سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أولاده وأحفاده

صالح بن محمد آل طالب
عناصر الخطبة
  1. عظمة جوانب السيرة النبوية .
  2. كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال .
  3. أبناء النبي صلى الله عليه وسلم.. مولدهم وحياتهم ووفاتهم .
  4. رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالصغار .
  5. الحث على دراسة السيرة والاستضاءة بنورها في حياتنا المعاصرة. .

اقتباس

سيرةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نورٌ كلُّها، وهديٌ كلُّها، في الدعوة والتعليم، وفي السياسة والحروب، وفي العبادة والأخلاق. أنَّى استقيتَ اهتدَيتَ، وحيثُما وردتَّ ارتوَيتَ. وهذا مورِدٌ من سيرة النبي الخاتِم مع بناتِه وبنِيه وأحفاده - صلَّى الله عليه وعليهم وسلَّم تسليمًا كثيرًا -. تتجلَّى في هذا المورِد إنسانيَّتُه وأبُوَّتُه، وشفقتُه وحنانُه، كما يجِدُ فيها الأبُ الذي فقدَ بنِيه سلوَى، فقد ابتُلِيَ من هو خيرٌ منه وأرقَى، ويجِدُ كلُّ أحدٍ فيها أحكامًا وفوائِد وشرعًا.

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الأجلِّ الأكرمِ في عُلاه، له من الحمدِ أسماه ومن الشُّكر مُنتهاه، فلا تُوافَى نعمُ ربِّنا ولا تُكافَى عطاياه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ المالَ والبنين زينةَ الحياة، وعملاً صالحًا باقيًا بعد الوفاة.

 وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومُصطفاه، أكرمُ والدٍ درجَت على الأرض خُطاه، وخيرُ أبٍ فاضَت بالمشاعرِ حناياه، ودمعَت لفَقد ولدِه عيناه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى بناتِه وبَنيه، وصلَّى على أزواجِه وأصحابِه وتابعِيه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد .. فيا أيها الناس:

لم تزَل التقوى خيرُ وصيَّةٍ، وأكرمُ سجِيَّة، فهي وصيَّةُ الأنبياء، وحِليةُ الأصفِياء، ونعمَ الزادُ عند اللقاء، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

أيها المسلمون:

سيرةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نورٌ كلُّها، وهديٌ كلُّها، في الدعوة والتعليم، وفي السياسة والحروب، وفي العبادة والأخلاق. أنَّى استقيتَ اهتدَيتَ، وحيثُما وردتَّ ارتوَيتَ.

وهذا مورِدٌ من سيرة النبي الخاتِم مع بناتِه وبنِيه وأحفاده - صلَّى الله عليه وعليهم وسلَّم تسليمًا كثيرًا -. تتجلَّى في هذا المورِد إنسانيَّتُه وأبُوَّتُه، وشفقتُه وحنانُه، كما يجِدُ فيها الأبُ الذي فقدَ بنِيه سلوَى، فقد ابتُلِيَ من هو خيرٌ منه وأرقَى، ويجِدُ كلُّ أحدٍ فيها أحكامًا وفوائِد وشرعًا.

سيرةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أُنسُ المُجالِس، وأخبارُه زينةُ المَجالِس، وما من أحدٍ إلا ويحبُّ سماعَ سيرته، ويأنَسُ بأخباره. فدعُونا نرحَلُ إلى أيامِه الأولى، وبيتِه الأول، مع أولاده - صلى الله عليه وسلم -.

عباد الله:

كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فتًى من قُريش، وكان بين أقرانِه - إن صحَّ أن يُقال: له قرين - معروفًا بالصدقِ والنزاهة، وكان يُدعَى بينهم "الأمين"، سارَت سيرتُه بينهم مسيرَ الشمس والقمر، فاختارَته خديجةُ بنتُ خُويلدٍ - رضي الله عنها -، ليكون قائمًا بأمر تجارتها إلى الشام، وبعثَت معه غلامَها ميسرة، فكان ما كان.

وأُعجِبَت به خديجةُ - رضي الله عنها -، فتزوَّجَها - صلى الله عليه وسلم - وعُمره خمسًا وعشرين سنة، وكانت أكبرَ منه سنًّا، وأقامَ بيتَه الأول بيتًا تُرفرِفُ فيها السعادة، ويُشرِقُ في جوانبِه الإيمان.

كان - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّ خديجةَ حبًّا جمًّا، حتى كان نساؤُه بعد ذلك يغَرنَ منها، كان يقول: «إني رُزِقتُ حبَّها»، عاشَ معها خمسًا وعشرين سنة، وما تزوَّج بأخرى حتى ماتَت.

رُزِقَ - صلى الله عليه وسلم - منها بستةٍ من الولد: القاسم، وعبد الله، وأربع إناثٍ هنَّ: زينب، ورُقيَّة، وأم كُلثُوم، وفاطمة.

فأما القاسِم، فإنه أولُ أولادِه - صلى الله عليه وسلم -، وبه كان يُكنَى، فيُقال: "أبو القاسِم". وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «تسمَّوا باسمِي، ولا تكنَّوا بكُنيَتي».

وأكثرُ العلماء على أن هذا النهيَ مخصوصٌ بوقتِه - صلى الله عليه وسلم -، ثم نُسِخ؛ لما ثبتَ في "صحيح مسلم" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: نادَى رجلٌ رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسِم! فالتفَتَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله! لم أعنِك، إنما دعوتُ فُلانًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «تسمَّوا باسمِي، ولا تكنَّوا بكُنيَتي».

وقد ماتَ القاسِمُ صغيرًا قبل بعثَةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم بعد القاسم: وُلد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنتٌ فسمَّاها زينب، ومن خبرِها - رضي الله عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زوَّجَها أبا العاصِ بن أبي الربيع، فأسلمَت قبلَه وهاجرَت، ولم يُسلِم إلا قبل الفَتح، فردَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.

وفي يوم بدرٍ أُسِر العاصُ بن أبي الربيع فيمن أُسِر، وبعثَ أهلُ مكَّة كلٌّ في فداءِ أسيرِه، فبعثَت زينبُ بمالٍ وقِلادةٍ تفدِي زوجَها، وكانت هذه القلادةُ هديَّة خديجةٍ لزينب يوم زواجِها، فلما رآها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رقَّ رِقَّةً شديدةً، وتذكَّر أيامه الأولى فانبعَثَ الحنينُ في فُؤادِه، وقال: «إن رأيتُم أن تُطلِقُوا لها أسيرَها، وترُدُّوا عليها الذي لها فافعَلوا»، فقالوا: نعم، يا رسول الله.

ولدَت زينبُ أُمامة، وكان من شفقَته - صلى الله عليه وسلم - وتواضُعِه أنه يُصلِّي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب، فإذا قامَ حملَها، وإذا سجدَ وضعَها. فأخَذ العلماءُ من هذا جوازَ الحركة في الصلاةِ إذا كانت لحاجةٍ.

وأُمامةُ هذه تزوَّجها عليٌّ - رضي الله عنه - بعد موت فاطمة، وماتَت أمُّها زينبُ في السنة الثامنة من الهِجرة، وغسَّلها النساءُ، وكُفِّنَت بإزارِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم بعد زينب: رُزِق النبي - صلى الله عليه وسلم - ببنتٍ فسمَّاها "رُقيَّة"، وزوَّجها عُثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -، فلما كان يوم بدرٍ مرِضَت مرضًا شديدًا، فلم يحضُر عُثمانُ غزوة بدرٍ، كان عند زوجتِه يُمرِّضُها، ثم ماتَت - رضي الله عنها -، فضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعُثمان بسهمٍ كمن حضَر.

روى أحمدُ، عن عائشة أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُهدِيَت له هديَّةٌ فيها قِلادةٌ من جزَع، فقال: «لأدفعنَّها إلى أحبِّ أهلِي إليَّ». فقالت النساءُ: ذهبَت بها ابنةُ أبي قُحافة، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمامةَ بنت زينَب، فعلَّقَها في عُنقِها. وفي سنَد الحديثِ مقال.

ولما ماتَت رُقيَّةُ - رضي الله عنها -، زوَّج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُثمانَ أمَّ كُلثُوم، فكان عُثمانُ يُلقَّبُ بذِي النُّورَين من أجلِ ذلك.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقِيَ عُثمانَ عند بابِ المسجِد، فقال: «يا عُثمان! هذا جبريلُ أخبرَني أن اللهَ قد زوَّجَك أمَّ كلثُوم بمثلِ صداقِ رُقيَّة، على مثلِ صُحبَتها» (رواه ابن ماجه، وفي سنَده مقال).

أما أصغرُ بناتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي فاطمة. هي بنتُ من؟ هي زوجُ من؟ هي أم من؟ من ذا يُدانِي في الفَخارِ عُلاها؟!

في "صحيح مسلم": قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي عند البيت، وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوسٌ، وقد نُحِرَت جَزورٌ بالأمس، فقال أبو جهلٍ: أيُّكم يقوم إلى سَلَى جَزورِ بني فُلان، فيأخذه فيضعُه في كتِفَي محمدٍ إذا سجَد؟ فانبعَثَ أشقَى القوم فأخذَه، فلما سجدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وضعَه بين كتِفَيه. قال: فاستضحَكوا وجعلَ بعضُهم يميلُ على بعضٍ.

قال ابنُ مسعودٍ: وأنا قائِمٌ أنظُر، لو كانت لي منَعَةٌ طرحتُه عن ظهر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجِدٌ ما يرفعُ رأسَه. حتى انطلقَ إنسانٌ فأخبرَ فاطمة، فجاءَت وهي جُويريةٌ فطرَحَته عنه، ثم أقبلَت عليهم تشتُمُهم.

فلما قضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاتَه رفعَ صوتَه ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سألَ سألَ ثلاثًا، ثم قال: «اللهم عليك بقُريش» ثلاث مرات. فلما سمِعوا صوتَه ذهبَ عنهم الضحِك، وخافُوا دعوتَه.

فاطمةُ - رضي الله عنها - زوَّجَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ابنِ عمِّها عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، في السنة الثانية من الهِجرة، فولدَت الحسنَ والحُسينَ سيِّدَا شبابِ أهل الجنة، كان - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّها حبًّا شديدًا ويقول: «هما ريحانتَايَ من الدنيا».

خطبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فأقبلَ الحسنُ والحُسينُ - رضي الله عنهما - عليهما قميصَان أحمران، يعثُران ويقُومان، فنزلَ فأخذَهما، فصعِد بهما المنبَر، ثم قال: «صدقَ الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، رأيتُ هذَين فلم أصبِر»؛ رواه الخمسة.

وصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا بأصحابِه فأطالَ السُّجود، فسألَه الصحابةُ بعد ذلك، فقال: «إن ابنِي ارتحَلَني، فكرِهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضِي حاجتَه» (رواه أحمد والنسائي).

هذا قلبُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه رحمتُه بالصِّغار. لم يُخاصِم، ولم يضرِب، ولم يرفَع صوتَه على الطفلِ وعلى الصبيِّ الذي صعِد ظهرَه وهو يُصلِّي، وإنما انتظرَه وأطالَ السُّجود، وقال: «إن ابنِي ارتحَلَني، فكرِهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضِي حاجتَه».

دخلَ الأقرعُ بن حابسٍ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فرآه يُقبِّلُ الحسنَ، فقال: إن لي عشرةً من الولَد ما قبَّلتُ واحدًا منهم. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحَم لا يُرحَم».

هذا قلبُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه رحمتُه بالصِّغار، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، وهذان هما الحسنُ والحُسينُ.

فاطمةُ هي البَضعةُ النبويَّةُ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فاطمةُ بَضعَةٌ منِّي، يُريبُها ما رابَنِي».

جاءَت فاطمةُ يومًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكُو ما تلقَى في يدِها من الرَّحَى، تسألُه خادمًا، فلم تجِده، فذكرَت ذلك لعائشة. فلما جاءَ النبيُّ أخبرَته عائشة.

قال عليٌّ: فجاءَنا وقد أخَذنا مضاجِعَنا، فذهبتُ أقوم فقال: «مكانَك»، فجلسَ بينَنا حتى وجدتُّ برْدَ قدمَيه على صدرِي، فقال: «ألا أدُلُّكما على ما هو خيرٌ لكما من خادِم؟ إذا أويتُما إلى فِراشِكما - أو أخذتُما مضاجِعَكما - فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمَدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادِم» (رواه البخاري ومسلم).

قال ابن حجر: "وفيه: أن الذي يُلازِمُ ذِرَ الله يُعطَى قوةً أعظمَ من القوة التي يعملُها له الخادِم".

وفي "الصحيحين": عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أقبلَت فاطمةُ تمشِي كأن مِشيَتها مشيُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مرحبًا بابنَتِي»، ثم أجلَسَها عن يمينه أو عن شِماله، ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكَت، فقلتُ لها: لمَ تبكِين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحِكَت.

فقلتُ: ما رأيتُ كاليوم فرحًا أقربَ من حُزنٍ، فسألتُها عما قال، فقالت: ما كنتُ لأُفشِي سِرَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قُبِضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسألتُها، فقالت: أسرَّ إليَّ «أن جبريلَ كان يُعارِضُني القرآنَ كل سنةٍ مرَّة، وإنه عارَضَني العامَ مرتين، ولا أُراهُ إلا حضَرَ أجلِي، وإنكِ أولَ أهلِ بيتي لَحاقًا بي»، فبكيتُ.

فقال: «أما ترضَينَ أن تكونِي سيِّدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المُؤمنين؟»، فضحِكتُ لذلك.

وقد ماتَت فاطمةُ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهُر، رضيَ الله عنها، ورضِيَ عن زوجِها عليِّ بن أبي طالبٍ، ورضِيَ عن ابنَيْها الحسنِ والحُسين.

وإننا نُشهِدُ اللهَ على حبِّهم ومُوالاتهم والتقرُّب إلى الله بذلك، من غير جفاءٍ ولا غُلُوٍّ.

أيها المسلمون:

ثم أصغرُ أولادِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من خديجة: عبدُ الله، وكان يُلقَّبُ بالطيب أو الطاهر، وُلد بعد البِعثة، ومات صغيرًا. ولما ماتَ قال العاصُ بن وائلٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعُوه فإنه رجلٌ أبتَر، إذا ماتَ انقطعَ ذِكرُه؛ لأنه لا ولدَ له! فأنزلَ الله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 1- 3].

أما نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال الله له: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4].

هؤلاء هم أولادُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها -: القاسمُ، وعبدُالله، وزينبُ، ورُقيَّة، وأمُّ كُلثُوم، وفاطمةُ - رضي الله عنهم أجمعين -، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ وآلِه.

اللهم بارِك لنا في القرآن والسُّنَّة، وانفَعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أما بعد .. أيها المسلمون:

صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الفجرَ ذاتَ يومٍ، ثم التفَتَ إلى أصحابِه فقال: «وُلِد الليلةَ لي غُلام، سمَّيتُه باسمِ أبي إبراهيم».

فأخذَ العلماءُ من هذا: تسميةَ المولود في اليوم الأول.

قال البيهقيُّ - رحمه الله -: "تسميةُ المولود حين يُولَد أصحُّ من الأحاديث في تسميتِه يوم السابِع".

نعم، ذاك هو إبراهيم، أمُّه ماريةُ القِبطيَّةُ المصريَّة، أهداها المُقوقِسُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فولدَت له إبراهيم.

قال أنسُ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: ما رأيتُ أحدًا كان أرحمَ بالعِيالِ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. كان إبراهيمُ مُسترضَعًا له في عوالِي المدينة، فكان ينطلِقُ ونحن معه، فيدخلُ البيتَ وإنه ليدخُنُ، وكان ظِئرُه قَينًا –أي: حدَّادًا -، فيأخُذُه فيُقبِّلُه ثم يرجِع.

ماتَ إبراهيم في السنة العاشِرة، وعُمرُه ثمانية عشر شهرًا، وكسَفَت الشمسُ يوم مات، فظنَّ بعضُ الناس أنها كسَفَت لموتِه، وبكَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: «إن العينَ تدمَع، والقلبَ يحزَن، ولا نقولُ إلا ما يُرضِي ربَّنا، وإنا بفِراقِك يا إبراهيمُ لمحزُونون».

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن له مُرضِعًا في الجنة تُكمِلُ رضاعَه».

فصلواتُ الله وسلامُه على عبدِه ورسولِه محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه، وأزواجِه وذريَّته، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أورِدنا حوضَه، وارزُقنا شفاعتَه، واحشُرنا في زُمرته، ووفِّقنا لاتباعِ سُنَّتِه.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المؤمنين.

اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم أنقِذ المسجد الأقصَى والمُؤمنين فيه وحولَه من عُدوان المُعتدين وظُلم المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.

اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سُوريا، وفي كل مكان، اللهم قد عظُم عليهم الخَطب، واشتدَّ الكرب، ولا ناصِر إلا أنت سُبحانك، فاللهم عجِّل بالنصر والفرَج.

اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المُسلمين من كل سُوءٍ ومكروه، اللهم من أرادَنا وأرادَ الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحره، اللهم من أرادَنا وبلادَنا ووُلاتَنا وعُلماءَنا وعامَّتنا ووحدَتنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.

اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا، اللهم انصُر المُجاهِدين جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا، وكلَّ رِجال أمنِنا، اللهم احفَظهم بما يحفَظون من بلادِك المُقدَّسة وعبادِك المُؤمنين، اللهم ثبِّتهم وبارِك أعمالَهم وأعمارَهم، وأهلَهم وأموالَهم، وتولَّ ثوابَهم وتقبَّل منهم يا رب العالمين.

اللهم انشُر الأمن والرخاء في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].

اللهم اغفر ذنوبَنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.

اللهم اغفر للمُسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم، اللهم ارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا، اللهم من كان منهم حيًّا فمتِّعه بالصحة والعافيةِ على طاعتِك، ومن كان منهم ميتًا فتغمَّده برحمتِك، ونوِّر له في قبرِه ووسِّع له فيه، واجعَله روضةً من رِياض الجنة، واجمَعنا به في  دارِ كرامتِك يا رب العالمين.

ربنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميع الدعاء.

نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم ونتوبُ إليه.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضار، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد.

اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.

ربَّنا تقبَل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

سبحان ربِّنا ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي