فيالها من حسرات, وزفرات وآهات, لكن هيهات هيهات أن تنفع الأمنيات, ما فائدة هذه الذكريات وقد أعرضوا في الدنيا عن مولاهم, واتبع أهواءهم, لطالما ذُكر الواحد منهم فما ادَّكَر, ووعظ فما اتعظ, (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 21، 24] إنها أعظم أمنية للإنسان (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :أوصيكم بوصية ربكم لكم تقوى الله -عز وجل- فهو القائل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18، 19].
عباد الله: داءٌ خطير مستشرٍ, ومرض عُضالٌ منتشر, مازال بأصحابه في الدنيا؛ حتى أوردهم المهالك, إنه مرض الغفلة عن الدار الآخرة (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
كيف تغفل -ياعبد الله- عن أحوالٍ تنتظرك, وأهوال ستستقبلك, تبدأ بساعة الاحتضار وخروج الروم, تلك الساعة العصيبة الرهيبة, لحظة ُتوديع الدنيا واستقبالِ الآخرة, كلها شدةٌ وكربات, سكرات وحسرات, صراخٌ وآهات, لحظة حاسمة ما خاف من عاقبتها أحد إلا نجا، وما غفل عنها أحد إلا تحسّر وندم.
عباد الله: لقد صور لنا الله هذه اللحظةَ بقوله : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19] وبقوله: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة: 26 - 30].
إننا -ياعباد الله- نستبعد الموت ونفر من ذكره, نستبعده لأننا أصحاء أقوياء, ونستبعده لأننا أغنياء, وهو -والله- قريب منا!, فلا الصحة تمنع عنه, ولا الغنى ينجي منه! فخذوا حذركم؛ ألا ترون الموتى يوميا يحملون إلى المقابر, أطفالٌ وشباب, نساءٌ وبنات, ما كان الواحد منهم يظن أن الموت له بالمرصاد, بل ما كان يظن أصحابه وأحبابه أن الموت سيختطفه, وهو في هذه السن الصغيرة.
عند هذه اللحظات الأخيرة من, لحظة توديع الدنيا والإقبال على الآخرة, يتذكر الإنسان المعرض عن الله تعالى في الدنيا تلك الأوقات التي لم يستغلها في طاعة الله, يتحسر ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليعمل صالحاً (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99، 100] هي أول أمنية يتمناها الإنسان, أن تترك له فرصة العودة ليعمل صالحاً بعدما فرط وضيع, فجاء الجواب قاطعاً (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنّ رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بقبر فقال: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا القَبْرِ؟" فقالوا: فلان. فقال: "رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ". وقف عليّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يوما بين المقابر فقال: "السّلام عليكم يا أهل المقابر: أمّا أموالكم فقد قسمت، وأمّا بيوتكم فقد سكنت، وأمّا أزواجكم فقد تزوّجن غيركم, هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندك؟" ثمّ سكت قليلا والتفت إلى من كان معه وقال: "أما -والله- لو شاء الله لهم أن يتكلّموا لقالوا: (إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)".
ومما يتمناه الموتى مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ الصَّدَقَةُ، تِلْكَ الحَسَنَةُ الَّتِي وَعَدَ اللهُ بِمُضَاعَفَتِهَا أَضْعَافًا كَثِيرَةً؛ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] لقد اقتنعوا وأيقنوا ولكن بعد فوات الأوان، أنّ الصدقة من أحبّ الأعمال إلى الرّحمن، وأن أصحابها من أهل الدرجات العلى في الجنان, الآن فقط أدرك هذا الغافل عن مولاه أنّ المال الّذي كان يبذل وقته كلّه لجمعه، وتغافل بسببه وأعرض عن ربه، أنّه لا ينفعه ولا يفيده شيئا، إنه في هذه اللحظات لو أعطي أموال الدّنيا كلّها, لرغب أن يتصدّق بها كلّها, لما يرى من أثر الصدقة في دفع الأهوال والكربات, وفي الشفاعة عند رب الأرض والسموات.
هذا الغافل المعرض عن الصدقة في الدنيا, يتحسر على أنه ما تصدق من مال يملكه, فكيف يكون حال الذي أخذ ما ليس له من مال, كيف تكون حسراتُه, ويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لعبدٍ ظلم عبداً, وأخذ منه ولو ريالا, ويلٌ ثم ويلٌ له. قال بعض العلماء: "إذا مات ابن آدم لقيَتْه مصيبتان: فقدَ كلّ مالِه، وسئل عن كلّ ماله".
لقد ترك ما جمع من أموال لأولاده وزوجته يتمتعون به من بعد موته, وهو يحاسب عن كل فلس منه, فيُسأل عن الصغير والكبير, والنقير والقِطمير, هو يعاني في قبره, ولا يدرون عن خبره.
عباد الله: ومن لحظات الحسرة والندامة, لحظة يعلم الإنسان فيها حقيقة أصدقاء السوء, أولئك الرفقاء والأصحاب الذين كانوا سبباً في إعراضه عن ربه, وتشاغله عن طاعة مولاه, لقد علم يقيناً أن تلك الجلسات والضحكات والليالي الصاخبات, ومجالس الأنس والطرب والقات, وجلسات الخمر والمخدرات, والتعاون على الظلم والمعاصي والمنكرات, لم تفده شيئا, بل كانت عليه وبالاً يوم القيامة, حينذاك يتبرأ الأصحاب من بعضهم, ويعادي بعضهم بعضا, يرى الواحد منهم النار أمامه وحينها (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29] فلا تكفيه يدٌ واحده يعض عليها, إنما يجمع كلتا يديه فيعضهما معا لشدة ما يعانيه من الندم, لقد بلغت الحسرة أقصى غايتها.
تلك الحسرة نتيجة طبيعية لمصاحبة أصدقاء السوء, ومجانبة أصحاب الخير والصلاح, إن ذلك الندم هو نتيجة طبيعية لساعات من الجلسات والسهرات ما ذكر فيه الله تعالى, "فمَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِابْنِ آدَمَ لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلا تحسَّرَ عِليهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" , فما بالك بالساعات الطوال, في القيل والقال, وتضييع الأموال, فيما لا يرضي ذي العزة والجبروت والجلال.
وعندما يوضع كتاب الأعمال ويرى كل إنسان ما قدم وأخر, يفاجأ صاحب المعصية بما في كتابه, الكتاب لم يترك كلمة واحدة قالها, ولا فعلاً قام به سراً عن أعين الناس, إلا وهو مسجل مكتوب, فيصيح نادماً (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] كل شيء مسطر مكتوب, ولو مثقالَ ذرة, معاصٍ وذنوبٌ نسيها الإنسان, لكن الديان لا ينسى, (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6].
وتتضاعف في نفسه الحسرات فيتمنى الموت على أن يَرِدَ العذاب, أين جاهه؟ أين منصبه وسلطانه؟ أين شهاداته؟ أين تجارته وأمواله؟ أين أنصاره وأتباعه؟! ذهب كل ذلك في الدنيا فلا منجي في تلك اللحظات إلا الأعمال الصالحة, ويردد في تلك اللحظات نادما: (يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 25 - 29].
عباد الله: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها, إنه مشهد رهيب تنخلع له القلوب, وتقشعر له الأبدان, وتنحبس له الأنفاس, نار جهنم يؤتى بها أمام الناس في المحشر يجرها هذا العدد الهائل من الملائكة, ملائكة شداد غلاظ عظام أقوياء, حسبك -ياعبد الله- أن تتصور كيف تكون النار وهؤلاء من يجرها, تعرض على الناس يرونها بأعينهم, وقد تصاعدت منها ألسنة اللهب العملاقة, ولها شهيق وزفير, وحنقٌ وتغيُّظ.
أهل الشقاء يسحبون إليها على وجوههم زمراً وأفواجاً, فيرمون بداخلها أذلةً صاغرين, ويسمع من بقي بالموقف أصواتهم وصياحهم, والنار تصيح بصوت مرعب, هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حينها يتذكر الإنسان لحظات المعاصي والكسل عن الطاعات, والساعات الكثيرة التي ضاعت, (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12].
فيالها من حسرات, وزفرات وآهات, لكن هيهات هيهات أن تنفع الأمنيات, ما فائدة هذه الذكريات وقد أعرضوا في الدنيا عن مولاهم, واتبع أهواءهم, لطالما ذُكر الواحد منهم فما ادَّكَر, ووعظ فما اتعظ, (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 21، 24] إنها أعظم أمنية للإنسان (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) نعم -أيها العبد المؤمن- تلك حياتك في الآخرة, أما هذه الديا فهي متاع فان, وسراب زائل.
عباد الله: عند وقوف أهل النار عليها يرون ما فيها من الكربات والأهوال والشدائد, وما فيها من السلاسل والأغلال والزقوم, ما لم يخطر لهم على بال, حين ذاك يتمنون الإيمان (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27].
ومن صور الندم يوم القيامة, ندم من أعرض عن الأعمال الصالحة وفرط فيها, فغفل أو تشاغل عنها, فبعد إلقائهم في النار, يكون هذا الحوار, قال تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 66] يتحسرون على عدم طاعة الله وطاعة رسوله, فمالذي حال بنهم وبين الطاعة (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب: 67].
لقد اتبعوا الكبراء والزعماء الذين زينوا لهم الباطل, ونافقوهم وجاملوهم وصفقوا لهم, وأيدوهم لأجل مصلحة دنيوية فانية, على حساب دينهم وطاعة ربهم, فهاهم اليوم يلعنونهم ويتمنون لهم عذابا مضاعفا (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 68].
وحين يقاسون العذاب بكل صوره وأشكاله, يتحسرون في النار أن فرطوا في الدنيا في حق الله, إنهم يتمنون أمنية فاسمع ما هي أمنيتهم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر: 37] فيأتيهم جوابُ ذي العزة والجبروت, والكبرياء والملكوت, (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37].
أقول ما سمعتم واستغفر الله
الحمد لله ذي العزة والجبروت والكبرياء، تفرد -جل جلاله- بالدوام والبقاء, وحكم على جميع الخلق بالزوال والفناء, والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى, وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأنقياء, وعلى التابعين ومن تبعهم إلى يوم الحشر واللقاء.
أما بعد:
تذكر يا عبد الله: أنك بين يدي الله موقوف لا محالة، وسيكلمك ربك ليس بينك وبينه ترجمان، فتنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أمامك فلا ترى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة.
يا هذا الى متى توعظ فلا تتعظ, كم مرة نصحك الناصحون, وذكَّرك بالله الصالحون, ومرت بك الآيات والعبر, فإلى متى أنت غافل.
أراك تعلم -ياعبد الله- أن الدنيا زائلة, وأنك عنها عما قريبٍ راحل, فلمَ الاهتمام بها والركون إليها, ياباني الدنيا؛ سيخرب ما تبنيه, يا جامع المال؛ ستتركه خلفك شئت أم أبيت, دارُك الآخرة, ووطنُك بعد موتك, إياك أن تعمر دنياك وتخرب آخرتك فتندم مع النادمين, يوم لا ينفع ندم.
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا * * * فَالمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِيْنَا وَيُفْنِيْهَا
وَمَنْ يَكُنْ هَمُّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَهَا * * * فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيْهَا
اعمل لِدَارِ البَقَا رِضْوَانُ خَازنُهَا * * * الجَارُ أحْمِدُ والرَّحمنُ بَانِيْهَا
أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ والمِسْكُ طِيْنَتُهَا * * * وَالزَّعْفَرانُ حَشِيْشٌ نَابِتٌ فِيْهَا
مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً في العَدْنِ عَالِيةً * * * في ظَلِّ طُوبى رَفِيْعَاتٌ مَبَانِيْهَا
مَنْ يَشْتَرِيْ الدَّار في الفِرْدَوْسِ يَعْمُرَهَا * * * بِرَكْعَةٍ في ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيْهَا
أَمْوَالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا * * * وَدَارُنا لِخَرَاِب الدهر نَبْنِيْهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوتِ يَسْكُنُهَا * * * إِلا التي كانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيْهَا
فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْر طَابَ مَسْكَنُهُ * * * وَمَنْ بَنَاهَا بِشرِّ خَابَ بِانِيْهَا
فَاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى ما دُمْتَ مُقْتَدِرًا ّ* * * واعْلَمْ بِأَنّكَ بَعْدَ المَوْتِ لاقِيْهَا
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي