغرابُ من دَنِيءِ الطُّيورِ وفيه دناءةُ القاتلِ في بني الإنسانِ .. فسُبحانَ اللهِ -تعالى- الذي كتبَ الذُلَّ والصَّغارَ على أهلِ العِصيانِ .. وأيُّ إهانةٍ وذلٍّ أن يكونَ هذا القاتلُ من طُلَّابِ الغِربانِ.

(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) .. وهكذا يندمُ القاتلُ أشدَّ النَّدمِ .. ويبكي بدلَ الدَّمعِ غزيرَ الدَّمِّ .. إذا رأى أنه سفكَ دمَّاً حراماً .. وارتكبَ من بعدِ السَّلامةِ إجراماً .. واسمع معي لهذه القِصَّةِ ..

يَقُولُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ – الْحُرَقَةُ: بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَة- قال: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، وطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ .. فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَقَالَ :«يَا أُسَامَةُ ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟،  قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا .. قال: "كَيفَ تَصنعُ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟"، قالَ: قالها مُتَعَوِّذًا مِنْ الْقَتْلِ .. قال: "كيفَ تَصنعُ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟"، قال: يا رسول الله استغفر لي .. فَلمْ يَزدْ عَلى قَولِه: "كَيفَ تَصنعُ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟"، حتى قَالَ أُسامةُ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ .. فهذا ندمُ من أخطأَ ولم يَقصدْ .. فكيفَ ندمُ من ظلمَ وتعمَّدَ.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بالآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي قصَّ علينا من نبأِ المرسلينَ ما فيه عبرةٌ لأولي الألبابِ، أحمدُه سبحانَه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه خالقُ الأرضِ والسماواتِ السَّبعِ العزيزُ الوَهَّابُ.

وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بعثَه ربُّه إلى النَّاسِ كافّةً بخيرِ دينٍ وأشرفِ كتابٍ، اللَّهمَّ صلِّ وسلمْ على عبدِك ورسولِك محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، صلاةً وسلامًا نرجو عندَ اللهِ أجرَهما عندَ الحسابِ ..

 أما بعد: عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَريِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ .. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟، قَالَ: "الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ" .. قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟، قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ".. قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟، قالَ: "لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ".

هذا الحديثُ يصفُ شيئاً مما يحدثُ في زمانِنا .. في فتنةٍ ذهبتْ معها العقولُ، وأصابَ الحليمَ فيها الذُّهولُ .. لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا فِيمَ قُتِلَ الْمَقْتُولُ .. وتُسفكُ دماءُ المسلمينَ بفتوى جاهلٍ مجهولٍ ..

فهل هذه يا عبادَ اللهِ هي سُنَّةُ الرَّسولِ؟ .. -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. يَأتيهِ مَلَكُ الْجِبَالِ ويَقُولُ له: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ – وهما جَبلانِ يُحيطانِ بمكةَ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الذي أرسلَه اللهُ -تعالى- رحمةً للعالمينَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".. وهذا في المشركينَ الذين آذوه وطردوه وحاولوا قتلَه.

ولما قالَ رئيسُ المنافقينَ: لئن رجعنا إلى المدينةِ ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقالَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنه-: يا رسولَ اللهِ دعني فأقتلُه، قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" .. فلم يقتل من هو مُستحِّقٌ للقتلِ للحِفاظِ على صورةِ الإسلامِ وعنْ التَّشويهِ يُصانُ .. فماذا فعلَ اليومَ من يقتلُ ويُفجِّرُ وينحرُ ويغتالُ ويغدرُ بالإسلامِ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ؟!

اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، وبصِّره بالحق، واحفَظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائِلنا، ونعوذُ بعظمتِك اللهم أن نُغتالَ من تحتِنا، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، واحمِ حوزةَ الدِّينِ، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدةَ وسائرَ أعداءِ الملَّةِ والدِّينِ ..

اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، وأمِدَّ في عُمرِه على طاعتِك، واجمَع به كلمةَ المسلمينَ على الحقِّ والهُدى يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّقه ونائِبَيه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي