الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

عناصر الخطبة

  1. حاجة الأمة إلى معرفة خالقها
  2. من روائع ودقائق لفظ الجلالة
  3. اسم (الله، والإله) في القرآن والسنة
  4. معاني لفظ الجلالة (الله، والإله)
  5. دلالة الاسمان (الله والإله) على أوصاف الله سبحانه
  6. الدعاء والتعبد لله باسميه (الله والإله)
  7. آثار الإيمان باسم الله
  8. أين نحن من محبة الله -جل جلاله-؟!.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الواحد الأحد، القيوم الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واقدروه حق قدره، وتفكروا في نعمه وآلائه، فكم لله من نعم علينا ما شكرناها، وكم من منّة ما حمدناه عليها، فأطيعوا أمره، وتعرفوا على ربكم، فإن من عرفه أحبه لكماله وجلاله، وإذا أحبه أطاعه ولا بد.

عباد الله: ما أحوج الأمة في هذه الأزمان إلى معرفة الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويغدق العطاء، ويرسل النعم، -سبحانه وتعالى-.

واعلموا -أيها المؤمنون- أن الله –سبحانه- كل يوم هو في شأن: يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، يحيي ميتًا، ويميت حيًا، ويجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويُرشد حيرانًا، ويغيث لهفانًا، ويفك عانيًا، ويشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً، سبحانه ما أعظمه!!.

تبارك الله ربنا أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع، ورفع ووضع. وحده لا شريك له، رب العالمين الذي مَن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، سبحانه.

ومن علم ذلك جيدًا تيقن أن في القلب شعثًا لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدًا، -سبحانه وتعالى-.

يا عباد الله: إن من روائع ودقائق لفظ الجلالة -الله- أنه هو الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته؛ لأنه -سبحانه- الكامل على الإطلاق دون غيره، وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه؛ لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو، وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا.

تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به، وهو الذي يخضع له العبد ويذل، وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له -سبحانه-، فهو يذل وينقاد له -سبحانه- مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له -جل وعلا – حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصفاته، المستحق لذلك كله.

وتيقنوا -أيها الإخوة- أن الإله هو المألوه وحده، المحبوب المطاع، المستحق أن يُفرد بالعبادة وحده، تفرد بالصفات التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد ويُحَبّ لأجلها، فيؤله ويُحَبّ لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفرد بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله ويُحَبّ لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا، وحُكْمًا، وحكمةً، وإحسانًا ورحمة، وقدرة وعزة، وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفرّد بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه.

كما أنَّ كل ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده، والتأله له وحده، وهو الغني وكل من سواه إليه فقير، وهو القوي العزيز وكل من سواه عاجز ذليل، وهو الجواد الكريم، فلا غنى لأحد عن كرمه طرفة عين ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70].

والله -سبحانه- هو النور، وحجابه النور، احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره. عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك؟ قال: ” نُورٌ أنَّى أرَاهُ ” (مسلم  178). وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه بقوله: “حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ” (مسلم 179).

والله -سبحانه- هو المألوه المعبود المحبوب، والعباد مولعون بالتضرع إليه في جميع الأحوال، فالإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية، فهنالك ينسى كل شيء إلا الله -تعالى-، فيتوجه إليه، فإذا تخلص من ذلك البلاء، وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء، أشرك مع الله غيره، ونسب ذلك الخلاص إلى الأسباب وهذا متناقض؛ لأن الله -تعالى- هو الذي يفرج الكربات وقت البلاء، وينعم على العباد في وقت الرخاء، فيجب الرجوع إليه في جميع الأحوال، والفزع إليه عند الضرورات، وعند الشدائد.

وثقوا -أيها الإخوة- أن الله -عزَّ وجلَّ- هو المحسن إلى عباده في جميع الأحوال، والمحسن محبوب مرجوع إليه وحده في كل الأوقات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)﴾ [البقرة: 21، 22]، فسبحان من تفزع إليه الخلائق عند النوائب، المجير لكل الخلائق من كل المضار، المنعم عليهم بصنوف النعم، وصدق سبحانه إذ يقول: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53].

يا عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الله والإله، وقد ذُكر اسم “الله” في القرآن في (2724) موضعًا، من تلك المواضع في القرآن الكريم قوله -تعالى-: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، وقوله -سبحانه-: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [النساء: 87]. وقوله -جل وعلا-: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) [آل عمران: 2]. وفي اقتران لفظي الله والإله جاء قوله -تبارك وتعالى-: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [طه: 8]. وقوله سبحانه: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: 26].

واعلموا -عباد الله- أن كل الأسماء الحسنى تُضاف إليه، ولا يُضاف هو إلى غيره، ولذلك قال -تعالى-: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وقال -سبحانه- يمجد ذاته العلية: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24)﴾ [الحشر 22- 24]. فسبحان الله الملك الحق رب العالمين، خالق الخلائق ورازقهم، ومحيهم ومميتهم، لا غنى عنه ولا أكرم منه، شمل عباده بكرمه ولطفه ومنّه سبحانه وتعالى.

وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه، وهو أعرف الخلق به، وأثنى عليه بأجلّ أوصاف الكمال والجلال، ومن تلك النعوت والأسماء الحسنى لفظ الجلالة (الله، والإله) ووردا الاسمان في عدد كبير جدًّا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما صح عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأَرْبَعٍ: “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ” (مسلم 179). وفي رواية في صحيح ابن حبان قال: “إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور لو كشف طبقها أحرق سُبحات وجهه كل شيء أدركه بصره“. (صحيح ابن حبان 266).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يناجي ربه مثبتًا له اسم الإله، والرب، والله، فكان يقول كما صح عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ ” (البخاري 6306).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلّم أصحابه الالتجاء إلى الله، والاحتماء به عند الشدائد، والإلحاح على الله بأسمائه الحسنى، فعن عَبْد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا أَصَابَ مُسْلِمًا قَطُّ هَمٌ أَوْ حُزْنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا” (مسند أحمد 3712، والحاكم وابن حبان، وصححه الألباني).

أيها المؤمنون: ولفظ الجلالة ﴿الله﴾ لغةً مأخوذ من الإله، وهو المحبوب المطاع. والله -سبحانه- هو أعرف المعارف عَلَم على ذات الله -تعالى-، لم يُطلق على غير الله وحده، فلا يوجد أحد اسمه الله سوى الله وحده، قال -سبحانه-: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [طه: 65]، وقال تبارك و-تعالى-: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء 110].

فهذان الاسمان (الله، والرحمن) أعظم الأسماء، واسم الله أعظم من اسم الرحمن؛ لأن الله قدَّمه في الذكر، ولأن اسم ﴿الله﴾ يدل على كمال الرحمة، وكمال القهر والغلبة، وكمال العظمة والعزة، واسم ﴿الرحمن﴾ يدل على كمال الرحمة، ولا يدل على كمال القهر والغلبة، والعظمة والعزة، فثبت أن اسم الله -تعالى- أعظم الأسماء.

قال القرطبي -رحمه الله-: “وهذا الاسم هو أكبر أسمائه، وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسمَّ به غيره، ولذلك لم يُثن، ولم يُجمع، وهو أحد تأويلي قوله -تعالى-: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، أي: هل تعلم من تسمَّى باسمه الذي هو ﴿الله﴾، ﴿فالله﴾ اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه“. (تفسير القرطبي 1/102).

فالله -سبحانه- أجل الأسماء، عَلَم على الذات الإلهية، أعرف المعارف الله -سبحانه تعالى-، لا يُسمى به إلا هو -سبحانه وتعالى-، وما بعده من الأسماء تكون صفات له، تقول: الحمد لله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فما بعده تكون صفة له.

والله -سبحانه- هو المألوه الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالاً، وتعظيمًا ورغبةً ورهبةً، وغير ذلك من معاني العبودية لله عز وجل؛ ولهذا قال ابن عباس -رحمه الله-: “الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين”. فالله -عزَّ وجلَّ- هو المعبود بحق المستحق لإفراده بالعبادة؛ لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال.

فـ﴿الله﴾ -سبحانه- هو الذي تألهه الخلائق وتحبه، وترجوه وتخافه، وتفزع إليه في الحوائج والنوائب؛ وذلك لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. واسم الله -تبارك وتعالى- دالّ على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العلا، مستلزم لجميع الأسماء الحسنى، دالّ عليها بالإجمال. والأسماء الحسنى فيها تفصيل وتبيين لصفات الإله، الذي اشتق منه اسم ﴿الله﴾. وذلك مستلزم لجميع صفات كماله -سبحانه وتعالى-.

فصفات الجلال والجمال أخص باسم ﴿الله﴾، وصفات الخلق والفعل، والقدرة والقوة، ونفوذ المشيئة، والتفرد بالنفع والضر، والعطاء والمنع، وتدبير أمر الخلائق أخص باسم ﴿الرب﴾، وصفات الإحسان والإنعام، والجود والبر، واللطف والحنان، والمنة والرأفة أخص باسم ﴿الرحمن﴾.

والله سبحانه هو الإله الحق، المعبود بحق، المستحق للعبادة وحده دون غيره، الذي يجب أن تُصرف جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له وحده لا شريك له؛ لكمال ذاته، وكمال أسمائه، وكمال صفاته، وكمال أفعاله، وعظيم نعمه، وجميل إحسانه. فهو -سبحانه- الإله الحق، ودينه هو الحق، وعبادته هي الحق، وكل ما سوى الله باطل، وعبادة سواه باطلة؛ لأن كل ما سوى الله مخلوق ناقص مدبَّر، عبد مملوك فقير من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئًا من أنواع العبادة.

وقد قامت كلمة التوحيد في الإسلام على معنى الألوهية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية، والألوهية تتضمن كمال علمه وقدرته، ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبَد، وكونه يستحق أن يُعبَد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل“. (دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، 2/364).

عباد الله: إن اسم ﴿الله﴾ جامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، مثل: (الحميد المجيد)، فإن ﴿الحميد﴾ الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله -تعالى-، و﴿المجيد﴾ الذي دلَّ على أوصاف العظمة والجلال، ويقرب من ذلك (الجليل الجميل الغني الكريم). ومثل: ﴿الحي القيوم﴾، فإن ﴿الحي﴾ من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و﴿القيوم﴾ الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بجميع الموجودات، فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.

ومثل: اسمه (العظيم الكبير) الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه، ومثل قولك: (يا ذا الجلال والإكرام) فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب، وغاية الذل وما أشبه ذلك.

واعلموا -أيها الناس- أن الله -سبحانه- هو المتفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، ومغفرة السيئات، وكشف الكربات، وستر الزلات، كما قال -سبحانه-: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107]. فتبارك الله رب العالمين.. وتبارك الله أحسن الخالقين.. والحمد لله رب العالمين.

والله -سبحانه- هو الإله الحق الذي سكنت إليه العقول، واطمأنت بذكره القلوب، والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، فهو الإله الحق الكامل لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته، وإذا كان الكامل محبوبًا لذاته، وثبت أن الله كامل لذاته، وجب كونه محبوبًا لذاته، مستحقًّا للعبادة وحده دون سواه: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].

فيا سعادة من وصل إلى ساحل بحر معرفته، ورأى عظمة ذاته، وأسمائه وصفاته، وأبصر جماله وجلاله وكماله، وشاهد آلاءه وإحسانه وأفعاله، فمجَّده بلسانه، وعظَّمه في قلبه، وشكره بجوارحه، وتلذَّذ بعبادته وطاعته.

اللهم عرفنا بك فلا ننساك، وارزقنا حبك، والشوق إلى لقائك، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس لفضله منتهى ولا مدد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير مولود وأشرف ولد، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلامًا بغير عدد.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- وأحبوه لما يغذوكم به من نعم، وأخلصوا له العمل، وأطيعوا أمره، والتزموا شرعه، وادعوه وحده لا شريك له، واحرصوا عباد الله على إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له؛ فالله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة وحده؛ لأنه -تعالى- هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وكل موجود فإنما حصل بإيجاد الله له، وما حصل للعباد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فغاية الإنعام من الله، والعبادة غاية التعظيم، وغاية التعظيم لا تليق إلا بمن صدرت عنه غاية الإنعام، وهو الله -عزَّ وجلَّ-، فثبت أن المستحق للعبادة ليس إلا الله -تعالى-.

ولا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن سؤال ربه ودعائه باسمه الله، فإن أكثر ما يُدعى الله -تبارك وتعالى- بلفظ: ﴿اللَّهم﴾، ومعنى: اللَّهم، يا الله، يا من لك كل كمال وكل جلال، ولهذا لا تُستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللَّهم غفور رحيم، بل يقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه كثيرًا بقوله: “اللَّهم”. (أسماء الله الحسنى (بتصرف)، د. الأشقر، ص 33، 34).

وقد ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله -تعالى- عن يونس – عليه السلام -: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:87] . وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ الله لَهُ” (الترمذي (3505) وصححه الألباني).

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما- أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: “لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَلِىُّ العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ” (ابن ماجه (3883)، وصححه الألباني). وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: “الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأبْرُدُوهَا بِالمَاءِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنٍ لِعَمَّارٍ، فَقَالَ: اكْشِفِ البَاسْ رَبَّ النَّاسْ، إِلَهَ النَّاسْ” (ابن ماجه (3471)، وصححه الألباني). وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “اللهمَّ أَنْتَ المَلِكُ، لاَ إِلَهَ لِي إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ” (مسلم (771)).

واعلموا -أيها المسلمون- أن الله -عز وجل- يحب الإلحاح في الدعاء، ويغضب على من لا يسأله، وقد ثبت دعاء الله باسميه الله والإله، وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَة الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ“، قَالَ: فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى” (الترمذي (3475) وصححه الألباني).

أيها المؤمنون: ويظهر أثر الإيمان بالله على العبد في تحقيق التوحيد والخضوع لله، واعلموا أن توحيد الألوهية هو الغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وهو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، كما قال -تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، فوجب على المسلم الذي اعتقد أن إلهه هو الإله الحق، وأن كل ما سواه خاضع له طوعًا وكرهًا أن يوجّه قصدَه وطلبَه في الحياة إلى العمل في مرضاته، وأن يسلك أقرب الطرق والوسائل إليه، وهو طريق السنة والاتباع دون الهوى والابتداع، فالهداية التامة تتضمن توحيد المطلوب، وتوحيد الطلب، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، والانقطاع أو تخلف الوصول إليه يقع من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها. (التبيان في أقسام القرآن لابن القيم، ص 44).

والعبد إذا حقّق توحيد الألوهية، ورسخت قدمه في طاعة ربه، والالتزام بشرعه، صار عبدًا ربانيًّا يحفظه الله في حركاته وسكناته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ” (البخاري 6502).

ومن ثَم فإن المسلم إذا وفَّقه الله إلى الطاعة، واجتهد في أحكام العبودية، وأدى توحيد الألوهية، نسب الفضل في طاعته إلى ربه، وأنها كانت بمعونته وتوفيقه؛ لما سبق من قضائه وقدره، ولا ينسب الفضل في ذلك إلى نفسه؛ أو يمُنّ به على ربه، وإذا أحدث ذنبًا أو معصية علم أن أفعاله، وإن كانت بمشيئة الله وحكمه وقضائه وقدره إلا أن النسبة في العصيان مردها إلى الإنسان، أو وسواس الشيطان، فيدعوه ذلك إلى التوبة، وطلب الغفران، ويقرّ لربه بذنبه، وأن معصيته بسبب تقصيره وخطئه، وأنه مستحق للعقاب بحكمه وعدله، وأن ربه منزّه عن ظلم أحد من العالمين، فإن أدخل عبدًا الجنة فبفضله، وإن عذّبه في النار فبعدله، فهذا هو العبد الذي وحّد الله حقًّا في اسمه الإله، وكان سلوكه في الحياة دعاء عبادة لله -عز وجل-.

وإذا عرف المؤمن معنى هذا الاسم العظيم، وما يستلزم من الأسماء الحسنى والصفات العلا لله -تعالى-، فإنه يطبع في القلب معاني عظيمة وآثارًا جليلة من أهمها: محبة الله -عز وجل- محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس، والأهل، والولد، والدنيا جميعًا؛ لأنه المألوه المعبود وحده، وهو المنعم المتفضل وحده، وهو الذي له الأسماء الحسنى، وهو الذي له الخلق والأمر، والحمد كله، وهذا يستلزم محبة من يحبه الله -تعالى- وما يحبه، وبغض ما يبغضه -سبحانه-، ومن يبغضه، والموالاة والمعاداة فيه. ولا يذوق طعم الإيمان إلا من أحب الله -عز وجل- الحب كله، وأحب فيه، وأبغض فيه.

وهذا معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار” (البخاري 16)، ولله المثل الأعلى، لو أن مخلوقًا تحلى بصفات الكمال الإنسانية التي يحبها الناس ومع ذلك كان له نعمة ويد على أحد من الناس، فماذا سيكون شأن هذا المخلوق في قلوب هؤلاء الناس؟.

لقد جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، ولا شك أن أعظم المحبة تكون لرب العالمين، والأنس به، والتلذذ بطاعته، فكل ما أصابك من نعمة فهي من الله -عز وجل-، نِعَمه مدرارة على خلقه في كل نفس وزمان ومكان، فهو المستحق للحمد كله، والحب كله، والخوف كله، والرجاء كله، وكل أنواع العبوديات المختلفة، سبحان الواحد الأحد. ولذا يجد العبد راحة وطمأنينة عندما يدعو ربه -عز وجل- ويقول: “يا الله أو: اللَّهم” حيث يسكب ذلك في نفسه الأمان والرجاء، والإيواء لرب العالمين –سبحانه-.

يقول الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: “وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي، والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته، وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كل قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين، وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كل محبوبات النفوس الدينية والدنيوية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبّه من أشخاص وأعمال، وأزمنة، وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعًا لإلههم وسيدهم ومحبوبه.

ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد، أنابوا إليه، فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك، وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًّا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة؛ حيث قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: 63]، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته، وتبوؤوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه، وثوابه، وكرامته برحمته“. (فتح الرحيم الملك العلام ص 21، 22).

واحرصوا -عباد الله- على تعظيم الله -سبحانه-، وإجلاله، وإخلاص العبودية له وحده من توكل، وخوف، ورجاء ورغبة، ورهبة، وصلاة، وصيام، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبوديات التي لا يجوز صرفها إلا له -سبحانه-.

وينبغي أن يستشعر المسلمون بالاعتزاز بالله -سبحانه- والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم؛ فهو الله -سبحانه- خالق كل شيء، ورازق كل حي، وهو المدبر لكل شيء، والقاهر لكل شيء، فلا يعتز المسلم إلا به، ولا يتوكل إلا عليه. وكم من بشر اعتزوا بأموالهم فما لبثت أن ضاعت تلك الأموال فضاعوا، وكم من بشر اعتزوا بسلطانهم، فجاءت النهاية بزوال سلطانهم فما كان منهم إلا أن قالوا: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29)﴾ [الحاقة: 28 – 29].

فالمؤمن لا يحتمي، ولا يعتز إلا بالله العظيم القوي المتين، الكبير المتعال، ولا يتوكل إلا عليه وحده: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58].

واعلموا -عباد الله- أن من أعظم آثار الإيمان بالله رب العالمين ومعرفته حق المعرفة: طمأنينة القلب وسعادته، وأنسه بالله عز وجل، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: “فإن اللذة والفرحة، وطيب الوقت، والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه و-تعالى- وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب… وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه. وهذه حقيقة لا إله إلا الله“.(مجموع الفتاوى 28/31).

وعلى العباد أن يفردوا الله -عز وجل- بالمحبة والولاء، وإفراده -تعالى- بالحكم والتحاكم. وصدق الله إذ يقول: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: 114].

وختامًا -أيها المسلمون- إن القلب لا يفلح، ولا يصلح، ولا يتنعم، ولا يبتهج، ولا يلتذ، ولا يطمئن، ولا يسكن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقًا حتى يظفر بما خلق له وهيئ له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه، فإن فيه فقرًا ذاتيًّا إلى ربه وإلهه من حيث هو معبوده ومحبوبه، وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرًا ذاتيًّا إليه من حيث هو ربه وخالقه، ورازقه، ومدبره، وكلما تمكّنت محبة الله من القلب، وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له.

إن الإله الحق هو الذي تألهه القلوب: محبةً وإنابةً، وإجلالاً وإكرامًا، وتعظيمًا، وذلاً وخضوعًا، وخوفًا ورجاءً، وتوكلاً، والله سبحانه هو الذي يربّي عبده، فيعطيه خَلْقَه، ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا رب غيره، وربوبية ما سواه أبطل الباطل.

أليس الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه و-تعالى- جدُّه، ولا إله غيره أولى بمحبة عباده من أنفسهم؟! وكل ما وصل منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.

فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، ولطفه وبره، ورحمته وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته؛ من غير حاجة منه إليه، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه، كل ذلك داعٍ للقلوب إلى تألهه ومحبته، بل تمكينه عبده من معصيته، وإعانته عليها، وستره حتى يقضي وطره منها، وكلاءته وحراسته له، وهو يقضي وطره من معصيته؛ وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه: من أقوى الدواعي إلى محبته.

فلو أن مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك؛ لم يملك قلبه عن محبته؛ فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته؛ فخيره إليه نازل، وشره إليه صاعد، يتحبب إليه بنعمه، وهو غني عنه، والعبد يتبغض إليه بالمعاصي، وهو فقير إليه؛ فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه!! فأحبوا ربكم وأطيعوه ووحدوه وأثنوا عليه بما هو أهله.

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وطمأنينة بك، وتوكلاً عليك، وحبك لك، اللهم إني أسألك حبك، وحب من أحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليًّ من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد على الظمأ.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من كل قول أو عمل يقربنا إلى النار، اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.

اللهم اعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل أوسع أرزاقنا عند ضعفنا وكبر سننا، اللهم لا تحوجنا إلا إليك، ولا تذلنا إلا بين يديك، وصب علينا الرزق صبًّا، ولا تجعل معيشتنا كدًّا.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، آمين.. آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع