الخطبة الأولى:
الحمد لله الْمُتَفَرِّدِ بالتَّوحيد, والْمُنْفَرِدِ بالتَّمْجيد, الذي لا تَبْلُغُه صفات العبيد, المبدئُ الْمُعيدُ الفَعَّالُ لما يريد, خلق الأشياء بقدرته, ودَبَّرها بمشيئته, وقَهَرها بجبروته, وذَلَّلَها بعزَّته, فَذَلَّ لِعَظَمته المتكبرون, واسْتكان لِعِزِّ ربوبيته الْمُتعاظمون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إقرارًا بِوِحدانيته, وإخلاصًا لربوبيته, وأنه العالمُ بما تُكِنُّه الضمائر, وتنطوي عليه السرائر, لا تَتَوارى عنه كلمة, ولا تَغِيبُ عنه غائبة, وما تسقط من ورقة إلا يعلمها, ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه, ونَبِيُّهُ وأَمِيْنُه وصَفِيُّه, أرسله إلى خلقه بالنور الساطع, والسراج اللامع, فبلَّغ رسالةَ ربه, ونصَحَ لأمتِه وجاهدَ في الله حق جهاده, فصلوات الله عليه من قائدٍ إلى الحقّ المبين, وعلى أهلِ بَيْتِه الطيبين, وعلى أصحابِه الْمُنْتَخَبِيْن, وعلى أزواجِه أُمَّهاتِ المؤمنين, وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله بتقوى الله, واحْذروا الدُّنْيا فإنها حُلْوةٌ خضرة, تَغُرُّ أهلَها, وتخدع سُكَّانها, فلْتكن الدارُ الآخرةُ هي الهمَّ الأكبر, والنصيبَ الأوفر.
معاشر المسلمين: إنه لا حياة لأحدٍ بدون عقيدة صافية, خاليةٍ من الخرافات والبدع, ولا سعادة بدون التوحيدِ الخالص, والإيمانِ الصحيح.
وإنّ أعظم نعمةٍ مَنَّ الله -تعالى- بها علينا, وأفضلُ كرامةٍ نتحلّى بها, أننا عبيدٌ لله -تعالى- وحده, لسنا عبيدًا لشهواتنا كما هو حال الغرب المنحلّ, ولسنا عبيدًا لِدَجَاجِلَةِ العلم والدين, كما هو حال الرافضة واليهودِ والنصارى. بل نحن عبيدٌ لله –تعالى-, ليس بننا وبينه حُجّابٌ ولا شُفعاء.
والعبوديّةُ أشرف صفةٍ للإنسان, وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ, وَالْمَرْضِيَّةُ لَهُ, الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ)
[الذاريات: 56]، وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: (
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)
[الأعراف: 59], وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: (
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)
[النحل: 36].
وَوصف صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: (
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)
[الإنسان: 6].
وَقَالَ: (
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)
[الفرقان: 63].
وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: (
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 38- 40]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (
إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)
[الحجر: 42].
وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا, وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا, فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا, فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ: مِثْلُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَنَحْوِهِمَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ, قَالَ اللَّهُ -تعالى- فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ: (
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص: 35- 39], أَيْ: أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت, لَا حِسَابَ عَلَيْك, فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ: يَتَصَرَّفُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَخْتَارُه ويَشْتَهِيْهِ, مِنْ غَيْرِ إثْمٍ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ, فَلَا يُعْطِي أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ, وَلَا يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ.
فالْعَبْد الرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ, كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ, أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ ودَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.
ولهذا كانتْ أشرفَ أحوالِ العبدِ ومقاماتِه في العبودية, فلا منصِبَ له أشرفُ منها, وقد ذكر الله سبحانه أكرمَ الخلق عليه وأحبَّهم إليه, وهو رسولُه محمدٌ, بالعبوديةِ في أشرفِ مقاماته, وهي مقامُ الدعوةِ إليه, ومقامُ الوحي, ومقامُ التحدي بالنبوة, ومقامُ الإسراء, فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ: (
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)
[الإسراء: 1].
وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: (
فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)
[النجم: 10].
وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ: (
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)
[الجن: 19].
وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).
وإذا تدافع أولو العزم الشفاعةَ الكبرى يوم القيامة, يقول المسيح -عليه السلامُ- لهم: "
اذهبوا إلى محمدٍ عبدٍ غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر", فنال ذلك المقامَ بكمالِ العبوديةِ لله, وكمالِ مغفرةِ الله له, فأشرفُ صفاتِ العبدِ صفةُ العبودية, وأحبُّ أسمائه إلى الله اسم العبودية ,كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "
أحب الأسماء إلى الله عبدُ الله وعبدُ الرحمن".
فنحن عبيدٌ لله -تعالى- وحده, وهذا أعظم شرفٍ ينالُه مخلوق, وأفضل صفةٍ يتّصف بها الإنسان.
ومما زادني فخراً وتِيْها *** وكدّتُ بأَخْمُصي أطَأُ الثُّريَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأَنْ أرسلتَ أحمدَ لي نبيا
وهو -تعالى- وحده الْمُستحقّ أنْ يُعبَد, وأنْ يدعوَه الناسُ ويتوكَّلُوا عليه, لا أنْ يصرفوا ذلك إلى غيرِه من وليٍّ أو نبيٍّ.
ولْنَسْتَمِعْ إلى هذا الخطاب الذي يَقْرَعُ القلوب الْواعية, ويُحيي الضمائرَ الصالحة, قال تعالى: (
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا, وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ, أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [النمل: 59- 64].
فلا إله إلا الله, ولا معبود بحقٍّ سواه, ولا يُسْتَغَاثُ إلا به, ولا يُتوكلّ إلا عليه, ولا يُخاف ولا يُرجى إلا هو.
فلْنتق الله يا أمة الإسلام, ولْنُخلصِ التوحيدَ لله رب العالمين, ولْنتوكل على العزيز الرحيم.
نسأل الله -تعالى- أنْ يُحيينا على التوحيد ويُمِيْتَنَا عليه, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: إخوةَ الإيمان: إنه لن يَخْلُصُ أحدٌ يوم القيامةِ من العذاب, إلا مَنْ أَخْلَصَ له الدين والعبادة, فحينما تبرُزُ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ, (
وَقِيلَ) لِلْمشركين (
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أين الذين كنتم تتوسّلون إليهم, أين الذين كنتم تتقربون إليهم وتلجأون إليهم, (
هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هم لم يُنْجوا أنفسَهم فكيف يُنجوكم, ولم يُخلّصوا أنفسهم فكيف يُخلّصوكم, (
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) فيحنها يُوْقِنُون بأنَّهُم كانوا ضالين, فيُجادلون أئمتهم ومن أغواهم وهم في النار, (
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 92- 98].
كيف ساويناكم بالله الخالق الرازق؟ كيف ساوينا المخلوق الضعيف, بالخالق القويّ الجبار.
فالحمد لله الذي جعلنا نعبد إلهًا فردًا صمدًا, ولم يجعلنا مِن أهل الأهواء والبدع والشرك, الذين يصرفون العبادةَ لغيرِه, ويطلبون الشفاعة من خلقِه, ويتوسّلون بالأولياء والصالحين, فماذا بقي لله رب العالمين؟!
نسأل الله -تعالى- الثبات على دينِه, والاستقامةَ على ملّتِه, إنه على كل شيء قدير.