ما أحوج العباد في الخطب العامة والمواعظ ومجالس التذكير إلى أن يذكَّروا بيوم الملاقاة -ملاقاة الله جل في علاه- ليستعدوا لذلك اليوم وليتزودوا له بخير زاد، فإن الناس -عباد الله- إذا غفلوا عن ذلك اليوم ألهتهم الدنيا بمتعها الزائلة وزخرفها الفاني عن الاستعداد ليوم المعاد. ويوم القيامة يوم عظيم فيه أهوالٌ جسام ومواقف عظام سيُعاينها العباد، ومبدأ ذلك -عباد الله- نفخةٌ واحدة يؤمر بها الملك الموكول بالنفخ في الصور، فيُصعق العباد ولا يبقى أحدٌ من الناس به حياة ويتكاملون موتى، ثم من بعد هذه النفخة بأربعين تكون نفخةٌ أخرى يقوم الناس على إثْرها لرب العالمين.
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله -عز وجل-، وتزودوا ليوم اللقاء؛ يوم الوقوف بين يدي الله -عز وجل- (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[النجم:31].
أيها المؤمنون: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مُلاَقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا"، وجاء في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟!»، قَالَ: "يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ".
أيها المؤمنون: ما أحوج العباد في الخطب العامة والمواعظ ومجالس التذكير إلى أن يذكَّروا بيوم الملاقاة -ملاقاة الله جل في علاه- ليستعدوا لذلك اليوم وليتزودوا له بخير زاد، فإن الناس -عباد الله- إذا غفلوا عن ذلك اليوم ألهتهم الدنيا بمتعها الزائلة وزخرفها الفاني عن الاستعداد ليوم المعاد.
عباد الله: ويوم القيامة يوم عظيم فيه أهوالٌ جسام ومواقف عظام سيُعاينها العباد، ومبدأ ذلك -عباد الله- نفخةٌ واحدة يؤمر بها الملك الموكول بالنفخ في الصور، فيُصعق العباد ولا يبقى أحدٌ من الناس به حياة ويتكاملون موتى، ثم من بعد هذه النفخة بأربعين تكون نفخةٌ أخرى يقوم الناس على إثْرها لرب العالمين.
قال الله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)[ق:41-44]، قال الله -عز وجل-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ) أي القبور (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[يس:51-53].
أيها العباد: وعلى إثر هذه النفخة الثانية يقوم الناس ويُنشرون من قبورهم للوقوف بين يدي الله -عز وجل- على أرض المحشر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)[إبراهيم:48]، يقف الناس على أرضٍ عفراء لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، مستويةً لا جبال فيها ولا أشجار، يومًا كان مقداره خمسين ألف سنة، وماذا يقارن ذلك اليوم بأيام الدنيا مهما طال عمر الإنسان فيها!!
أيها العباد: وفي تلك الأرض -أرض المحشر- تدنو الشمس من رؤوس الخلائق حتى تكون في دنوِّها وقربها منهم على مقدار ميل، روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ".
وجاء في حديثٍ خرَّجه الحاكم وغيره أن الله -عز وجل- يهوِّن ذلك اليوم على أهل الإيمان مع طول مدته وفداحة أمره فيكون لهم كما بين صلاتي الظهر والعصر في خفته ويُسره وسهولته.
أيها العباد: وفي القرآن آيات كثيرة تجلِّي للعباد يوم القيامة، وتبين لهم أهوالها وأحوالها ليتنبَّه العباد وليستعدوا لذلك اليوم، بل في القرآن سورٌ أُخلصت لبيان ذلك اليوم وإيضاح أمره كأنه رأي العين؛ روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ".
وهذه السور الثلاث -عباد الله- فيها تفصيلات عظيمة لأهوال ذلك اليوم وأحواله، والقرآن مشتملٌ في مواضع كثيرة منه بل لا تكاد تقرأ سورةً من القرآن إلا وترى فيها ذكرًا لذلك اليوم وشيئًا من تفاصيله.
أيها العباد: لنكن على ذكرٍ دائم لهذا اليوم العظيم مبدئه ومآل العباد فيه؛ فالمبدأ نفخة، والمآل إما إلى الجنة أو إلى النار. وتأمل سياقًا عظيمًا في القرآن الكريم يجلِّي هذا المبدأ والمنتهى، يقول الله -عز وجل- في آخر سورة الزمر: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزمر: 68- 75].
أيها العباد: في ذلك اليوم العظيم يوم يُحشر العباد، ويقفون ذلك اليوم العصيب العظيم، وتدنو منهم الشمس فيفزع الناس طالبن من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله بأن يبدأ بالجزاء والحساب، وكلما أتوا نبيًّا اعتذر وأحالهم إلى آخر، إلى أن يحيلهم عيسى -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول «أنا لها» ويخر ساجدًا تحت عرش الرحمن ويحمد الله بمحامد يعلِّمه الله إياها في ذلك الوقت، ثم يقول الله له: «ارفع رأسك، وسل تُعط، واشفع تشفَّع» وحينئذ يجيء الرب جل جلاله للفصل بين العباد (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا -أي صفوف مطوِّقين بالعباد- وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) [الفجر:21-23].
وجاء في الحديث أن الذي يأتي بها ملائكة يأمرهم الله -عز وجل- بسحبها إلى أرض المحشر، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا".
أيها العباد: ما أحوجنا إلى التأمل في تفاصيل يوم القيامة لنستعد لذلك اليوم ولنتزود له بخير زاد، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى، فإن من اتقى الله وقاه.
أيها المؤمنون: إن أهل الإيمان في إيمانهم باليوم الآخر على درجتين:
الدرجة الأولى: درجة الإيمان الجازم الذي لا شك فيه ولا ريب، وهذه الدرجة لا قبول لعمل عاملٍ إلا بها، فإن الدين يقوم على أصول، منها الإيمان باليوم الآخر،ومن كفر بشيء من أصول الإيمان أو شك فيه بطل عمله وحبط (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة:5]، قال الله -عز وجل-: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)[التوبة:45] فالكفر بالله أو برسوله أو بشيء من أصول الإيمان محبط للأعمال كلها.
وأما الدرجة الثانية عباد الله: فهي درجة الإيمان الراسخ؛ وهي درجة أهل الإيمان الكامل، وهم من يستحضرون هذا الأصل العظيم في حركاتهم وسكناتهم وفيما يأتون ويذرون، فهم في كل أعمالهم مشفقين من يوم البعث ويوم اللقاء، ولهذا حسُنت أعمالهم وطابت قلوبهم وزكت أخلاقهم وتنافسوا في رفيع الأعمال وطيِّبها.
وإنا لنسأل الله -عز وجل- أن يوقظ قلوبنا بالإيمان، وأن يجدِّد الإيمان في قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا كلها، وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، اللهم أصلح قلوبنا أجمعين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي