الصدق مع الله –تعالى- هو الدين كله والإنسان متى أقبل بقلبه إلى الله، وكان يعلم من عظمة الله ما يوجب الحياء منه -تبارك وتعالى-، وإن من أعظم ما يمكن أن يهبك الله إياه أن يرزقك في قلبك أن تستحي منه -جل ذكره-، وكم من عبد لله صالح في مواطن كثر من الأرض دنت منهم المعصية وقدروا عليها وتمكنوا منها، لكن منعهم من أن يتلبسوا بها حياؤهم من ربهم -جل وعلا-، ومن استحيى من الله كان حقيقًا أن يكرمه الله يوم العرض الأكبر، وأن يظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يكتب له الله الدرجات العلى من الجنة وأن ينزله الله -جل وعلا- المنازل الحسنة قال ربنا (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)..
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بلَّغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيًّا عن أمته، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحَّد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن وخشيته -تبارك وتعالى- في الغيب والشهادة؛ فإن تقوى الله أفضل زاد ليوم الميعاد (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].
ثم اعلموا عباد الله أن الله يقول في كتابه العظيم وقوله الحق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:115]، قال أهل التفسير من العلماء في قول -جل وعلا- (لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ) أي: لا يستطيع أحد أن يغيِّر ما أخبر الله أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله، وعلى هيئته التي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها، فتبديل كلمات الله محالٌ على كل أحد، فما قضاه الله -جل وعلا- وقدَّره وأخبر عنه سيكون على الحال التي قضاها وقدرها وأخبر عنها تبارك اسمه وتعالى جده.
عباد الله: ألا وإن من كلمات الله التي قضاها وحكمها وقدرها أن محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل وسيد الأنبياء، وأنه -جل وعلا- بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، فأتم به الرسالات، وختم به النبوات، فلا نبي بعده -صلوات الله وسلامه عليه-، فكما أن أمته آخر الأمم فهو -عليه الصلاة والسلام- آخر الأنبياء، وقد كتب الله له أنه صاحب اللواء المعقود والحوض المورود، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أول مَن يحرِّك بيديه حلقة باب الجنة، جعلني الله وإياكم ممن يكون معه يومئذ ويزاحم في دخولها.
قضى الله -جل وعلا- أن هذا النبي الخاتم ختم الله به الأنبياء، فكل مَن ادَّعى النبوة بعده فهو كذَّاب أفَّاك أثيم ليس في دعواه إلا الدجل والكذب، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق على الله:
شُمُّ الجِبالِ إِذا طاوَلتَها اِنخَفَضَت *** وَالأَنجُمُ الزُهرُ ما واسَمتَها تَسِمِ
اللَهُ قَسَّمَ بَينَ الناسِ رِزقَهُمُ *** وأنتَ خُيِّرتَ في الأَرزاقِ وَالقِسَمِ
إِن قُلتَ في الأَمرِ لا أَو قُلتَ فيهِ نَعَم *** فَخيرَةُ اللَهِ في لا مِنكَ أَو نَعَمِ
فمحبته مع الإيمان به من قبل وتصديقه وامتثال أوامره واجتناب نهيه هي الدين كله وهو من أعظم رضوان الله -جل وعلا- على العبد فإن الله -جل وعلا- جعل الطريق الموصل إلى رحمته إنما يكون بهديه -صلوات الله وسلامه عليه-.
قضى الله -جل وعلا- أن آل البيت -عليهما السلام- آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم من الحق ما ليس لغيرهم لقرابتهم منه -صلوات الله وسلامه عليه-، فالله يقول (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى: 23].
وقال -عليه الصلاة والسلام- لعمه العباس لما شكا إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم قال: "والله لا يؤمن أحدكم حتى يحبكم لله ولقرابتي".
فآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم المقام المبجَّل في الدين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم -صلوات الله وسلامه عليه-:
وكم أبٍ علا بابنٍ ذرى شرفٍ *** كما علتْ برسولِ الله عدنانُ
وحسبهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمَّ فاطمة وعليًّا والحسن والحسين في كساء ممرط وهو معهم، وقال: "اللهم هؤلاء آلي فصلِّ على محمد وعلى آله"، كما أنه -عليه السلام- لما دعته نصارى نجران إلى المباهلة أخرج هؤلاء الأربعة الكرام عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، وأراد أن يباهل بهم كما أمر الله أن يباهل بهم نصارى نجران، فلما رأى النصارى هؤلاء، قالوا: "إن هذه الوجوه لو سألت نقل الجبال عن أماكنها لأزالها".
والمراد أن المؤمن لا يجفو عنهم، ولا يغلو فيهم، لكنَّ محبتهم دين وملة وقربة لمقامهم وكرامتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم كثر، لكنَّ منهم أبا السبطين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم الزهراء فاطمة والحسن والحسين، ومنهم قثم بن العباس -رضي الله عنه وعن أبيه-.
وقثم هذا آخر هذه الأمة عهدًا بنبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ ذلك أنه كان واحدًا ممن نزلوا القبر الطاهر الشريف ليدفنوا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وكان قثم يوم ذاك أصغرهم سنًّا لصغر سنه، تأخر في الصعود من القبر، فخرج العباس وخرج عليّ، وخرج أسامة، وخرج الفضل، وبقي هو في القبر، ثم خرج هو -رضوان الله تعالى عليه-، فآخر الناس عهدًا من هذه الأمة برسولها -صلى الله عليه وسلم-، قثم بن العباس ابن عم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وهذه منقبة عظيمة لقثم يخلدها له التاريخ؛ إذ إن كون الإنسان من هذه الأمة يكون آخر الناس عهدًا برسول الله منقبةٌ جليلةٌ له يتمناها كل أحد.
قضى الله وحكم أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شامة في جبين الأيام وتاج في مرفق الأعوام، فحبهم والترضِّي عليهم، ومعرفة حقهم وإجلالهم هذا من الدين بلا ريب، ولا شك؛ لأن الله يقول وقوله الحق: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ) [الأنعام: 19]، فلا أحد أعظم شهادة من الله، والله شهد لهؤلاء الأصحاب بعلو المنزلة ورفيع المكانة؛ قال الله عن السابقين الأولين منهم (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) فرب العالمين يقول (رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [التوبة: 100].
فهل يقبل بعد قول رب العالمين أن يأتي أحد لم يبلغ من العلم شبرًا وملئ قلبه حقدًا وحسدًا أن يتكلم فيهم أو يتحدث عنهم بسوء، أو أن يحاول أن ينتقصهم جميعًا أو أفراد منهم، كل ذلك مردود على صاحبه والله -جل وعلا- يقول: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي أصحابه (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بينهم) [الفتح: 29].
وآخرهم موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة -رضي الله عنه وأرضاه- هذا كان صبيًّا صغيرًا يوم حجَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فرأى بعينيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يستلم الحجر بمحجن في يده، فخلدت هذه الهيئة في ذهنه، وكان سنه يوم ذاك ثماني سنين، ثم عُمِّر حتى أجمع أهل السير أنه آخر الصحابة موتًا -رضوان الله تعالى عليه-.
ومعنى أنه آخر الصحابة موتًا أنه بقي على الأرض يقول: لم يبقَ على وجه الأرض أحد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنا، وتلك مفخرة عظيمة؛ لأن رؤيته -عليه الصلاة والسلام-، والإيمان به، ونيل شرف الصحبة من أعظم العطايا وأجلّ المناقب، جعلني الله وإياكم ممن يحشر مع نبيه في الآخرة.
عباد الله: قضى الله وحكم أنه ثمة مواطن فضلها الله أرضًا، وفضَّلها الله أهلاً، والله يقول (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34]، وإن من الديار التي فضَّلها الله -جل وعلا- الشام ديارًا وأهلاً، قال -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أبي أمامة الباهلي: "إن الله استقبل بي الشام، وجعل اليمن وراء ظهري، وقال لي يا محمد إنني جعلت ما تجاهك غنيمة ورزقًا، وجعلت ما خلف ظهرك –أي: أهل اليمن- مددًا"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيده ليبلغن هذا الدين مبلغ النجم".
وكل أحد يعلم أن الحزب البعثي الكافر في بلاد الشام مكث قرابة أربعين عامًا ينشر تعاليمه في المعاهد والجامعات، وكل ما يمكن أن يكون مكان تحصيل علمي تارة بالقلم وتارة بالزناد، وبعد أربعين عامًا لم يجنِ إلا أن الناس جلهم على دين الفطرة على الإيمان بالله على اليقين ببعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
رفع أولئك الأخيار شعارات "لن نركع إلا لله"، وشعارات "الله مولانا ولا مولى لهم"، وهذه الأخبار مع ما فيها من أليم الجرح وعظيم القرح إلا أنها تزيد المؤمن يقينًا بربه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يبلغ عن ربه ويقول: "إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تكفل لي بالشام وأهله"، فصنع أولئك البعثيون ما صنعوا عشرات العقود، فأبطل الله -جل وعلا- هذا العمل، وأبقى الله -جل وعلا- الإيمان في قلوب الأخيار حتى يزداد الناس يقينًا بصدق ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن الله الذي نصَر نبيه وأصحابه يوم أُحد بعد ما أصابهم القرح لقادرٌ أن ينصر أهل الشام بعدما أصابهم القرح في عصرنا هذا، نسأل الله أن يعجل بنصرهم.
أيها المؤمنون: مما حكم الله وقضى وقدر أن الله كتب الموت على كل نفس، فقهر الله -جل وعلا- بالموت جميع خلقه، فما من ذي روح إلا وستفارق روحه جسده، والذي لا يحول ولا يتحول ولا يصيبه معرة أبداً وجه العلي الأعلى جل جلاله، قال الله في آية محكمة (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) أي ميت (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 27].
ومعنى "ذو الجلال والإكرام" أنه -جل وعلا- أحق أن يُعبَد ولا يُعبَد غيره، ومعنى والإكرام أنه -جل وعلا- أحق أن يُحَب فكل شيء نحبه إنما يكون لحبنا لله، فمن أراد الله به خيرًا جعل في قلبه هاتين المنقبتين؛ تعظيم الله وعبادته وحده دون سواه مع محبته لربه وخالقه وسيده ومولاه.
وقد قال الله -جل وعلا-: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 78]، وقال يخاطب أشرف خلقه وسيد رسله (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88]، فقضى الله -جل وعلا- بالموت على كل أحد حتى يعلم كل أحد أنه عبد مقهور لله.
جاء في الأخبار أن الله لما بعث موسى وهارون إلى فرعون قال لهما: "لا يروعنكم ما ستريان عليه من زينة الدنيا؛ فإن ناصيته بيدي".
فما من أحد مهما عظُم ملكه وامتد سلطانه ودامت أيامه في قديم الدهر أو في حديثه أو فيما هو قادم إلا وهو عبدٌ لله -جل وعلا- ناصيته بيد رب العالمين وحده تبارك اسمه وجل ثنائه.
مما قضى الله -جل وعلا- وحكم أن الناس يقبرون في الأرض قال ربنا في كلمة محكمة لا تبدل (مِنْهَا) أي الأرض (خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) أي تقبرون (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 55].
ولهذا المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام- رُفع ولم يمت بعدُ، ثم ينزل في آخر الزمان ليدق الصليب ويقتل الخنزير ويرفع الجزية، ثم يموت ويُقبَر في الأرض؛ لأن كلمات الله لا تُبدَّل وسُنن الله -جل وعلا- لا تغير، فهو قد رُفع حينًا من الدهر إلى السماء، لكن آخر الأمر ينزل ليموت على الأرض بعد سنين يعيشها يقيم فيها الدين والملة، ثم يحفر له في الأرض، ثم يدفن ويوارى؛ سُنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، والقبور أول منازل الآخرة منها ما هو نعيم لأهلها، ومنها -عياذًا بالله- ما هو جحيم على أصحابها يلقى الإنسان فيها عمله؛ فإما أن يبشر بخير وإما أن يبشر بشر.
ختم الله لي ولكم بخير، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ألا وإن مما قضاه الله -جل وعلا- وحكمه وقدره وأمضاه أن الخلق يحشرون بين يديه، فهذا كائن لا محالة قال ربنا: (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1] وقال ربنا (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]، فالخلق جميعًا جنًّا وإنسًا يُحشَرُون بين يدي ربهم -جل وعلا- ليتم بينهم الفصل ويقوم عليهم الحساب يقف الناس في أرض المحشر صفًّا واحدًا جميعًا إنسًا وجنًّا لا يواري أخ أخاه ولا أحد أحدًا كائنًا من كان، قال ربنا (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف: 48].
وينفع المؤمن يوم يومئذ تقواه التي كان في الدنيا، ومن أراد الله به خيرًا يوم القيامة ألبسه لباس التقوى في الدنيا، فإذا ألبسه الله لباس التقوى في الدنيا فقد كساه حلل الإيمان والستر والعافية يوم يلقاه، وذلك من أجلّ الغايات وأعظم المطالب.
والتقوى وإن كانت كلمة جامعة مانعة إلا أن من معانيها أن يعظم العبد ربه في قلبه، وحظ كل أحد من رحمة الله على قدر حظه من تعظيمه لربه -تبارك وتعالى-.
ومن التقوى أن يكون المؤمن يسابق إلى بيوت الله يأتيها يرغب فيما فيها من الذكر، قال الله (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) [النور: 36- 37].
وأعظم ذلك صلاتي العشاء والفجر؛ لأنها بمثابة البراءة للمؤمن من النفاق، وصلاة الفجر والعصر؛ لأن ملائكة الرحمان تشهدهما، وإن من أعظم النوال وأجل العطايا أن تشهد الملائكة صلاة، ثم تراك فيها، ثم ترفع اسمك إلى العلي الأعلى، وإن من الخزي أن تأتي الملائكة إلى الفجر والعصر فلا تراك، فلا يُرفع اسمك إلى العلي الأعلى، ومن تيقن هذا وآمن به وتلا على نفسه (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78].
إذا مشى بخطواته إلى صلاة الفجر يكاد يقتله الفرح أنه يعلم أن الملائكة سترفع اسمه إلى العلي الأعلى، والله يعلم ذلك من قبل، وإذا مضى لصلاة العصر اصطحب أن الملائكة ستشهد عند ربها -جل وعلا-، وتلك والله الشهادة التي يبتغيها المؤمنون ويرقبها الصالحون، ويؤمل فيها عباد الله المؤمنون جعلني الله وإياكم منها.
ألا وإن من تقوى الله تعظيم نهيه: حرم الله الربا فلا يقربه المؤمن (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].
حرم الله الزنا في الشرائع كلها فلا يقربه المؤمن ويفر منه؛ لأن الله يقول: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء:32]، ونبينا -عليه السلام- رأى نساء ورجالاً عراة في تنور ضيق من أعلاه واسع من أدناه يتضاغون فيه، قلت: "من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني".
حرم الله -جل وعلا- عقوق الوالدين، وأمر ببرهما فيأتي المؤمن إلى أبويه أحدهما أو كلاهما، فيخفض له الجناح ويختار الكلم الطيب ويقوم ببرهما عملاً بقول الله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
فهذه أصول الطاعة وما بعدها تبع لها، وكل ذلك مندرج في تقوى الله والله يقول (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
كما أن الله -جل وعلا- حكم وقضى أن الصدق معه أعظم المنجيات، قال الله في زمن التكليف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]، وكان في زمن البعث والنشور قال الله: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة: 119].
فالصدق مع الله –تعالى- هو الدين كله والإنسان متى أقبل بقلبه إلى الله، وكان يعلم من عظمة الله ما يوجب الحياء منه -تبارك وتعالى-، وإن من أعظم ما يمكن أن يهبك الله إياه أن يرزقك في قلبك أن تستحي منه -جل ذكره-، وكم من عبد لله صالح في مواطن كثر من الأرض دنت منهم المعصية وقدروا عليها وتمكنوا منها، لكن منعهم من أن يتلبسوا بها حياؤهم من ربهم -جل وعلا-، ومن استحيى من الله كان حقيقًا أن يكرمه الله يوم العرض الأكبر، وأن يظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يكتب له الله الدرجات العلى من الجنة وأن ينزله الله -جل وعلا- المنازل الحسنة قال ربنا (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 32- 35].
عباد الله: إن يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي