والإيمان له ذوق خاص ميّزه الله -عز وجل- عن باقي الأذواق الدنيوية, والسر يكمن في أن للإيمان متعة مستمرة لا تفنى, بينما للأذواق الدنيوية متعة مؤقتة, وعلى سبيل المثال الأكل والشرب والجماع واللباس، وغيرها من الأذواق الدنيوية، شهوات منقطعة زائلة, بخلاف الإيمان النافع يبقى ويثمر وتمتد حلاوته...
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، قضى ألا نعبد إلا إياه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج:62]، أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك. ولا إله غيرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو بكل شيء عليم، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: هناك بعض الكلمات والمصطلحات التي لا نحكم بقبولها أو رفضها مباشرة دون وزنها بميزان الشرع الحنيف، وإنما ننظر في دلالاتها الشرعية، وعندها نحكم على الكلمة أو اللفظة بالقبول أو الرد، ومن هذه المصطلحات التي قد ترد للدلالة على كلام شرعي مقبول أو مصطلح بدعي غير مقبول مصطلح الذوق، فاستخدمها أئمة من أهل السنة استخدامًا شرعيًّا، وتحدث بها وغالى فيها أئمة المبتدعة. فتعالوا بنا -أيها الإخوة- إلى النظر في دلالة كلمة من هذا الكلمات، ألا وهو مصطلح الذوق.
والذوق: مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم المحبوب والمنفر المبغوض، ولا يختص ذلك بالفم بل بجميع الحواس. وقد ورد لفظ الذوق في القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، فهذا ذوق لكأس الموت وآلامه، نسأل الله أن يخفف عنا سكرات الموت.
وهناك تذوق لحلاوة الإيمان، وهو أعلى الذوق وأجمله، فعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَاقَ طَعْمَ الإيمان، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً وَبِالإسلام دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً" [مسلم (34)]، وانطلاقا من هذا الحديث النبوي الشريف يرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الإيمان ذوق وإحساس وشعور في القلب، ولا يتحقق الذوق إلا بثلاثة شروط: الرضا بالربوبية، والرضا بالإسلامية، والرضا بالسنة النبوية, فمن لم يتحقق الرضا في قلبه لن يذوق حلاوة الإيمان؛ لأن الرضا عين العبادة والتوحيد.
أيها الإخوة: إن الذوق منزلة إيمانية رفيعة، وهي تجربة فردية بالأساس تتحقق بمعرفة الله -عز وجل-، فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجد، فمن رزقه الله هذه المنزلة فقد عرف الخير كله. لذلك فالتدين يعني ممارسة ذوقية في العبادات كلها فالصلاة ذوق، والصوم ذوق، والزكاة ذوق، والحج ذوق، والجهاد ذوق، والموت ذوق، والتوبة ذوق، بل كل العبادات التي تقرب إلى الله أذواق.
والإيمان له ذوق خاص ميّزه الله -عز وجل- عن باقي الأذواق الدنيوية, والسر يكمن في أن للإيمان متعة مستمرة لا تفنى, بينما للأذواق الدنيوية متعة مؤقتة, وعلى سبيل المثال الأكل والشرب والجماع واللباس، وغيرها من الأذواق الدنيوية، شهوات منقطعة زائلة, بخلاف الإيمان النافع يبقى ويثمر وتمتد حلاوته.
ومن تأمل في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي تصرفاته مع الصحابة -رضوان الله عليهم- سيجده أنه كان يصنع الأذواق. وذوق الإيمان يرتبط أساسًا بمعرفة الله -عز وجل- عبر أسمائه الحسنى، فمن لم يذق حلاوة اسم الرزاق أو الخالق أو القوي, لن يعرف الله حق المعرفة لأن المعرفة محلها القلب.
والتدين يرتبط أساسًا بعلم النصوص أولاً, ومعرفة النصوص في القلوب ثانيًا، لذلك لا يقال للعالم الحافظ للنصوص عارفًا إلا إذا عرف الله بقلبه إحساسًا وذوقًا. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] فالخشية لا تتحقق إلا للعالمين بالله حق المعرفة.
والإسلام بطبيعته أذواق في أركانه الخمسة، بل هو مدرسة يصنع الأذواق في كل الاحوال والمناسبات, فالمسلم إذا لم يذق حلاوة الإيمان في عباداته وسيره إلى الله؛ عليه أن يسأل نفسه وأن يبحث عن مسالك الأذواق في دينه, وإلا سيخسر الدنيا والآخرة قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].
عباد الله: والذوق على نوعين: ذوق طعم الإيمان بوعد الله, وهو يقين يدفع على الجد في العبادة والطاعة, ويمنع ضد ذلك من أن يحبسه عن ذلك كله فلا معارض له في القلب يمنع طلبه لما وعد الله به عباده الصالحين, ويدل عليه قوله -جل شأنه-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 14]، فقد نفى الله الإيمان عمن لم يذق طعم الإيمان؛ لأن المخاطبين مسلمون وليسوا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يباشر القلب.
والثاني: ذوق الإنسان بالله تعالى, والفرق بين هذا النوع والذي قبله أن متعلق الأول وعد الله، وأما الثاني فمتعلقه الأنس بالله, فهو أشرف من الأول، كما أن الأول حال للعابد وهذا حال للمريد, فلا يشغله عن ربه ذكرا له وعبادة له أي شيء كائن من كان, والمريدون يتفاوتون في قوة الأنس بربهم بحسب قربهم منه وبعدهم عنه, ومن كان منهم أقرب كانت خشيته أشد.
أيها الإخوة: وقد عبّر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إدراك حقيقة الإيمان، والإحسان، وحصوله للقلب ومباشرته له: بالذوق تارة، وبالطعام والشراب تارة، وبوجود الحلاوة تارة، كما قال: "ذاق طعم الإيمان", وقال من حديث أنس -رضي الله عنه-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله, ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" [البخاري(21)].
وحلاوة الإيمان هي ما يتذوقه المؤمن المطمئن من لذة هي النعمة التي أنعم الله بها عليه فهيأه بها لإحراز سعادتي الدنيا والآخرة، وحلاوة الإيمان هي ما يتذوقها المؤمن الصادق في إيمانه في كل مظهر من مظاهر حياته من سراء وضراء فهو في كل شيء يشهد أثر اللطيف الخبير فيستفيد بإيمانه لذة في الدنيا وأجرًا عظيمًا في الاخرة.
وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة, حيث قال لأبي سفيان: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟" فقال: لا . قال: "وكذلك الإيمان، إذا خالطت حلاوته بشاشته القلوب" [البخاري(7)]، فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب على أنه دعوة نبوة ورسالة، لا دعوى ملك ورياسة.
والمقصود: أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان، أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى ألفة النفس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "حتى تذوقي عسيلته, ويذوق عسيلتك", فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد. ولا تزول الشُّبَه والشكوك عن القلب إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال, فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة, فيذوق طعمه ويجد حلاوته.
أيها الإخوة: هذه هي أروع حقائق الإسلام وأنبل مظاهره, وأرفع منازله وأعلى درجاته, التي إذا استشعرها قلب المؤمن شعر بسعادة ولذة وطمأنينة وراحة, ووجد حلاوة الإيمان في قلبه ونفسه وروحه، فالمؤمن حقًّا هو من أذعنت نفسه واطمأن قلبه وانشرح صدره، ورأى في ذلك نعمة كبرى من الله, وليحمد الله عليها ويقول: "الحمد لله على نعمة الإسلام".
عباد الله: والذوق على ثلاث درجات:
الأولى: ذوق التصديق، فالمؤمن إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته وثبت على حكم الوعد واستقام. وذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه شيء عند الجد في الطلب، والسير إلى ربه.
والذوق أمر باطن، والوجد كذلك، والعمل دليل عليه، ومصدق له، كما أن الريب والنفاق أمر باطن، والعمل دليل عليه ومصدق له، فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد، واليقين يثمر الجهاد، ومقامات الإحسان كلها، ولا يقطع العبد أمل ولا طمع في دنيا عن سيره إلى ربه.
الثانية: ذوق العبد طعم الأنس بالله، والأنس به -سبحانه- أعلى من الأنس بما يرجوه العبد من نعيم الجنة، فإذا ذاق العبد طعم الأنس بالله جدّ في إرادته وطاعته، والأنس به، فلا يتعلق به شاغل، ولا يشغله عن سيره إلى الله؛ لشدة طلبه الباعث عليه أنسه، الذي قد ذاق طعمه، وتلذذ بحلاوته لدوام ذكره، وصدق محبته، وإحسان عمله، وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب من ربه، ولا يفسده عارض، والعارض ما سوى الله، وإرادة غيره، وإن علا تحجب عن الله، وبقدر إرادتك لغيره تحجب عنه.
الثالثة: ذوق صاحب البعد طعم القرب، فالبعد: أنس القلب بغير الله تعالى، والالتفات إلى ما سواه، والقرب: تجريد التعلق به وحده، والانقطاع عما سواه، وذوق صاحب الهمة طعم مناجاة الله، والأنس به، ومحبته، والقرب منه، حتى كأنه يخاطبه ويعتذر إليه، ويتملقه تارة، ويثني عليه تارة، حتى يبقى القلب ناطقاً، وإن كان اللسان ساكتاً و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21]
أيها الإخوة: والتذوق بغير اللسان وفضله على ما يجده من تذوق بلسانه مشهور معلوم يجده المرء حتى في كثير من متع الدنيا التي يحصلها الناس بالحق وبالباطل، وللناس فيما يعشقون مذاهب، وقديماً قال الإمام الشافعي عليه -رحمة الله-:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عناق
وصرير أقلامي على صفحاتها *** أحلى من الدّوكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها *** نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتفكري طربا لحل عويصة *** في الدرس أشهى من مدامة ساق
أأبيت سهران الدجى وتبيته *** نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي؟!
هذا خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، ألقى عليه القبض كفار قريش، وأرادوا أن يقتلوه صلباً، فسألوه قبل أن يقتلوه: "أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟" فقال: "والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويُصاب رسول الله بشوكة".
التي ذاقت حلاوة الإيمان، بلغها أن النبي قد قُتل في أحد، فانطلقت إلى ساحة المعركة، فإذا أبوها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا أخوها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا ابنها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا زوجها مقتول، أبوها، وأخوها، وابنها، وزوجها، إلى أن وقعت عينها على شخص النبي -عليه الصلاة والسلام- فاطمأنت، وقالت: "يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل" أي تهون، هذه ذاقت حلاوة الإيمان.
إن الصحابة الكرام وتابعوهم بإحسان ذاقوا حلاوة الإيمان، فبذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، كما قال بعض العاشقين:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
وليت شرابي من ودادك سائغ *** وشربي من ماء الفرات سراب
هذا حال من ذاق طعم الإيمان، فمن يذوق طعم الإيمان لو قطتعه إرباً إرباً لا يتزحزح، وضعوا على صدر سيدنا بلال صخرةً ليكفر، فما زاد عن أن قال: "أحدٌ أحد فرد صمد".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، نعمه علينا تترى، أسبل علينا من رحمته سترًا، وأفرغ علينا بفضله صبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خُصَّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، وكونوا من المحسنين، واعلموا أن للإيمان طعمًا، وإن القلب إذا ذاق هذا الطعم فلن يعجبه شيء بعد ذلك، ومن عرف الله زهد فيما سواه، وإن من يذق حلاوة الإيمان يفعل المعجزات، أما إذا بقي في الأفكار، فالأفكار لا تقدم ولا تؤخر.
إذا دخل الإيمان إلى القلب صرت إنسانا آخر، يسعدك أن تعطي لا أن تأخذ عكس الناس، يسعدك أن تقدم جهدك للآخرين لا أن تأخذ جهدهم، يسعدك أن تكون أقل الناس شأناً وأحظاهم عند الله -عز وجل-.
أيها الأخوة: حلاوة الإيمان لا يعرفها إلا من ذاقها، وحينما تصل إلى حلاوة الإيمان، كأن موضوع الأخذ والرد مع النفس ينتهي، الإنسان قبل أن يذوق حلاوة الإيمان، تأمره نفسه فيردعها، يصطرع معها، يغلبها وتغلبه، يقودها وتقوده، هذا الصراع المستمر بين الإنسان ونفسه، ينتهي حينما يذوق حلاوة الإيمان.
سئل أحد السلف: "يا إمام! متى كان الله؟", فقال: "ومتى لم يكن؟". أحوال العاشقين، أحوال المحبين شيء آخر في الدين، وأنت حينما تحب الله -عز وجل-، لو أردت أن تزيل جبلاً من مكانه لزال، لله رجال إذا أرادوا أراد لهم يعني مستجابو الدعوة، يعني هم حينما اقتربوا من الله، اقتربوا من مصدر القوة.
الإنسان إذا ذاق حلاوة الإيمان، يبتعد عن الآمال، ويتجه إلى الأعمال، كل إنسان يعيش في الأمل، يتمنى ويتأمل ولا يعمل، ما ذاق حلاوة الإيمان، وكل إنسان يقوم إلى الصلاة ولم يذق حلاوة الإيمان، فإنه يؤدي العبادات بتثاقل، كل قضية يدعى إليها منها يعتذر، لا يرغب هذا ما ذاق حلاوة الإيمان، ولو ذاق حلاوة الإيمان لكان كالمرجل، حلاوة الإيمان تعطيك قوةً عجيبة، تعطيك قوةً تنسى بها كل شيء.
إخواني: إن من ذاق حلاوة الإيمان، ومعرفة الله -عز وجل-، والقرب منه، والأنس به، لم يكن له أمل في غيره، وإن تعلق أمله بسواه، فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، فهو يؤمله لأجله ولا يؤمله معه، هذا ينقلنا إلى حقيقة الحب في الله والحب مع الله.
وهذه الحلاوة أداة يذوقها القلب واللسان والجوارح، ويجد المرء أثر ذلك في نفسه، بخلاف المطعومات فذوقها يكون باللسان وإثر ذلك ينبعث في النفس شعور يقتضيه المذاق بحسبه، فكذلك أعمال الإيمان منها ما يكون بالقلب ومنها ما يكون باللسان ومنها ما يكون بالجوارح ولكلها مذاق يجد المرء مقتضاه الحلو في نفسه، والقلب لابد له من أثر في جميع ذلك فهو أصل الأعمال.
وأنت ترى أن بعض الموفقين يحسن بكلمة طيبة إلى مظلوم أو مسكين فيجد في نفسه شعوراً عجيباً، وآخر يعطي فقيراً مالاً فما أن يتناوله من يده حتى ينصرف بشعور عجيب ينقذف في نفسه، وآخر يتفكر في كلام الله تعالى فيجد في نفسه شعوراً لا يعدله شعور بمتعة طعام!.
والتذوق بغير اللسان وفضله على ما يجده من تذوق بلسانه مشهور معلوم يجده المرء حتى في كثير من متع الدنيا التي يحصلها الناس بالحق وبالباطل، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
إن حلاوة الإيمان هي الرغبة في الإيمان وانشراح الصدر له وسريانه في اعضائه, بحيث يخالط لحمه ودمه, فيشعر بلذة نفسية تدفعه إلى التلذذ بالطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار الله والآخرة على متاع الدنيا وزخرفها, فحلاوة الإيمان لذاته وانشراح الصدر له وسرور النفس به والأريحية التي يجدها المؤمن في قلبه من أثر الإيمان حتى ليتفانى في سبيله ويضحي من أجله بكل شيء. فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، لنذوق حلاوة الإيمان.
فاتقوا الله -عباد الله- وخافوه، وأخلصوا له العمل، واحذروا معاصيه، حافظوا على صلاتكم، صلوا أرحامكم، بروا آباءكم، وأحسنوا إلى نسائكم وأبنائكم، وأتقنوا أعمالكم، وارجوا فضل ربكم، واطمعوا فيما عنده.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي