دين الإسلام ليس دينَ رهبانية وجمود, بل هو دين فيه الجد والترفيه, وفيه الحزم والإجمام, وإنما يسهل قياد النفس والانتفاع منها أوقات الجد, حين يتعاهد إجمامها الفينة بعد الفينة. وتأتي أيام هذه الإجازة اليسيرة متزامنة مع نعمة الله على عباده باعتدال الجو والأمن, وبعد موسم...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبحلمه وعفوه تكفر السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفيات, ورب البريات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي بعثه ربه إلى العباد بشيرًا ونذيرًا, وقدوةً وإمامًا, فجلى الله بدعوته الظلام, وأنار الدرب للأنام, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته الكرام, وسلم تسليمًا مزيدًا ما توالت الأيام.
أما بعد:
ففي غمرة الضجيج والإزعاج، وفي خضم مشاغل الحياة، وصخب السياسة والأحداث, يجد البعض في خروجه للبراري أنسًا وبهجة وإجمامًا للنفس لتعود أقوى توهجًا.
هي متعة تمناها الكبراء والخلفاء, قال أحد الخلفاء: "ذقت اللذاتِ كلَها فما وجدت بعد الطاعة ألذ من جلوسٍ مع صاحبٍ على كثبان الرمل".
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبدو للتلاع، ويخرج لمسايل المياه، كما عند أبي داود.
عباد الله: الخروج إلى البراري والقفار, والتأمل في عظمة الخالق في الصحاري والأقطار، وسيلة تقضى بها الأوقات, وعمل له أصل من فعل رسول الله والسلف الصالح.
ودين الإسلام ليس دينَ رهبانية وجمود, بل هو دين فيه الجد والترفيه, وفيه الحزم والإجمام, وإنما يسهل قياد النفس والانتفاع منها أوقات الجد, حين يتعاهد إجمامها الفينة بعد الفينة.
وتأتي أيام هذه الإجازة اليسيرة متزامنة مع نعمة الله على عباده باعتدال الجو والأمن, وبعد موسم دراسة وامتحان, وجد واجتهاد, فرأيت حينها اندفاع الناس للبراري أو للأسفار, وازدحامهم في أماكن الترفيه.
ولا غضاضة أن يعتني المرء بهذا, بل إن المرء حين يقوم بإسعاد أهل ولد, أو أم وأب, فهو في عبادة إن احتسب الأجر في ذلك, وهو أولى من انشغاله بصحبه وترك أهله يتمنون الاستمتاع معه, وفي مقول الرسول -عليه السلام-: "إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه".
ومع كل هذا فيظل الترفيه والسياحة والسفر وسائل لا غايات, وسائل لغاية كبرى, وهي الاستعانة بكل ذلك على طاعة المولى -سبحانه-, وأنت راءٍ من الناس من يجعل مثل هذا الترفيه ومنه الرحلات والسفريات غايات, وفي سبيل ذلك ربما ارتكب محرماتٍ ومنهيات, بحجة أنه في سبيل ترفيه, أو في لحظات استجمام, أو لأنه خرج من البلد واستقر في البراري, وهنا فكم نحتاج إلى أن يكون لدى المسلم تذكر لأهداف الترفيه وضوابطه؟
الترفيه والإجمام نريد منه تجديد النشاط، وتقوية الإرادة, وفي هذا يقول أبو الدرداء: "إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق".
الترفيه نريد منه إظهار سماحة الإسلام, وفي هذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأى من يلهون وأقرهم: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة".
نريد منه إسعاد الأهل والصغار, والصغار هُمْ بهجة الدنيا وإسعادهم يملأ الأجواء سعادة وفرحًا, وإدخال السرور عليهم بالمباح ينال به المرء الأجر.
نريد منه تنمية الروح, وإزالة الملل والسآمة.
وكم نحتاج إلى أن نتذكر في أثناء سعينا للترفيه إلى أن يكون ترفيهنا في حدود الشرع, لا نضيع واجبًا ولا نلج بابًا محرمًا, وبهذا يسعد المرء بالترفيه، ويكون ذلك له لا عليه.
عباد الله: والخروج للبراري فرصة للأب ليربي أبناءه على معاني الرجولة, ويجعلهم يستشعرون قدر ما عندهم من النعم, وقد قال عمر -رضي الله عنه: "اخْشَوْشِنُوا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ" [أخرجه الطحاوي].
وهي فرصة للمرء أن يتأمل في عظمة الله في خلقه, وكيف أبدع صنعه, وكم في البراري من مجال للتأمل في العظمة, الليل بنجومه وأفلاكه, القمر بنوره وبهائه, الجبال والوهاد كيف أحصى الله حباتها, الأوراق والأشجار كيف أحصى أوراقها, الطيور والهوام كيف قدر أرزاقها, السماء رفعها, والجبال نصبها.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
وهي فرصة لاكتساب الأجر بالأذان والصلاة, ففي الحديث الصحيح: "يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِى غَنَمٍ في رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِى هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ يَخَافُ مِنِّى فَقَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِى وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ".
وفي الصحيح أيضًا: "إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة".
وفي مرسل ابن المسيب: "من صلى بأرض فلاة صلَّى عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، فإذا أذن وأقام الصلاة، أو أقام، صلَّى وراءه من الملائكة أمثال الجبال" [أخرجه مالك في الموطأ].
وكم ترى من الناس من يستهين بالصلاة في البراري, ومن يؤخرها عن وقتها, أو يترك السنن الرواتب فيها, ولو استشعر المرء أن تلك الأماكن تشهد له, وأن الله يراه أينما كان لحرص على ذلك.
عباد الله: والبراري في هذه الأيام، ومع اجتماع الشباب، هناك فرصة للدعوة إلى الله, وتذكير الغافل, وإعانة الناس على الخير, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله: وجميل أن يذكر المرء نفسه في تلك الأماكن غض البصر عما لا يحلّ له, وعدم تتبع العورات, أو أذية المؤمنين والمؤمنات, أو التعرض للأخطار, والإلقاء بالتهلكة بنفسه أو غيره.
وجميل أن يعود المرء نفسه وأولاده الاستعاذة عند النزول, ليكون المرء في حفظ الله -عز وجل-, وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن فلانا لدغته عقرب فلم ينم ليلته؟ فقال: "أما إنه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ما ضره لَدْغُ عقربٍ حتى يصبح" قال القرطبي: "هذا خبر صحيح، وقول صادق علمنا صدقه دليلًا وتجربة، فاني منذ سمعت هذا الخبر عملت ، فلم يضرَني شيء إلى أن تركته، فلدغتي عقرب بالمهدية ليلًا, فتفكرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات".
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إلا إلا الله عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد:
فإذا اقتطع ولي الأمر من وقته وماله جزءًا لإجمام أهله، فإنه ينبغي أن يستشعر حينها أنه مأجور في سعيه، وخلوف في نفقته, إذا احتسب الأجر في ذلك, وحين ترى تتابع الناس، وتتابعهم، على غشيان أماكن الترفيه, البرية منها أو غيرها, فإن مما يحز في الخاطر: ما يراه الناظر في تلك الأماكن من التساهل, الخروج للبراري والبعد عن المساكن لا يعني أن تتساهل المرأة بحجابها، ولا تعتني بسترها, نخرج إلى البر ونرفه عن الأهل، ونفسح الأولاد، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الستر والحياء, فالمرأة سمتها الحياء والحشمة أينما كانت في برٍ أو بحر, في حضر أو سفر.
كم يحزُّ في النفس أن ترى في البراري فتياتٍ يمتطين المراكب على مقربة من الأغراب, أو يبعدن عن الأهل, وفي تلك الأماكن أقوامٌ يتربصون بالفتيات الدوائر.
وفي أماكن التجمعات والمهرجانات, حيث الإزدحام والتقارب, وذاك يجعلنا نتذكر أن هذه الأمور وضعت ليستمتع بها الجميع، ولكن هذا لا يجعلنا نلقي بنسائنا وسط أكوام من الشباب أتوا من كل جانب, في مناظر لا ترضي, ولئن كنا واثقين من محارمنا، فإننا لسنا على ثقة ممن يتصيدون في تلك الأماكن, وقل مثل ذلك في أسواق النساء التي أصبح جملة منها مجالٌ للشر, ولا عجب ففي الأسواق نصب الشيطان رايته بمصداق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
لقد جعل الله القوامة بأيديكم -أيها الرجال-, فأنتم المنتظر منكم أن تحافظوا على نسائكم، وأنتم المسؤولون دنيا وآخرة عند التقصير, فلنكن عونًا لشبابنا على العفة حين نحصن نساءنا، ونصون قواريرنا.
وبعد -معاشر الكرام-: فالوقت هو حياتنا, ودقائق العمر تمضي, والزمن الذي نقضيه في الترفيه علينا أن لا ننسى أننا عنه مسؤلون، وعليه محاسبون, عما أودعنا في خزانة الليل والنهار.
والإجازة وإن قلت أيامها فرصة لئن تقرب من الله، وأن يكون لك فيها مشروع وتخطيط, فهي صفحة ستطوى قريبًا وستنتهي سريعًا، فماذا أنت فيها صانع؟
اللهم بارك لنا في أوقاتنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي