من سنن الله تعالى في خلقه (7) فشل الظالمين وهلاكهم

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. تأملات في سنن الله الكونية .
  2. قهر الله للظالمين .
  3. عقوبة الظالم لا تتخلف .
  4. سُنة الإهلاك والعذاب ماضية إلى يوم القيامة .
  5. من سنن الله في معاملة الظالمين .
  6. ثقة المظلومين ويقينهم برب العالمين .
  7. كل ظلم إلى انتهاء وزوال. .

اقتباس

وَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ اجْتِمَاعَ الْقُوَى الظَّالِمَةِ مِنْ صِهْيَوْنِيَّةٍ وَصَلِيبِيَّةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ وَعَلْمَانِيَّةٍ، وَتَآزُرَهَا عَلَى سَحْقِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ فَلْيُوقِنْ أَنَّهُمْ لَنْ يُحَقِّقُوا مُرَادَهُمْ، وَلَنْ يُفْلِحُوا فِي سَعْيِهِمْ، وَلَنْ يَضُرُّوا أَهْلَ الْإِيمَانِ إِلَّا أَذًى؛ بَلْ سَيَرْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ قَضَى فِي الظَّالمِينَ بِعَدَمِ الْفَلَاحِ، وَإِذَا جَانَبَهُمُ الْفَلَاحُ أَخْفَقُوا فِي كُلِّ أَمْرٍ يُبْرِمُونَهُ، وَفِي كُلِّ كَيْدٍ يُدَبِّرُونَهُ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنَ التَّارِيخِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْوَاقِعِ شَاهَدَهَا النَّاسُ، وَلَا يَزَالُونَ يُشَاهِدُونَهَا،...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، الْقَوِيِّ المَتِينِ؛ ذِي الْعِزَّةِ وَالمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، يَسُوقُ الظَّالِمينَ إِلَى هَلَاكِهِمْ، وَيُنْجِي المَظْلُومِينَ مِنْ بَأْسِهِمْ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُمْلِي لِلظَّالمِينَ حَتَّى يَأْمَنُوا، وَيُولِّي بَعْضَهُمْ بَعْضًا لِيَفْرَحُوا، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ لِيَعْمَهُوا، ثُمَّ يُدِيلَ عَلَيْهِمْ فَيُهْزَمُوا، وَمَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَقَدْ حَاكَ أَسْبَابَ هَلَاكِهِ بِيَدَيْهِ، وَمَشَى إِلَى حَتْفِهِ بِرِجْلَيْهِ؛ قَدَرًا مِنَ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؛ لِيُوقِعَهُ فِي شَرِّ أَفْعَالِهِ، فَيَبْكِي نَدَمًا عَلَى حَيَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمٍ (فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام: 45].

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنَ الظُّلْمِ وَمِنَ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالمِينَ، وَأَخْبَرَ عَنْ مَصَارِعِهِمْ فِي الْغَابِرِينَ، وَبَشَّرَ بِانْتِصَارِ المَظْلُومِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ «دَعْوَةَ المَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَدْ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَظَالمُوا.

أَيُّهَا النَّاسُ: سُنَنُ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي عِبَادِهِ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ، فَلَا يَرُدُّهَا قَوِيٌّ مَهْمَا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ، وَلَا تَتَعَجَّلُ لِمُسْتَعْجِلٍ حَتَّى تَبْلُغَ أَجَلَهَا الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَهَا (سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62].

وَمِنْ سُنَنِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي عِبَادِهِ سَوْقُ الظَّالمِينَ إِلَى مَهَالِكِهِمْ، وَإِيبَاقُهُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ. وَهِيَ سُنَّةٌ فِي الظَّالمِينَ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَخَلَّفُ، سَوَاءً كَانَ ظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ أَمْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ، وَسَوَاءً كَانَ ظُلْمُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْعَبَثِ أَمْ كَانَ ظُلْمُهُمْ لِمَصَالِحَ يَظُنُّونَهَا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الظُّلْمِ مُطْلَقٌ مُحْكَمٌ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ أَيُّ اسْتِثْنَاءٍ، فَلَا يُبَاحُ الظُّلْمُ أَبَدًا، فَلَا مَصْلَحَةَ تُبِيحُهُ، وَلَا ضَرُورَةَ مَهْمَا عَظُمَتْ تُرَخِّصُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِيُقْطَعَ الطَّرِيقُ عَلَى الظَّلَمَةِ فَلَا يُسَوِّغُونَ ظُلْمَهُمْ، وَلَا يَعْتَذِرُونَ بِاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، أَوْ تَحْقِيقِ المَصَالِحِ بِهِ.

وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ مُحْكَمًا مُطْلَقًا مُغَلَّظًا فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِظُلْمٍ اقْتَرَفَهُ؛ وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام: 47]، فَلَا هَلَاكَ إِلَّا بِظُلْمٍ، وَلَا ظُلْمَ إِلَّا وَعَاقِبَتُهُ هَلَاكٌ.

وَعُقُوبَةُ الظَّالِمِ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا؛ فَهِيَ عُقُوبَةٌ تُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَكُلُّ الْأُمَمِ الَّتِي عُذِّبَتْ وَأُهْلِكَتْ عُلِّقَ هَلَاكُهَا بِظُلْمِهَا، وَهِيَ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 4-5] وَ(كَمْ) عِنْدَ الْعَرَبِ تُسْتَخْدَمُ لِلتَّكْثِيرِ، فَهِيَ قُرًى كَثِيرَةٌ أُهْلِكَتْ بِظُلْمِهَا، بِدَلِيلِ إِقْرَارِهِمْ بِظُلْمِهِمْ لمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ.

وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الأنبياء: 11] ثُمَّ أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُمْ قَالُوا وَهُمْ يُعَايِنُونَ الْعَذَابَ (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) [الأنبياء: 14-15].

فَكَثْرَةُ الْقُرَى الَّتِي قُصِمَتْ وَأُهْلِكَتْ وَعُذِّبَتْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْإِهْلَاكِ وَالْعَذَابِ مَاضِيَةٌ، وَإِقْرَارُ المُعَذَّبِينَ بِالظُّلْمِ عِنْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ الْعَذَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا عُذِّبُوا وَأُهْلِكُوا بِظُلْمِهِمْ؛ لِتَكُونَ النَّتِيجَةُ: أَنَّ سُنَّةَ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَاضِيَةٌ فِي عَذَابِ الظَّالمِينَ وَإِهْلَاكِهِمْ.

وَفِي تَعْبِيرٍ قُرْآنِيٍّ آخَرَ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) [الحج: 48] (وَكَأَيِّنْ) إِنَّمَا تُسْتَخْدَمُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِتَكْثِيرِ الْعَدَدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي أَخَذَهَا اللهُ تَعَالَى.

فَالتَّعْبِيرُ الْقُرْآنِيُّ بِـ(كَمْ) وَ(كَأَيِّنْ) المُفِيدَتَيْنِ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ عَذَابِ الظَّالمِينَ وَهَلَاكِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الرَّبَّانِيَّةَ فِي الظَّالمِينَ مُضْطَرِدَةٌ لَا تَتَخَلَّفُ. فَيَسْتَبْشِرُ المَظْلُومُونَ بِهَا، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُنْتَقِمٌ مِنَ الظَّالمِينَ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ ظُلْمَهُمْ لِلضُّعَفَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ ضَرَرُهُ عَلَيْهِمْ؛ فَلِلْكَوْنِ رَبٌّ يُدَبِّرُهُ، وَلَهُ -سُبْحَانَهُ- حُكْمٌ يَفْرِضُهُ، وَلَهُ -تَعَالَى- قَدَرٌ يُنْفِذُهُ، وَلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- سُنَنٌ يُمْضِيهَا، فَلَا يَيْأَسُ مُؤْمِنٌ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُوقِنُ بِهِ، وَيَقْرَأُ مَصَارِعَ الظَّالمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

كَمَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي الظَّالمِينَ الْإِمْلَاءَ لَهُمْ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنْ يَسْتَبْطِئُ وُقُوعَ الْوَعِيدِ أَنَّ تَأَخُّرَ الْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. بَلْ سَيَقَعُ وَسَيَكُونُ شَدِيدًا؛ لِأَنَّ الظَّالمِينَ قَدْ قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَيْهِمْ، وَانْقَطَعَتْ مَعَاذِيرُهُمْ، وَهَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].

وَإِنَّمَا يَسْتَبْطِئُ المَظْلُومُ هَلَاكَ الظَّالِمِ؛ لِشِدَّةِ مَا يُعَانِي مِنَ الظُّلْمِ، وَمَا يَجِدُ مِنَ الْقَهْرِ، وَمَا يُحِسُّ بِهِ مِنَ الْغَبْنِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الظُّلْمُ ظُلْمًا فِي الدِّينِ، وَأَذًى فِي ذَاتِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَاسْتِبَاحَةً لِلدِّمَاءِ، وَانْتِهَاكًا لِلْأَعْرَاضِ، وَتَهْجِيرًا مِنَ الدِّيَارِ، وَلَكِنْ مَا يُرِيحُ المَظْلُومَ المَقْهُورَ لَوْ قَرَأَهُ فَتَدَبَّرَهُ قَوْلُ اللَّـهِ –تَعَالَى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42].

 فَإِذَا أَيْقَنَ المَظْلُومُ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى ظُلْمِ الظَّالِمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُهْلِكُ الظَّالمِينَ؛ عَلِمَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِنَّمَا يُؤَخِّرُ هَلَاكَ الظَّالِمِ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ، فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لُطْفٍ اللَّـهِ -تَعَالَى- بِالمَظْلُومِينَ. 

فَلْيَحْذَرِ المُؤْمِنُ مِنِ اسْتِبْطَاءِ وَعْدِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي الظَّالمِينَ؛ لِأَنَّ سُنَنَ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي عِبَادِهِ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا تَتَكَيَّفُ سُنَنُهُ -سُبْحَانَهُ- بِأَهْوَاءِ الْخَلْقِ وَرَغَبَاتِهِمْ، وَإِلَّا لَكَانَ الْخَلْقُ يُشَارِكُونَ اللهَ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا (أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف: 54]، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22].

وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ لِعَذَابِ الظَّالِمينَ مَوْعِدًا مَضْرُوبًا، وَأَجَلًا مَحْتُومًا، قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، فَلَا يَسْتَقْدِمُ عَنْهُ لِرَغْبَةِ المَظْلُومِينَ، وَلَا يَسْتَأْخِرُ عَنْهُ لِرَغْبَةِ الظَّالمِينَ (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف: 59].

وَهَذِهِ السُّنَّةُ فِي هَلَاكِ الظَّالِمينَ، وَاسْتِخْلَافِ المَظْلُومِينَ بَعْدَهُمْ؛ وَعْدٌ مِنَ اللَّـهِ -تَعَالَى- أَوْحَى بِهِ إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ تَأْكِيدًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الرَّبَّانِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي الْأُمَمِ كُلِّهَا (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [إبراهيم: 13-14].

وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف: 136-137].

فَيَا لَلَّـهِ الْعَظِيمِ، مَا أَعْظَمَهَا مِنْ سُنَّةٍ! وَمَا أَكْثَرَ وُقُوعَهَا فِي الْأُمَمِ المُتَتَابِعَةِ! وَمَا أَقَلَّ اعْتِبَارَ الظَّالمِينَ بِهَا! وَمَا أَسْعَدَ المَظْلُومِينَ بِتَحَقُّقِهَا!

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الِاعْتِبَارَ بِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَالتَّفَقُّهَ فِي دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَمُجَانَبَةَ سُبُلِ الظَّالمِينَ الْهَالِكِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَافْقَهُوا عَنِ اللَّـهِ -تَعَالَى- سُنَنَهُ، وَتَعَلَّمُوا آيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ؛ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- وَبِمُرَادِهِ أَوْبَقَ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ يَنْظُرُ المُؤْمِنُ إِلَى مَكْرِ الظَّالمِينَ وَكَيْدِهِمْ فَلَا يَهُولَنَّهُ؛ فَإِنَّ فَوْقَ هَذَا المَكْرِ وَالْكَيْدِ رَبًّا يَرُدُّهُ (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) [آل عمران: 54]، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطَّارق: 15-17].

وَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ اجْتِمَاعَ الْقُوَى الظَّالِمَةِ مِنْ صِهْيَوْنِيَّةٍ وَصَلِيبِيَّةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ وَعَلْمَانِيَّةٍ، وَتَآزُرَهَا عَلَى سَحْقِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ فَلْيُوقِنْ أَنَّهُمْ لَنْ يُحَقِّقُوا مُرَادَهُمْ، وَلَنْ يُفْلِحُوا فِي سَعْيِهِمْ، وَلَنْ يَضُرُّوا أَهْلَ الْإِيمَانِ إِلَّا أَذًى؛ بَلْ سَيَرْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ قَضَى فِي الظَّالمِينَ بِعَدَمِ الْفَلَاحِ، وَإِذَا جَانَبَهُمُ الْفَلَاحُ أَخْفَقُوا فِي كُلِّ أَمْرٍ يُبْرِمُونَهُ، وَفِي كُلِّ كَيْدٍ يُدَبِّرُونَهُ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنَ التَّارِيخِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْوَاقِعِ شَاهَدَهَا النَّاسُ، وَلَا يَزَالُونَ يُشَاهِدُونَهَا.

فَقَدْ جَاءَ تَأْكِيدُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّـهِ -تَعَالَى- (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام: 21]، وَفِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 86] فَإِذَا نُزِعَ مِنْهُمُ الِاهْتِدَاءُ وَالْفَلَاحُ ضَلُّوا وَخَسِرُوا، وَسَعَوْا فِيمَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُ خُصُومَهُمْ.

وَنَرَى هَذِهِ السُنَةَ مَاثِلَةً أَمَامَنَا فِي الدُّوَلِ الاسْتِعْمَارِيَّةِ الظَالِمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي سِيَاسَاتِهَا مِنْ فَشَلٍ إِلَى فَشَلٍ، وَنَرَاهُ كَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الطُغَاةِ الظَالِمينَ الذَينَ عَبَّدُوا النَّاسَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّـهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ دِعَايَاتِهِمُ الفَجَّةَ لأَنْفُسِهِمْ تَنْقَلِبُ وَبَالًا عَلَيهِمْ، فَيَسْتَجْلِبُونَ مَقْتَ النَّاسِ وَغَضَبَهُمْ مِنْ حَيثُ أَرَادُوا اسْتِجْلَابَ مَحَبَتِهِمْ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّالمِينَ أَتَوْا مَا حَرَّمَ رَبُّهُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الظُّلْمِ، فَمَقَتَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْقُرْآنِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 57].

فَلَا يَجْزَعُ مُؤْمِنٌ مِنْ تَفَاهُمِ الظَّالمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَدْبِيرِ المَكَائِدِ ضِدَّ المَظْلُومِينَ، وَاصْطِفَافِهِمْ لِاجْتِثَاثِ المُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ، وَيُشَتِّتُ شَمْلَهُمْ، وَيُخَالِفُ بَيْنَهُمْ، فَيَتَخَلَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَتَتَبَدَّلُ مَصَالِحُهُمْ، وَتَتَبَخَّرُ وُعُودُهُمْ (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) [فاطر: 40].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي