عباد الله: من الناس من يدعي حب أخيه، فإذا استقرضه مرة، واعتذر بعدم الجدة، غضب، ويدعي حب أخيه، ويغضب لأتفه الأسباب، ويتأول الكلمات، ويجمع الخطيئات، ويتذكر السلبيات، فأي أخوة ليس مبناها التسامح، وعمادها الإيمان، وأساسها...
الحمد لله الذي أكرم خواص عباده بالألفة في الدين، ووفقهم لإكرام عباده المخلصين، ورزقهم الشفقة على المؤمنين، وزينهم بالاقتداء بشيم وأخلاق سيد المرسلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، والقائل: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، بعثه ربه لتقوية المؤمنين، ونشر محاسن وأصول الدين، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى الآل والأصحاب، وسائر المسلمين.
إنما التوفيق بيد الله، والأمر كله لله، يوفق من شاء بإحسانه وفضله، ويضل من شاء بحكمته وعدله، جعل للمسلمين إلى الجنة طريقًا، وسن لهم في الأعمال سبيلاً: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال: 63].
ولما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان من أول أعماله، وأوائل أسسه: أن حقق قول الحق -جلا وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن الخلق طريق إلى الجنة، وأن الحب في الله أوثق عرى الإيمان، وأن المرء محشور مع من أحب، وأن من تشبه بقوم فهو منهم.
ولست هنا أبين فضل الصحبة والصداقة والخلة، ففضلها معروفة، وثمرتها مشهورة، وخاتمتها من الجنة معلومة: "أين المتحابين فيَّ؟ أين المتزاورين فيَّ؟".
"ورجلان تحابا في الله...".
ولكني هنا أتحدث عما توجبه الألفة من قوة الإخوة، والإخوة، وحسن العشرة، وحسن العشرة من كريم الصحبة، فقد كان لزاماً على كل مسلم أن يحفظ لأخيه حق أخوته، وحسن صحبته، وجميل عشرته، فالمسلمون بعضهم لبعض كالجسد، يعينون بعضًا على الخيرات، ودفع المكروهات؛ فعن النعمان بن بشير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ الواحد، إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [أخرجه أحمد ومسلم والبخاري وغيرهم].
ولا نكير لقدرة الله، ف "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ".
ومتى أراد الله بعبده خيرًا وفقه لمعاشرة أهل السنة، وأهل الستر والدين، والصلاح والفلاح، ورده عن أهل الهوى والخلاف والاختلاف: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
عَنْ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمُقَارِنِ يُنْسَبُ
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
عباد الله: إن للإخوة والصحبة آداب وأحكام وسمات، فمن آدابها وعظيم حقوقها: ستر العيوب، والتماس المعاذير، قال عبد الله بن محمد بن منازل: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثرات إخوانه".
إذَا مَا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَك زَلَّةٌ *** فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالًا لِزَلَّتِهِ عُذْرَا
وقال حمدون القصار: "إذا زل أخ من إخوانكم، فاطلبوا له سبعين عذرًا، فإن لم تقبله قلوبكم، فاعلموا أن الميت أنفسكم".
قال ابن المسيب: "كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يظهر منه ما يغلبك" الله أكبر! ما أجمل تلك النفوس!
إذا ما صديقي رابني سوءُ فعله *** ولم يك عما رابني بمفيق
صبرت على أشياء منه تريبني *** مخافة أن أبقى بغير صديق
وتأملوا إن شئتم قول رسولكم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ" [رواه مسلم والترمذي ومالك من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-].
ومن المعلوم: أن البطش والقهر والجبر والغلبة من صفات أهل الجور والظلمة، فإياك إياك أن تكون كذلك.
كذلك: أن تآخي من تثق بدينه وأمانته: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22].
ومن آدابها: الصفح عن عثرات الإخوان، واقرؤوا إن شئتم توجيه الله لنبيه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85].
وما الصفح الجميل يا أهل التفسير؟ قالوا: أن لا يكون فيه تقريع ولا تأنيب ولا معاتبة: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
"اذهبوا فأنتم الطلقاء".
قال الفضيل بن عياض: "الفتوة العفو عن عثرات الإخوان".
والعرب تقول: "سيد القوم المتغابي، وبالعفو والتناسي يدوم الود، وإلا الناقد لا صديق له".
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ قَالَ: "تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانِ يَدُمْ لَك وُدُّهُمْ" كلمات تكتب بمياه الذهب: "تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانِ يَدُمْ لَك وُدُّهُمْ".
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
إياك ومؤاخاة طلاب الدنيا، وترك الدين، فهم إليها إياك يدعون، وإلى جمعها يتسابقون، قال يوسف بن الحسين لذي النون: "أوصني؟ قال: عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، ويبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته".
ومن آدابها: أن تحمد إخوانك على حسن نياتهم، وإن لم تسعفهم أعمالهم.
وفي الحديث: "نية المؤمن خير من عمله".
وقال علي -رضي الله عنه-: "من لم يحمل أخاه على حسن النّيّة، لم يحمده على حسن الصّنعة".
وعليك كأخ لأخ أن لا تحسدهم على نعم الله عليهم، وإنما الفرح والسرور لهم: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 54].
ولا تواجه بما يكره، ذلك أدب نبوي؛ فعن أنس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه ما كان يواجه أحدًا في وجهه بشيء يكره"، وما كان فاحشًا، ولا متفحشًا.
(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].
ومن آدابها: ملازمة الحياء بين الإخوان، فهو خير كله، ولا يأتي إلا بخير.
واعلموا -رحمكم الله- أن للمعاشرة ثمن يتشاطره الطرفان، ألا وإن ذلك صدق المودة، وصفاء المحبة، بشاشة في الوجه، ولطف في اللسان، وبسط في اليد، وسعة في القلب، وكظم للغيظ، وإسقاط للكبر، وملازمة... وإظهار للفرح، مع سلامة الصدر، وقبول للنصح، وبذل له، واقرؤوا إن شئتم: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 89].
ومن الأدب فيها: صدق الوعد، والوفاء بالعهد.
يا واعدا أخلف في وعده *** ما الخلف من سيرة أهل الوفا
ما كان ما أظهرت من ودّنا *** إلّا سراجا لاح ثمّ انطفا
قيل: إن إسماعيل -عليه السلام- وعد رجلًا مكانًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل -عليه السلام- وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتي، وقيل: إنه قال: لو بقيت سنة ما برحت من هاهنا، وصدق الله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) [مريم: 54].
ولتكن عشرتك لمن يستحى منه، فإنه يحثك على الطاعات، وتستحي عنده من اقتراف المنكرات.
ما عاتب المرء اللبيب كنفسهِ *** والمرءُ يصلحه الجليس الصالحُ
ولا تؤذِ أخاً لك، ولا مؤمنًا، فالناس رجلان: "مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله".
وأحب لأخيك ما تحب أن يكون لنفسك، وكفى بها ميزانًا وعدلاً، فلا يؤمن أحدكم إلا بذلك، وادع أخاك بأحب أسمائه إليه: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات: 11].
قال عمر -رضي الله عنه-: "ثلاث يصفين لك ود أخيك" ما هي يا أمير المؤمنين؟ "إذا لقيته تسلم عليه، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه".
فأين نحن من مثل هذه الآداب؟
بل قال هلال بن العلاء: "جعلت على نفسي أن لا أكافئ أحدًا بسوء، ولا عقوق".
لمّا عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من همّ العداوات
إنّي أحيّي عدوّي عند رؤيته *** لأدفع الشّرّ عنّي بالتّحيّات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** كأنّما قد حشا قلبي محبّات
اعلموا: أن الحقد والحسد يأكل المهج، ومن لا يتخذ العفو سبيلاً لا يدع له الدهر صديقاً.
وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ *** وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَطَلَّبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ *** يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
وحافظ على الود القديم، ففي الأثر عن عائشة -رضي الله عنها-: "إن الله يحب حفظ الود القديم".
وفي أثر آخر: "إن حسن العهد من الإيمان".
وإياك وكزة المزاح والهمز، والغمز واللمز، فإن قليله مقبوله، وكثيره للشيطان مرغوب.
من لوازم الصحبة: الذب عن الأصحاب، والدفاع عن أعراضهم، فعن أسماء بنت يزيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذب عن عرض أخيه بظهر الغيب، كان حقًا على الله أن يعتقه من النار" [رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني].
واسمعوا إلى هذا الذب الجميل، قيل للجنيد -رحمه الله-: "ما بال أصحابك يأكلون كثيرًا؟ قال: لأنهم لا يشربون الخمر، فيكون جوعهم أكثر، قيل: فما بالهم بهم قوة شهوة؟ قال: لأنهم لا يزنون، ولا يدخلون تحت محظور، قيل: فما بالهم لا يطربون عند الرباعيات؟ قال: لأنه كلام العشاق والمجانين" إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
اللهم احفظ لنا إخواننا، وأدم علينا صحبتنا، واكفنا شر أعدائنا.
أعوذ بالله من الشيطان: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) [يوسف: 5].
عباد الله: من الناس من يدعي حب أخيه، فإذا استقرضه مرة، واعتذر بعدم الجدة، غضب، ويدعي حب أخيه، ويغضب لأتفه الأسباب، ويتأول الكلمات، ويجمع الخطيئات، ويتذكر السلبيات، فأي أخوة ليس مبناها التسامح وعمادها الإيمان وأساسها التقوى؟
الإخوة الحقة، لا تعترف بالمصالح مبدءًا، ولا بتبادل المنافع منهجًا، إنما هي لله وفي الله.
لا يغضب صاحبها؛ لأنه ما خدمه في دائرة ما، ولا أسعفه في أمر...
إن الإخوة في الله ولله أعظم من أن تمتهن في مصالح شخصية، ورغبات دنيوية، إنها أعظم وأشرف وأجل، إنها أخوة الدين، وفي رب هذا الدين، من أجلها ضحى الصحابة بأموالهم لأصحابهم، وبأزواجهم لأصحابهم، وبدمائهم لإخوة إخوانهم.
إن الإخوة الحقة: لا تحتاج منك إلى اعتذار لأخيك، فهو يعذرك من تلقاء نفسه وأخوته، فمن أجمل تلك النفس العذارة لإخونه غير اللوامة لمن عاشرها، قيل لابن السماك: أي الإخوان أحق ببقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله الذي لا يملك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله، وأنشدوا في المعنى:
وليْسَ أخي مَنْ وَدّني بِلسانِهِ *** ولكنْ أخي مَنْ وَدَّني وَهْوَ غائِبُ
ومن ماله مالي إذا كنت معدماً *** وما لِي له إِنْ عضَّ دهر بِغَارب
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويقبل عثرتي، وقيل: من لايؤاخي إلا من لا عيب فيه قل صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه، وكثر تعبه.
إِذا كُنتَ في كُلِّ الأُمورِ مُعاتِباً *** صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
وإن أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
أحبتي: صفوا قلوبكم على إخوانكم، واعفوا واصفحوا، واعذروا واعتذروا؛ تدم لكم الصحبة والخلة.
والله من وراء القصد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي