.. وهذا المثل غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوأهم عيشاً في الدنيا وحالاً في الآخرة فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقة كما ظهر الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة وقد نفذ ماؤهم وهلك ظهرهم، وقد رأوه في حلة رجلاً يقطر رأسه ماء ودلهم على الماء والرياض المعشبة، فاستدلوا بهيئته وجماله وحاله على صدق مقالته فاتبعوه، ووعد من اتبعوه بفتح فارس والروم وأخذ كنوزهما ..
الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة، وحذر عباده من الاغترار بالحياة الدنيا ونسيان الآخرة، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتذكروا مصيركم وانظروا ماذا قدمتم له من أعمالكم ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب أو عابرُ سبيل"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيتَ، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" رواه البخاري.
فهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا؛ فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل.
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال مؤمن آل فروعون: "يا قَوِ إِنَّما الحياةُ مَتاعٌ وإِنَّ الآخِرةَ هِيَ دَارُ القَرارِ" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه: أنه قال لهم: "اعبروها ولا تعمروها" وروي عنه أنه قال: "من ذا الذي يبني على موج البحر داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً" وكان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"، وقال عمر بن العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفذوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل يقطر رأسه ماء، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى- قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضراء ما تعملون، قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماء ورياضاً خضراء، فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء الرحيل، قالوا: إلى أين قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال جل القوم، وهم أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده. وما نصنع بعيش خير من هذا. وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم مواثيقكم بالله لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره، قال: فراح فيمن تبعه وتخلف بقيتهم، فنزل بهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل" رواه ابن أبي الدنيا والإمام أحمد مختصراً.
وهذا المثل غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوأهم عيشاً في الدنيا وحالاً في الآخرة فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقة كما ظهر الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة وقد نفذ ماؤهم وهلك ظهرهم، وقد رأوه في حلة رجلاً يقطر رأسه ماء ودلهم على الماء والرياض المعشبة، فاستدلوا بهيئته وجماله وحاله على صدق مقالته فاتبعوه، ووعد من اتبعوه بفتح فارس والروم وأخذ كنوزهما، وحذرهم من الاغترار بذلك في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدوا ما وعدهم به كله حقاً، فلما فتحت عليهم الدنيا كما وعدهم اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها والمنافسة فيها، ورضوا بالإقامة فيها والتمتع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فهذه الطائفة في الدنيا قبلت وصيته وامتثلت ما أمر به، وأما أكثر الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" أي كن فيها على أحد حالين: إما أن تكون كأنك مقيم في بلد غربة همك التزود للرجوع إلى أرض الوطن أو تكون كأنك في مواصلة للسفر غير مقيم أصلاً بل تسير دائماً إلى بلد الإقامة، وفي كلا الحالين لا تنشغل بالدنيا.
ووصية ابن عمر التي في آخر الحديث: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" مأخوذة من أصل الحديث، ومعناها: أن الإنسان يقصر أمله فإذا أدرك أول الليل لا ينتظر آخره، وإذا أدرك أول النهار لا ينتظر آخره بل يتوقع أن أجله يدركه قبل ذلك.
ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الوصية عند النوم فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" متفق عليه: زاد مسلم: قال ابن عمر: ما مرت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك إلا وعندي وصيتي. وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها.
وقوله: "وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك" معناه: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها المرض، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه وبينها إما بمرض أو موت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المنافقون الآيات من آخر السورة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي