أيُّها المُؤمِنُونَ: شَنِّفُوا آذَانَكُمْ, وَأبْهِجُوا أنْفُسَكُمْ, وافْخَروا بِتَارِيخِكُمُ المَجِيدِ, تَعَرَّفوا على وِلايَةِ عُثْمَانَ كَيفَ كَانَتْ؟ وَمَا أبْرَزُ إنْجَازَاتِهِ؟ لَمَّا طُعِنَ ابْنُ الخَطَّابِ جَعَلَ الخِلافَةَ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، فَاجْتَمَعُوا وَأَجْمَعَ النَّاسُ على عُثْمَانَ، وَبَايَعُوهُ مُبَاشَرَةً...
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَمُجَازَاتِهِ، يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
نَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ, هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَاشَترَوُا الآخِرَةَ، وَضَلَّ أَقْوَامٌ عَنِ هِدَايَتِهِ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ: (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الكهف: 17].
وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الحُنَفَاءِ, وَسَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ, وَعَلى آلِهِ الأَتْقِيَاءِ، وَأصْحابِهِ أَنْجُمِ الاقْتِدَاءِ، سَخَّرَهُمُ اللهُ نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ، والتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحْسَانٍ وإيمَانٍ, مَا دَامَتِ الأَرْضُ والسَّمَاءُ.
أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، اسْتَمْسِكُوا مِنْ الإسْلامِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى, فَلا نَجَاةَ -واللهِ- إلاَّ بِتَقْوَى اللهِ.
عِبَادَ اللهِ: مِمَّا يَزِيدُ الإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ: تَدَارُسُ سِيَرِ صَحَابَةِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ, خَاصَّةً مَنْ بَادَرَ إِلَى التَّصْدِيقِ وَآزَرَ النَّبِيَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ.
أيُّها المُؤمِنُونَ: تَحَدَّثْنا في جُمُعَةٍ مَضَتْ عَنْ سِيرَةِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضَاهُ-.
وذَكَرْنَا أنَّهُ حَازَ على شَرَفِ جَمْعِ القُرَآنِ الكَرِيمِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَشَرِهِ فِي كُلِّ الأَمْصَارِ, فَلا غَرَابَةَ فَقَدْ كَانَ مِنْ كُتَّابِ الوَحْيِ العَظِيمِ في عَهْدِ رَسُولِنا الكَريمِ -عليهِ أَفْضَلُ صَلاةٍ وَأزْكى تَسلِيمٍ-, بَلْ وَكَانَ جِبْرِيلُ الأَمِينُ -عليهِ السَّلامُ- يَتَنَزَّلُ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عنْها-: "فَوَاللهِ لَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ قَاعِدًا عِنْدَ نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَيَّ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ يُوحَى إِلَيْهِ كُلَّ الْقُرْآنِ, وَإِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُ: "اكْتُبْ يَا عُثَيْمُ" فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُنْزِلَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ مِنْ رَسُولِهِ إِلاَّ وَهُوَ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ" [رواهُ البخَارِيُّ].
فَمِنْ حَسَنَاتِ عُثْمَانَ العَظِيمَةِ: أنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلى مِصْحَفٍ وَاحِدٍ عَلى العَرْضَةِ الأَخِيرَةِ التَي دَارَسَ فِيهَا جِبْرِيلُ النَّبِيَّ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، مِنَ الشَّامِ، وَأَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، والْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَهُ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ، اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَكْتُبَهُ كَامِلاً وَيُفرِّقَهُ فِي الأَمْصَارِ، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ، حتى سُمِّي نَوْعُ الخَطِّ بِالرَّسْمِ العُثْمَانِيِّ؛ نِسْبَةً إِلى أَمْرِهِ وَزَمَانِهِ وَإِمَارَتِهِ! والآنَ بِحَمْدِ اللهِ لَمْ تَنتَشِرِ المَصَاحِفُ وَتُطْبَعْ كَمَا فِي زَمانِنَا، فَجَزَى اللهُ خَيرَاً مَنْ كَانَ سَبَبَاً فِي ذَلِكَ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَرَزَقَنَا اللهُ تِلاوَةَ كِتَابِهِ وَتَدَبُّرَهِ على الوَجْهِ الذي يُرْضِيهِ عَنَّا.
عِبَادَ اللهِ: أمَّا وَقْفَتُنا الأُخْرَى مَعَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ، فَهِيَ حُسْنُ تَبَتُّلِهِ وِعَبَادَتِهِ، فَلَهُ مَعَ القُرآنِ، والعِبَادَةِ شَأْنٌ عَظِيمٌ, فَقَدْ كَانَ عَابِدًا خَاشِعًا خَائِفًا مِنَ اللهِ -تَعَالى-، لا يَمَلُّ مِنْ قِرَاءَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ، تَقُولُ زَوجَتُهُ: "كَانَ يُحْيِي الَّليلَ كُلَّهُ بِالقُرْآنِ فَيَخْتِمَهُ!".
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "مَا مَاتَ عُثْمَانُ حَتى خَلِقَ مِصْحَفُهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُدِيمُ النَّظَرَ فِيهِ"!
وَكَانَ يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ قُلُوبَنَا طَهُرَتْ مَا شَبِعْنا مِنْ كَلام رَبِّنَا".
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ) [الزمر:9]: "عُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ.
فَمَا بَالُ أَحَدِنَا إنْ اشتَغَلَ بِعَمَلٍ اجْتِمَاعِيٍّ أو دَعَويِ أو تِجَارِيٍّ نَسِيَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، والتَّبَتُّلَ إليهِ! كَانَ عُثْمَانُ كَثِيرَ الزِّيَارَةِ لِلْمَقَابِرَ، وَيَبْكِي حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ!
أيُّها المُؤمِنُونَ: شَنِّفُوا آذَانَكُمْ, وَأبْهِجُوا أنْفُسَكُمْ, وافْخَروا بِتَارِيخِكُمُ المَجِيدِ, تَعَرَّفوا على وِلايَةِ عُثْمَانَ كَيفَ كَانَتْ؟ وَمَا أبْرَزُ إنْجَازَاتِهِ؟ لَمَّا طُعِنَ ابْنُ الخَطَّابِ جَعَلَ الخِلافَةَ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، فَاجْتَمَعُوا وَأَجْمَعَ النَّاسُ على عُثْمَانَ، وَبَايَعُوهُ مُبَاشَرَةً.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا كَانَ فِي القَوْمِ أَوْكَدُ بَيْعَةً مِنْ عُثْمَانَ كَانَتْ بِإجْمَاعِهِمْ.
بَايَعَهُ النَّاسُ يَومَ الاثْنَينِ فِي آخِر يَومٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ, وَاستَقْبَلَ الخِلافَةَ فِي الأوَّلِ مِنْ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لِلهِجْرَةِ وَعُمُرُهُ قُرَابَةَ سَبْعينَ سَنَةً!
سَطِّرْ يَا تاريخ: أنَّ هَذَا الرَّجُلَ حَكَمَ المُسلِمينَ بالعَدْلِ والمِيزانِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةٍ، وَكَثُرَتْ فِي عَهْدِهِ الفُتُوحَاتِ، وَاتَّسَعَتْ دَوْلَةُ الإسلامِ، وَجَمَعَ اللهُ بِهِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيهِ النَّاسُ، هُوَ أَطْوَلُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ خِلافَةً، كَانَ النَّاسُ فِي خِلافَتِهِ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ، وَأَمْنٍ وَطِيدٍ، وَأُلْفَةٍ وَاتِّفَاقٍ، وَصَفَ الحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَالَهُمْ فَقَالَ: "الأُعْطِياتُ فِي خِلافَتِهِ جَارِيَةٌ، وَالأَرْزَاقُ دَارَّةٌ، وَالعَدُوُّ مُتَّقًى، والخَيرُ كَثِيرٌ، وَمَا مُؤْمِنٌ يَخَافُ مُؤمِنًا".
قَالَ عَلِيٌّ بَعْدَ وَفَاةِ عُمَرَ: "كَانَ عُثْمَانُ خَيرَنَا وَأَحْسَنَنَا طَهُورًا".
قَالَ ابنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ أَنَّ خَيرَ هَذِهِ الأُمَّةَ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمًّ عُثْمَانَ، فَيَبْلُغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ فَلا يُنْكِرُهُ" [إِسنَادُهُ صَحِيحٌ].
لَقَدْ نَشَرَ بَينَ النَّاسِ المَحَبَّةَ وسَلامَةَ الصَّدْرِ, وَتَرْكَ الغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ, لَقَدْ كَانَ مُتَواضِعَاً مَعَ خَدَمِهِ وَعُمَّالِهِ, قَريبَاً مِن النَّاسِ, قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها-: "إِنَّهُ لأَوْصَلُهُم لِلرَّحِمِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ"، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأرضَاهُ، وَجَمَعَنا بِهِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَوالِدِينا مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وأستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ فاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثَّانية:
الحَمدُ للهِ المُتَفِرِّدِ بِالدَّوَامِ وَالبَقَاءِ، المُنَزَّهِ عَنْ العَدَمِ وَالفَنَاءِ، نَشْهَدُ ألاَّ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا أَنْدَادَ لَهُ وَلا شُرَكَاءَ, نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَصَفَاءِ الأَمْرِ وَكَدَرِه، وَنَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, خَيرُ الأنبِياءِ, وإمَامُ الأصْفِيَاءِ, صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ الأَوفِيَاءِ, وَصَحَابَتِهِ الأتْقِيَاءِ, وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحسَانٍ مَا دَامَتِ الأرضُ والسَّمَاءُ.
أمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-: وَلْنَعْلَمْ أنَّ التَّعَرُّفَ على صِفَاتِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ, خُطْوَةٌ لِحُسْنِ الاقْتِدَاءِ بِهِمْ, وَمِنْ ثَمَّ التَّعَرُّفَ على صِفَاتِ القَادَةِ الرَّبَّانِيينَ الذِينَ يَقُودُون الأُمَّةَ نَحْوَ عِزِّهَا وَمَجْدِها.
فَمِنَ أعظَمِ أَسْبَابِ التَّوفِيقِ والتَّمْكِينِ لَهُمْ: أنْ جَرَى الإيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَثْمَرِ عَلى جَوَارِحِهِمْ.
أيُّها المُؤمِنُونَ: لا زَالَ حَدِيثُنا مَوصُولاً لِمَنْ هُوَ رَفِيقٌ لِلنَّبِيِّ فِي الْجَنَّةِ حِينَ قَالَ: "إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَفِيقِي مَعِي فِي الْجَنَّةِ".
فَلْنَتَعَرَّفَ على سِيرَةِ رَجُلٍ حَكَمَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةٍ! مَا إنْجَازَاتُهُ؟ مَا مَفَاخِرُهُ وَأعْمَالُهُ؟
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مُنْذُ أنْ تَولَّى عُثْمَانُ وَخُطَّتُهُ تَتَّسِمُ بِالْحَسْمِ والْحَزْمِ وَالعَزْمِ بِإصْلاحاتٍ في الدَّاخِلِ, وَبِإخْضَاعِ الرُّومِ وَالفُرْسِ في الخَارِجِ!
اهْتَمَّ الخَلِيفَةُ بِأَمْرِ الثُّغُورِ وَالمُرَابَطَةِ فِيْهَا، فأجْرَى لَهُمُ الأَرْزَاقَ وَضَاعَفَها! كَتَبَ إِلَى الأُمَرَاءِ والعُمَّالِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَ الأَئِمَّةَ أَنْ يَكُونُوا رُعَاةً، وَلَيْسُوا جُبَاةً!
إِنَّكُمْ حُمَاةُ المُسلِمِينَ, فَانْظُرُوا كَيفَ تَكُونُونَ!
كَانَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ يَضِيقُ بِالمُصَلِّينَ, فَاستَشَارَ أَهْلَ الرَّأْيِ فَأَجْمَعُوا عَلى هَدْمِهِ وَتَوْسِعَتِهِ، وَبَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ! وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ".
وَبَعْدَ سَنَتَينِ مِنْ تَوَلِّيهِ زَادَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَوَسَّعَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَزَقَ المُؤَذِّنِينَ مِنْ بَيتِ المَالِ.
وَهُوَ أوَّلُ مَنْ زَادَ الأَذَانَ الثَّانِي لِيوْمِ الجُمُعَةِ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ.
وَمِنِ سُنَنِهِ المُبَارَكَةِ: أنْ وَضَعَ الطَّعَامَ لِلصَّائِمِينَ والمُعتَكِفينَ فِي المَسَاجِدِ.
وَكَانَ يَبْعَثُ المُفَتِّشِينَ لِلْوِلايَاتِ ليَطَّلِعُوا عَلى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَيَأتُوا بِتَقَارِيرَ وَافِيَةٍ.
لَقَدْ أعْطى النَّاسَ الثِّقَةَ بِأنفُسِهِمْ، وَجَعَلَ عَمَلَهُم في إخْرَاجِ زَكَاةِ أموالِهم بَينَهُم وَبيْنَ اللهِ -تَعَالى-!
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ صَاحِبَ شُرْطَةٍ! مِنْ عَزْمِ عُثْمَانَ وَحَزْمِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْشَأَ قُوَّةً بَحْرِيَّةً عَسْكَرِيَّةً لافْتِقَارِ جَيشِ المُسْلِمِينَ لِذَلِكَ.
عبادَ اللهِ: فِي عَصْرِ عُثْمَانَ امْتَدَّتْ المَمَالِكُ الإسْلامِيَّةُ إلى أَقْصَى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلاوَتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِكِتَابِ اللهِ وَتَدَرُاسِهِ وَجَمْعِهِ الأُمَّةَ عَلى حِفْظِ القُرَآنِ الكَريمِ.
وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ حِينَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِي لِي مِنْهَا" [رَواهُ مُسْلِمٌ].
وإليكُمْ -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- نَمَاذِجَ مِنَ الفُتُوحاتِ العَظِيمَةِ والمُهِمَّةِ التي حَصَلَتْ في عَهْدِ عُثْمَانَ، لَقَدْ بَعَثَ جَيشَاً بِقِيادَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِفَتْحِ قُبْرُصَ, وَمَعَهُ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وَزَوْجَتُهُ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-, وفِيها قَالَ الرِّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ" فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ" [رَواهُ مُسْلِمٌ].
فَانتَصَرَ المُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا خَلْقَاً كَثِيرًا، وَسَبَوا سَبَايَا كَثِيرَةٍ، وَغَنِمُوا مَالاً جَزِيلاً! وَلَمَّا جيء َبِالأَسْرَى بَكى أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ؟ فَقَاَلَ: إِنَّهَا أُمَّةٌ كَانَتْ قَاهِرَةً لَهُمُ مُلْكٌ، فَلَمَّا ضَيَّعُوا أَمْرَ اللهِ صَيَّرَهُمْ إِلَى مَا تَرَى! مَا أَهْوَنَ العِبَادَ عَلَى اللهِ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ!
ثُمَّ كَانَتْ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ قُتِلَ عَلى إثْرِهَا آخِرُ مُلُوكِ الفُرْسِ,كَمَا تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ فَتْحُ أَفْرِيْقِيَةَ.
اللهُ أكْبَرُ! سِيرَةٌ عَطِرَةٌ حافِلَةٌ بالقُرآنِ, والعِلْمِ, وَتَنْظِيمِ أُمُورِ الدَّولَةِ, وَنَصْرٌ كَبِيرٌ, فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَجَعَلَ الجنَّةَ مَأْوَانَا وَمَأواهُ.
وَلَمَّا عَمَّ الرَّخَاءُ, وَرَسَخَ الأَمْنُ, وَانْتَشَرَ الإسْلامُ فِي الأَرْضِ, حَدَثَ مَا أخْبَر بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ أنَّ بَلْوى سَتُصِيبُهُ! فَاسْتَعْجَلَ مَرْضَى القُلُوبِ مَوْتَهُ، وَاسْتَطَالُوا حَيَاتَهُ! فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ, لَمْ يَتَوَقَّعُها أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ! لَقَدْ تَسَوَّروا على دَارِ عُثْمَانَ وَقَتَلُوهُ قِتْلَةً شَنِيعَةً! مَنْ هؤلاءِ الأَوبَاشِ؟ كَيَفَ يُقْتَلُ أَمِيرُ المُؤمِنينَ؟ مَا دَوافِعُهُمْ؟ مَا أثَرُ هذهِ الفِتْنَةِ على أُمَّةِ الإسلامِ؟
سَنَعرِفُ ذَلِكَ -بإذْنِ اللهِ تَعَالى- فِي جُمُعَةٍ قَادِمَةٍ.
فَرَضِيَ اللهُ عن عُثمَانَ وَأَرْضَاهُ, وَجَعَلَ الجَنَّةَ مَأوانا وَمَأواهُ, وَكَفى اللهُ المُؤمِنينَ شَرَّ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمُسلِمينَ، وأذلَّ الكفرَ والكافَرينَ, وَدَمِّرْ أعداءَ الدينِ, اجعل بَلَدَنا آمِناً مُطْمَئِنَّاً، وَسَائِرَ بِلادَ المسلِمينَ.
اللهم اغفر للمؤمِنينَ والمُؤمِناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياء مِنهم والأمواتِ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي