الأخلاق المحمودة (4) الحياء

تركي بن علي الميمان
عناصر الخطبة
  1. المراد بالحياء .
  2. الحياء من الإيمان وسبب ذلك .
  3. صور الحياء المحمود .
  4. من قصص الحياء .
  5. من مظاهر قلة الحياء عند الناس .

اقتباس

فالحياء من خصال الإيمان، ويعين على هجر المعصية خجلاً من الله -عز وجل-، والإقبال على الطاعة، ويبعد عن فضائح الدنيا والآخرة، وهو أصل كلِّ شعب الإيمان، ويكسو المرء الوقار فلا يفعل ما يخلُّ بالمروءة والتوقير ولا يؤذي من يستحق الإكرام، ومن استحى من الله ستره الله في الدنيا والآخرة، ويُعدُّ صاحبه من ..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَتِرْ" (سنن أبي داود).

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي كان "أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا" (صحيح البخاري)، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

عباد الله: خُلُقٌ من محاسن الإسلام، ومنقبةٌ من مكارم الأخلاق، خُلُقٌ من أخلاق الملائكة والنبيين، وتخلق به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الخلق كله خير، ولا يأتي إلا بخير، وهو علامة على الإيمان، وهو دليل على التخلق بأخلاق الإسلام كلها ومدخل إليها، ذلكم هو خلق الحياء.

والحياء صفة في النفس تحمل الإنسان على فعل ما يجمِّل ويزيِّن، وترك ما يدنِّس ويشين؛ فتجده إذا فعل شيئاً يخالف المروءة؛ استحيا من الناس، وإذا فعل شيئاً محرماً؛ استحيا من الله -عز وجل-، وإذا ترك واجباً؛ استحيا من الله، وإذا ترك ما ينبغي فعله؛ استحيا من الناس. (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين:4/24).

فالحياء من الإيمان؛ لأنه يقطع صاحبه عن المعاصي، ويحجزه عنها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ" (رواه مسلم:35).

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو: الحياء. ولعل ذكر الحياء؛ لأنه السبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإن من استحيا من الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجلِّيه عليه بأسمائه الحسنى، -والعبد مع هذا كثير التقصير مع هذا الرب الجليل الكبير، يظلم نفسه ويجني عليها- أوجب له هذا الحياء التوقِّي من الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبات" ا.هـ. (موسوعة الأخلاق).

وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ" (رواه البخاري: 6117، ومسلم:37) ، فهو يكفّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على التحلي بمكارم الأخلاق ومعاليها.

بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يعاتب أخاه في الحياء فنهاه، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا-، أنه مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ" (رواه البخاري: 6118).

 فالحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ فلنتحلَّ عباد الله بهذا الخلق الكريم-خلق الحياء-، ولنجعله نبراساً لنا في تعاملنا مع ربنا ووالدينا ومن تحت أيدينا ومع الناس أجمعين.

والحياء المحمود له صور؛ منها:

الحياء من الله: وذلك بالخوف منه ومراقبته، وفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه.

والحياء من الملائكة: وذلك عندما يستشعر المؤمن بأن الملائكة معه يرافقونه في كل أحواله، ويكتبون ما يقوله ويفعله.

والحياء من الناس: وهو دليل على مروءة الإنسان؛ فالمؤمن يستحي أن يؤذي الآخرين سواء بلسانه أو بيده، فلا يقول القبيح ولا يتلفظ بالسوء، ولا يطعن أو يغتاب أو ينمُّ.

والحياء من نفسه: ويكون بالعفة وصيانة الخلوات.

وعمر -رضي الله عنه- يقول: "من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقى".

ويقول بعض السلف: "خفِ اللهَ على قدر قدرته عليك، واستح منه على قدر قربه منك".

وتقول عائشة -رضي الله عنها-: "رأس مكارم الأخلاق الحياء".

ويقول الأصمعي -رحمه الله-: سمعت أعرابياً يقول: "من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه".

ومن نماذج الحياء-عباد الله-؛ أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، فحينما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما، فأسرعا يأخذان من أوراق الجنة ليسترا عوراتهما (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22].

وحياء موسى -عليه السلام-، فقد جاء في وصفه أنه كان حييِّاً ستِّيراً، حتى كان يستر بدنه، ويستحي أن يظهر مما تحت الثياب شيئاً ولو لم تكن عورة؛ فآذاه بعض بني إسرائيل في أقوالهم، فقالوا ما يبالغ في ستر نفسه إلا من عيب في جسمه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب:69].

وحياء تلك المرأة الصالحة التي جاءت لموسى -عليه السلام- (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص:25]، قال مجاهد:" يعني: واضعة ثوبها على وجهها ليست بخرَّاجة ولا ولَّاجة"؛ وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصاً في النساء.

ومنها: حياء النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه؛ وذلك لما طلب موسى -عليه السلام- من نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء أن يراجع ربه في تخفيف الصلاة، فقال: "قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي" (رواه مسلم: 163).

وعثمان -رضي الله عنه- عُرف عنه بشدة الحياء، حتى أن الملائكة كانت تستحي منه، قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ" (رواه مسلم: 2401).

وعائشة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ أدخُلُ بيتي الَّذي فيه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأبي فأضَعُ ثوبي، وأقولُ: إنَّما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفِن عمرُ معهم فواللهِ ما دخَلْتُه إلَّا وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي حياءً من عمرَ -رضي الله عنه-" (تخريج مشكاة المصابيح للألباني: رجاله رجال الصحيح).

فأين هذا الحياء من نسائنا، ومحافظة المرأة على حشمتها وكرامتها، ومراقبتها لربها؟!

فالحياء من خصال الإيمان، ويعين على هجر المعصية خجلاً من الله -عز وجل-، والإقبال على الطاعة، ويبعد عن فضائح الدنيا والآخرة، وهو أصل كلِّ شعب الإيمان، ويكسو المرء الوقار فلا يفعل ما يخلُّ بالمروءة والتوقير ولا يؤذي من يستحق الإكرام، ومن استحى من الله ستره الله في الدنيا والآخرة، ويُعدُّ صاحبه من المحبوبين عند الله وعند الناس، ويدفع المرء إلى التحلِّي بكل جميل محبوب، والتخلي عن كل قبيح مكروه. (موسوعة الأخلاق).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزاب:53]

بارك الله لي ولكم في القرآن...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282]، واعلموا أن المسلم بخلق الحياء يفعل الجميل ويترك القبيح؛ ولا ينبغي أن يكون الحياء مانعاً من طلب العلم، ولاسيما في الأمور الواجبة، فقد "جَاءَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ" (روه البخاري:130، ومسلم:313) ؛ وكذلك الحياء لا يمنع من قول الحق والدعوة إليه، ولا يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أيها المسلمون: ومن مظاهر قلة الحياء عند الناس: المجاهرة بالذنوب والمعاصي، وعدم الخوف من الله؛ فحينما قلَّ الحياء عند بعض الشباب رفعوا صوت الغناء، وعاكسوا النساء، وتشبهوا بالأعداء، أو غيرها من المنكرات الظاهرة. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" (رواه البخاري:6120).

ومنها: لبس النساء الكاسيات العاريات الملابس التي تصف الأجسام، أو الضيقة أو المفتوحة من الأعلى والأسفل، فقد انتشرت هذه الملابس في أوساط النساء في المناسبات والأفراح، أو التساهل بالحجاب في المتنزهات والأسواق؛ فأين هذا من حياء تلك المرأة الصالحة التي قال الله عنها: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، فاتقوا الله أيها الأولياء فيمن تحت أيديكم، بتوجيههم لملابس الحشمة والوقار والحياء، فأنتم قوامون على النساء.

ومن مظاهر قلة الحياء: حديث المرأة مع الرجل الأجنبي؛ فهذه تحادث الرجل، وأخرى تمازح البائع، وأخرى تركب مع السائق لوحدها، وأخرى تساهلت بالهاتف وقنوات التواصل الاجتماعي.

ومنها: التلفظ والتفوه بالألفاظ البذيئة والسيئة التي تجرح الآخرين؛ كالهمز واللمز والغيبة والنميمة والكذب والفحش والتعالي على الناس برفع الأصوات، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا لعاناً ولا سباباً.

وإنما أمر أصحابه أن يستحيوا من الله حق الحياء، فقالوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).

قال عمر -رضي الله عنه-: "من قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه".

يقول الشاعر:

إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي *** ولم تستحِ فاصنعْ ما تشاءُ

فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ *** ويبقى العود ما بقي اللحاءُ

فلنتق الله -عباد الله-، ولنتبع أوامر الله، ولنقتد بنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أقوالنا وأفعالنا، ولنغض أبصارنا عما حرم الله علينا، ولا نتتبع عورات الآخرين، ولنلازم خلق الحياء ونرب عليه أولادنا، فهو مفتاح كل خير ومغلاق كل شر.

وصلوا وسلموا على نبيكم محمد..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي