لو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة توازيه, وقد كان يمكن صاحبَه اكتسابَ الدرجات والنعيمَ المقيم, فضيعه الحريص في طلب رزق مضمون ومقسوم, لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم, ثم لا ينتفع, بل سيتركه لغيره, ويرتحل عنه, ويبقى حسابه عليه...
الحمد لله ذي العزة والكبرياء, أجزل لعباده النعم, وأغدق عليهم من فضله العطاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يبتلي عباده بالسراء والضراء, ويوفق من شاء بفضله لينجو من الابتلاء.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق وخاتم الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا أيها الذي آمنوا: اتقوا ربكم، وقدموا لآخرتكم، وأعدوا للرحيل عدتكم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18].
أيها المبارك: جاع ذئبٌ فوجد غنمًا لا راعي لها, فما تظنه سيصنع, نعم؛ قد أفسد فيها وفتك, ولكن أشد منه إفساداً, وأعظمَ إتلافاً, للدين لا للدينا, حرصٌ على المال وعلى الشرف, روى الترمذي بسند صحيح عن كعب بن مالك مرفوعا قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
حب المال فتنة الأمة الذي قال عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال" [صححه الترمذي والحاكم].
فتنة المال هي الفتنة التي لطالما سقط في أوحالها بعض المسلمين, عدّها الله في كتابه فتنة، فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28].
والفتنة تحتمل الوجهين, فهي لقوم نعمة, وعلى قوم نقمة وأي نقمة.
ولأجل هذا، فلقد خشي المصطفى -عليه السلام- على أمته المالَ والدنيا, لعلمه حقيقة الابتلاء, وتتابع منه التحذير والإرشاد.
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً الصحابة قد تجمعوا لأجل توزيع مالٍ، فقال لهم: "أبشروا فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
وفي لفظ: "فتلهيكم كما ألهتهم".
وصلى الله على من أوتي جوامع الكلم, فلقد وقع كثيرٌ مما أخبر عنه وخشيه, فكم آلهى المال من أقوام؟ وتنافس لأجله من فئام؟ بل وكم أهلك المال من أناس, حينما بسطت الدينا على الناس.
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب عبد الرحمن بن عوف، ويقول له عن الدنيا وانفتاحها على الناس، فيقول: "إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم فأي قوم أنتم؟" فقال نقول كما أمر الله ورسوله، فقال: "أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتباغضون ثم تتدابرون".
وفي لفظ: "ثم يعمد بعضكم إلى بعض فيقتله".
أيها الفضلاء: لقد أدرك الآباء زمناً عاش فيه القوم في حاجة ومسغبة, ربما بات المرء طاوياً زمناً, فسلوهم يحدثوكم عن زمان فقرٍ أدركوه, وعوزٍ عاشوه, بل ومن قبلهم وفي زمن من هو أشرف منهم, زمن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إذ كان يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه, تلك أزمان مضت بشدتها ورخائها, وها نحن اليوم نعيش زمناً قد انتفحت فيه الدنيا على الناس, وتنوعت مصادر المال, وتعددت مصارفه, وتقاربت أسواقه, واشتد لهث الناس وراءه, حتى أصبح المالُ مدارَ الحديث, وأنسَ المجالس, والأمرُ الذي يؤرق الكثير, كيف يحصّله, وكيف ينميه, ويُغبط صاحبُ المال, وربما لا يغبط صاحب الدين، ترى البعض إن تكلم ففي الدينا وفي المال, وإن نام فأحلامه عن الدنيا والمال، وإن استفتى فعن أوجه الدنيا والمال, وهنا فما أحوجنا إلى التذاكر في أمر المال, وحقيقته, ونظرة الشرع له.
أيها المسلمون: الصالحون خافوا من فتنة المال والدنيا، وأيقنوا أن هذه الدنيا دارُ ممرٍ, لا دارُ مقر, ويكفي منها اليسير, وأن المرء لو جمع الكنوز فلن ترفعه عند الله ما دام يستعملها في معصيته.
قيل لبعض الحكماء: إن فلاناً جمع مالاً؟ فقال: فهل جمع له أياماً ينفقه فيها.
عرفتُ ذلك المسن وقد بلغ من العمر عتياً، يقول: كل قواي أنكرتها, إلا حرصي على المال؟ قلت: لا عجب, فقد حدثنا رسولنا -عليه السلام- عن ذلك إذ قال: "يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر".
فيجمع المرء ما يكفيه بعضه, وربما منع الفقيرَ حقه, ولم يقدم منه شيئاً لآخرته, فإذا مات أخرجت الكنوز لينعّم بها غيره, وربما عذب هو بها في قبره، والغبن كلُّه أن يرث المالَ وارثٌ, فيبذله فيدخل بذات المال الجنة, فأي غبن أعظم من هذا؟
إن كثيراً من الناس إذا رأى الغني غبطه, وربما حسده على نعمه وأمواله, ولو كان معرضاً عن ربه, وما درى إن هذا المال ربما كان سببَ شقائه، فلذا:
لا تغبطن أخا حرص على سعة *** وانظر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغول بشقوته *** عن السرور بما يحوي من المال
قال ابن رجب: "ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة توازيه, وقد كان يمكن صاحبَه اكتسابَ الدرجات والنعيمَ المقيم, فضيعه الحريص في طلب رزق مضمون ومقسوم, لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم, ثم لا ينتفع, بل سيتركه لغيره, ويرتحل عنه, ويبقى حسابه عليه, ونفعه لغيره, فيجمع لمن لا يحمده, ويقدم على ربه, لكفى بذلك ذماً للحرص" أ. هـ.
عفواً، فليست هذه دعوة للفقر, أو تكففِ الناس، والقعودِ عن العمل, فالمرء مأمور بأن يسعى في تحصيل نصيبه من الدنيا بضابطه, والمرء مفطور على حب المال كما في القرآن: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران: 14].
ولقد كان من هدي الأنبياء أنه ما أكل نبيٌ إلا من عمل يده, وكان من الصحابة أصحاب أموال, بل كان منهم أثرياءُ بمعنى الكلمة, فلقد خلّف الزبير بن العوام أكثر من خمسين ألف ألف, مع أنه المبشر بالجنة, فليس المال بحدّ ذاته مذموماً بل يذم لما يعتريه.
وهنا، فالمرء إنما يذم حينما يكون المال في قلبه فلأجله يوالي ويعادي، وفي سبيله يرضى ويغضب، ولربما تمادى به الأمر حتى صار عبداً للدينا والدرهم، فتعس حينها وانتكس.
يذم المرء في المال حينما يجمعه من أوجه محرمة, وما أكثرها في هذه الأزمان.
يذم المرء حينما لا يتورع في طريق كسبه للمال، فتراه يضرب في أوجه الربا وغيره, أو في الشبهات, وما درى أنها للبركة ماحقة, وكل جسم نبت من سحت فالنار أولى به.
يُذمّ المرء في المال حينما يشغله عن طاعة الله, ويلهي عن الصلاة, وعن حق الأهل والأولاد, وعن بر الوالدين.
يُذم المرء في المال حينما يشحّ به عن الواجب والمستحب فلا يخرج منه زكاة ولا ينفق منه في صدقة, وعجباً لرب المال المانع, ينعم الله عليه بالمال فضلا منه ومنَّة, ثم يطلب منه الزكاة مقداراً يسيراً, أو الانفاقَ في وجوه الخير, فإذا به يشحّ ويمنع, وكأن لسان حاله يقول: إنما هذا المال ورثته كابراً عن كابر, ولو تدبر في نفسه, لوجد أن المال مال الله, يجعله اليوم في يد فلان, وغداً في يد آخر, وأن المال لو كان يبقى في يد أحد لما وصل إليك, فموفقٌ من جعله مركباً يوصله إلى مرضاه ربه وجنة مولاه.
أيها المسلمون: ويذم المرء في المال يوم أن ينعمَ عليه ربه به, ثم تراه هو ينفقه فيما حرم الله, ويستخدمه في معاصي الله, فلا يزيده المال عن الله إلا بعداً، وهل يليق بامريء يعطيه ربه المال, ثم يتخذه هو وسيلة؛ لئن يعصي به مسديه, ويتقوى به على مخالفة أمره!
يذم المرء في المال، يوم أن يأخذ المرء بأحد طرفي الذم, فإما أن يقتر على نفسه وأهله فيكونَ بخيلاً شحيحاً, أو يكون مسرفاً مبذراً, فيسلكُ درب أخوان الشياطين, ويبتعدُ عن درب من يحبهم الله من المؤمنين, وفي هذا يقول الحق: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29].
أما أن يكون المرء جامعاً للمال من وجهه, منفقاً له في وجهه, طائعاً فيه ربه, مؤدياً فيه حقه, فحينها نِعمَ المال الصالح للرجل الصالح, بل لربما كان ماله سبباً، لئن ينال أعلى الدرجاتِ في الجنان, وهل استحق عثمان بن عفانٍ وسامَ: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" الذي قلده إياه رسول الله إلا بالمال والانفاق حينما تتابع إنفاقه وقدم للمسلمين ماله.
وكم تحتاج الأمة إلى أصحابِ أموالٍ يبذلون المال لمؤازرة الدعوة، ونشر الدين، وخدمة الإسلام، ومساعدة المحتاجين, وهنيئاً لصاحب المال يوم أن يكون المال حجةً له.
وإذا كان الفقير إذا احتسب وصبر له من الله الثواب والأجر, فالغني إذا أطاع ربه وشكر له من الله الأجر وعظيم الظفر, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, فطوبى له, وأعطى الله خلفاً صاحبُ مالٍ قدم منه لآخرته، ونفع به نفسه، فبنى مسجداً أو أوقف وقفاً وساعد محتاجاً، ونشر علماً، فأولئك هم الأغنياء حقاً, يوم أن قدموا من أموالهم في حالة صحتهم وغناهم, وفي الصحيح: أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى".
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: وفي خضم السعي في أمور الحياة, وفي غمرة جمع المرء للمال, لا بد لنا من معالم في الطريق, حين توضع نُصب العين, وفي سويداء القلب, ويُعقد عليها بالخناصر, نفلح بإذن المولى, ويكونُ سعيُناً وجهدُنا ومالُنا مقرباً لنا إلى الله ربنا.
ألا وإن القناعة بما أعطاك الله معلمٌ أساس, وكم ترى من أقوامٍ لم يقنعوا بما أعطاهم ربهم, وربما جرّهم ذلك إلى تحصيل المال من أوجه محرمة, ولو تفكر المرء لأيقن أن ما يقدره ربه فهو الخير والحكمة, قدّر على الغني الغنى وهو خير له, وعلى الفقير الفقر وهو خير له, وله في كل تقدير حكمة, وفي الأثر: "إن من عبادي من لا يُصلِحُ دينَه إلا الفقرَ, ولو أغنيته لطغى أو لأفسده ذلك".
فيا أيها الفاضل: إن رُمتَ راحة بالٍ فاقنع بما أعطاك ذو الجلال, وإن قلّ, وفي الصحيح: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أعطاه".
وتفكر في من هم دونك, فكم نلتَ وحرموا, وأعطيتَ ومنعوا, وفي الصحيح: "انظروا إلى من هم دونكم، ولا تنظروا إلى من هم فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
ورحم الله ابن وهب إذ يقول: صحبت أهل الترف، فلم أجد أكبر همّاً مني, أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيراً من ثوبي, ثم صحبت الفقراء، فاسترحت.
يا موفق: والنية الطيبة معلمٌ آخر, فليكن رائدُكَ في كل سعيك النيةَ لطيبةَ, فإنك تستطيع بتجارتك ووظيفتك أن تخدم المسلمين إن بعملك أو بمالك, وكم لحسن النوايا من أثر في بركة المال ونمائه وتيسره وحصوله، ولئن يكون نعمة لا نقمة.
والتوكل على الله واليقين بأن الرزق منه وحده معلمٌ أصيل, فوالله لو سعى المرء بكل جهد ووقت لم يحصل ريالاً أكثر مما قسم له وهو في بطن أمه, ولربما استعجل المرء الرزق فطلبه ولو من وجه محرم, ولو تحرى الحلال لجاءه ما كتب له، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب, فهوِّن عليك, فرزقك آتيك, ومَن خلقك فلن ينساك, ولو أنكم تتوكلون على الله حق توكله, لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خصاصا وتروح بطانا.
يا مؤمن: والتحري في وجوه المال الحلال والورع عن مشبوه الربح, مطلب ومعلم أكيد, فمع تجدد صور المعاملات, كم هي المعاملات التي تعرض للناس, وفيها شيء من الحرام, أو هي الحرام بعينه, ولربما غُلّفت بأسماءَ جذابة, أو بفتاوى لا تتنزل عليها, فسل -يا مبارك- عما أشكل, وتثبت مما استربت في حكمه, وحين تشك في أمر فدع ما يريبك، وستجد فيما لا يريبك كفاية, ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وأخيراً، فالزهد في الدنيا، ولا تلازم بين الفقر والزهد، بل الزهد أن يترك المرء ما لا ينفع في الآخرة، ولقد كان ابن عوف وابن عفان وابن العوام، وغيرهم من الأغنياء كلهم زهادٌ، بل أئمة الزهاد.
واذكر أن المال لا ينفعك إلا حين يفارقك, وأنه لو نفع المالُ أحداً وأغناه من دون ربه لنفع قارونَ الذي ملك ما ملك.
واذكر سؤالاً يوم العرض والحساب, عن المال من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ سؤالان ينتظران هناك إجابة من كل مسلم, فهل نحن مستعدون؟
اللهم ارزقنا القناعة، واكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي