فقه الجهاد في سبيل الله -3

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. عز الأمة في الجهاد وذلها في تركه .
  2. جهاد العدو فرع لجهاد النفس .
  3. الحكمة من تشريع الجهاد .
  4. الحض على الجهاد من الكتاب والسنة   .
  5. أنواع الجهاد وأقسامه .
  6. مراتب الجهاد. .

اقتباس

أقسام الجهاد أربعة: جهاد النفس, وجهاد الشيطان, وجهاد الكفار, وجهاد المنافقين. والنفس هي عدو الإنسان الداخلي، وعدو الإنسان الخارجي الكفار والمنافقون، ولا يمكن جهادهما إلا بجهاد الشيطان والتصدي له، وذلك بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات, وجهاد الكفار والمنافقين مراتبه أربع: بالقلب, واللسان, والمال, والنفس...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي الَّذِي (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك يحق الحق بكلماته ولو كره الكافرون، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

أيها المسلمون, عباد الله: تحتل قضية الجهاد في سبيل الله أهمية قصوى في حياة المسلمين، فقد أعز الله به المسلمين الأوائل، وقامت عليه فتوحاتهم الكبرى التي نشر الله بها دينه في مشارق الأرض ومغاربها كما بشر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبقيت دولة الإسلام قاهرة لعدوها غالبة لقوى الشر في العالم ما تمسكت به وأقامته، وما إن تركته الأمة إلا تسلط عليها عدوها وأذلها وأخذ بعض ما في أيديها إلا إنه بحمد الله وفضله لم ينقطع، ولن ينقطع إلى يوم القيامة مصداقاً لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" [مسلم (156)].

عباد الله: والإسلام هو نظام الحياة المنزل من عند الله، وهو الذي يقرر حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فيقرر عبودية الله، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر، وهذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، فلا بدَّ له من أهل يبذلون جهدهم لتعريف الناس به، وتعليمهم إياه، وردهم إليه, لا بدَّ من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطيل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.

ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويجاهدها في الله لتستقيم على أوامر الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ كيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله، وهي نفسه الأمارة بالسوء.

والإسلام هو الدين الكامل العظيم الشامل الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه إلى كافة العالمين، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه, كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]، وقد شرع الله هذا الدين ليكون قاعدة للحياة الإنسانية في الأرض كلها، وليكون منهجاً عاماً للبشرية بأجمعها، ولتقوم الأمة المسلمة بدعوة البشرية وقيادتها إلى ربها وفق النهج الإلهي الذي فيه كل خير، ورفعها إلى هذا المستوى العالي من الحياة الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا الدين، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة.

والكافرون هم الظالمون حقاً؛ ظلموا الحق فأنكروه, وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك, وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى, وفتنوهم عن الإيمان, ولبسوا عليهم الطريق, وخدعوهم بالباطل, وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير الإيمان والسلم والرحمة والطمأنينة، فما أشد ظلمهم, وما أعظم كيدهم, وماذا ينتظرهم من عذاب الله الأليم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر: 36].

لقد جاء الإسلام ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وفوق هذا يقيم نظاما أخلاقيا كريما تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد، حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل إنسان من مسلم وغيره، ولا يكره فيه أحد على الإسلام، إنما هو البلاغ والبيان.

فهذا الدين العظيم الذي أكرم الله به خلقه، وأنزله عليهم، وبعث به رسوله إليهم، وارتضاه للبشرية جمعاء، من حقه أن يجاهد ليحطم قوة الباطل التي تناصبه العداء، وتكيد له بغير حق، وتحرم الناس منه، وتصد الناس عنه، وتنفرهم منه، فليسحقها الإسلام سحقاً، ويبيد هذه الحشرة السامة، ليعلن نظامه الإلهي الرفيع في الأرض، ويدعو الناس إليه، ثم يدع الناس في ظله أحراراً، لا يلزم أحداً إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية، والمالية والسياسية التي تتضمن العدل والإحسان لكل البشر، أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار، فهو وإن كان يحب لهم الإيمان فهو لا يلزمهم به ولا يكرههم عليه، وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم، والإسلام يكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم, ومن أجل ذلك كله كان تشريع الجهاد في سبيل الله تعالى.

أيها الإخوة: إن من حق البشرية أن يُترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين، لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة، فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد الدعوة والبيان لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها، فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى ولا بالإغراء، ولا بصد الناس عن الهدى، وعلى إمام المسلمين أن يدفع عنهم بالقوة كل من يتعرض لهم بالأذى والفتنة ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.

وعلى المسلمين تحطيم كل قوة تعترض سبيل الدعوة إلى الله وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة، وتفتن الناس عنها، وأن يستمروا في الجهاد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله، لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يدين به أو يبلغه، وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله، ويضلهم عن سبيل الله، ويفتنهم عنه بكل باطل كما قال -سبحانه-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193].

أيها الإخوة: الإنسان ضعيف محدود العلم والقدرة والرؤية، لا يدري أين يكون الخير، وأين يكون الشر؟؛ ولقد كان المؤمنون الذين خرجوا في بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ولا يودون ذات الشوكة والقتال، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم بلا استعداد وجهاً لوجه بالمقاتلين من قريش، فكان النصر الذي دوى بالجزيرة العربية، ورفع راية الإسلام والمسلمين، وهشم رأس الباطل الذي حاد الله ورسوله، وفرح المؤمنون بنصر الله، ونزول الملائكة، وهلاك أهل الباطل، وزاد إيمانهم بربهم الذي مكنهم من القتل والأسر والظفر بالغنائم, (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7]، فأين تكون القافلة من هذه الخيرات والبركات التي حققها الله في بدر وأكرم بها المسلمين؟، وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟, (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة: 216].

إن الله -تبارك وتعالى- خالق كل شيء ومالك كل شيء، ولكن من فضله وجوده وإحسانه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاستخلص -سبحانه- لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، لم يعد لهم خيار أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيل الله، لم يعد لهم خيار أن يبذلوا أو يمسكوا، إنها صفقة مشتراة، ولمشتريها أن يتصرف بها كما يشاء، وليس للبائع فيها من شيء، سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يلتفت ولا يتخير ولا يجادل، فهو عبد مملوك، وليس للعبد إلا الطاعة والعمل والاستسلام والانقياد: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)[التوبة: 111]، فالثمن هو الجنة, والطريق هو الجهاد والقتل والقتال لإعلاء كلمة الله، وكف العدوان، وإزالة الفساد, والنهاية هي النصر أو الشهادة التي بعدها الجنة.

أيها الإخوة: الجهاد في سبيل الله الذي هو قتال الكفار ذروة سنام الإسلام، وبه قام هذا الدين، وارتفعت رايته، وهو من أعلى القربات، وأجل الطاعات، شرع لإعلاء كلمة الله تعالى، وتبليغ دعوته للناس كافة، وقد بيَّن الله في آيات كثيرات أمره بذلك، فقال -سبحانه- وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[التوبة:41] وقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35] فجعل الفلاح معلقاً بالتقوى وقربة إلى الله بطاعته والجهاد في سبيله.

وقال -عز وجل-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)[البقرة:190] أي: الذين من شأنهم القتال كما بيّن ذلك أهل العلم، بخلاف النساء والأطفال، فليس من شأنهم القتال وبخلاف الرهبان في الصوامع، وبخلاف المشايخ العاجزين، فإنهم ليسوا من أهل القتال؛ ولهذا قال بعد ذلك في نفس السورة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة: 193] فعلم بذلك أن المراد هو قتال الكفرة الذين من شأنهم القتال لا قتال من شأنه العجز عن القتال من النساء والصبيان والعجزة من الشيوخ وأرباب الصوامع، فليسوا من أهل القتال، وقال في الآية الأخرى في سورة الأنفال: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:39].

وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" [البخاري (26) ومسلم(83)]. وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". [البخاري (2792) ومسلم (1880)]، فهذا شيء من فضل الجهاد في السنة المطهرة.

عباد الله: الجهاد نوعان: جهاد داخلي, كجهاد النفس, وجهاد الهوى, وجهاد الشيطان, وجهاد الدنيا. وجهاد خارجي: وهو جهاد الأعداء والكفار من شياطين الإنس والجن باللسان والسيف، والجهاد الداخلي مقدم على الجهاد الخارجي، فإذا انتصر المسلم على عدوه الداخلي نصره الله على عدوه الخارجي، وإذا انتصر عليه عدوه الداخلي انتصر عليه عدوه الخارجي.

أيها الإخوة: الجهاد في سبيل الله ليس مقصورًا على الحرب، وإنما له صور كثيرة، وحقيقة المجاهدة تكون بثلاثة أشياء:

أولها: أن نكمل العمل من أوله إلى آخره، عبادة ودعوة، وشرطه أن يكون خالصاً لله، موافقاً لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وثانيها: التضحية بالبذل والترك من أجل الدين، فنقدم حاجات الدين على حاجات النفس، والدعوة على جميع الأعمال، والأهم على المهم.

وثالثها: الاستقامة على هذا العمل، والاستمرار فيه، وإقامة الناس عليه، وبذلك تحصل لنا السعادة في الدنيا والآخرة, كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30 - 32]، وبهذه المجاهدة يرزقنا الله الإخلاص، وحسن العمل، وتحصل الهداية لنا ولجميع الناس كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

والتقوى والصبر سبب لحفظ المؤمنين من كيد الأعداء، وإذا كادنا الأعداء وغلبونا علمنا أن حقيقة التقوى والصبر لم تكن في قلوبنا, كما قال -سبحانه-: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120].

الطواغيت والكفار أضعف خلق الله وأخوفهم؛ لأن الله ليس معهم، فهم كالفأرة أمام الأسد, بل كالحشرات, بل هم صم بكم عمي, بل هم أموات أمام الأحياء, وأنى يفعل الميت بالحي شيئاً: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11]، وقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]، فلما خفناهم ولم نخف الله أذلنا الله بهم، وخوفنا الشيطان منهم: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].

عباد الله: إن العبادات والشعائر والشرائع الإلهية التي تنظم حياة البشرية، لا بدَّ لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله، وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة، وحرية العبادة، وأماكن العبادة، وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائمة على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية كافة في الدنيا والآخرة, ومن هنا أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين؛ ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية الدعوة في ظل دين الله كما قال -سبحانه-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: 39]. والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ خلق الله الإنسان.

فلا بدَّ للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من الأشرار والبغاة والطغاة، وقد أمرنا الله بذلك في قوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]، ولم يشأ الله -عزَّ وجلّ- أن يترك أهل الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والباطل والشر اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب.

والله -سبحانه- يكره أعداء المؤمنين لكفرهم، فهم مخذولون حتماً، والمؤمنون مظلومون غير معتدين، فليطمئنوا على حماية الله لهم، ونصره إياهم كما قال -سبحانه-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: 39]، فلا بدَّ للمسلمين من الجهاد في سبيل الله لحماية العقيدة، وأماكن العبادة، والدفع عنها؛ لئلا تنتهك حرماتها، فما أرحم الله بعباده إذ شرع لهم الجهاد في سبيل الله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج: 40]، وهذه الأماكن كلها معرضة للهدم، لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرماتها، ويعتدون على أهلها.

أيها الإخوة: إن الباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان متى ما وجد حقا، إلا أن يدفعه الحق بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بدَّ له من القوة تحميه، وتدافع عنه، وترهب أعداءه، وهي سنة شرعية مأمور بها كما قال -سبحانه-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].

وإذا قوي الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله كلها، وتلذذ بمباشرتها، فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان مع قوة البدن فذلك الذي يحبه الله في ميدان الجهاد، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الأنفال: 15، 16].

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر من نصر دينه وأن يخذل من خذل دينه ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين ,

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبدالله ورسوله النبي الأمين بعثه الله بالهدى واليقين (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين وآل كلا وصحب كلا أجمعين وأحسن الله ختامكم وختام  المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.

عباد الله: إن هذا الدين لا يقوم بغير حراسة، ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد، ولا ينتشر بغير دعوة، ولا يبقى عزيزاً منيعاً بغير جهاد؛ جهاد لتأمين العقيدة, وتأمين الدعوة, وحماية أهله من الفتنة, وحماية شريعته من الفساد؛ ومن ثَم كان للشهداء في سبيل الله مقامهم، وكان لهم قربهم من ربهم كما قال -سبحانه-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشهداء في سبيل الله: "أرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمِ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأوْا أنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أنْ يُسْألُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أرْوَاحَنَا فِي أجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أخْرَى، فَلَمَّا رَأى أنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" [مسلم (1887)].

أيها الإخوة: أقسام الجهاد أربعة: جهاد النفس, وجهاد الشيطان, وجهاد الكفار, وجهاد المنافقين. والنفس هي عدو الإنسان الداخلي، وعدو الإنسان الخارجي الكفار والمنافقون، ولا يمكن جهادهما إلا بجهاد الشيطان والتصدي له، وذلك بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات.

وجهاد الكفار والمنافقين مراتبه أربع: بالقلب, واللسان, والمال, والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وجهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات على ثلاث مراتب: جهاد باليد إذا قدر, فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ" [مسلم (49)].

ومن جاهد نفسه وشيطانه وعدوه الكافر والمنافق فإنما يجاهد نفسه؛ لأن نفعه راجع إليه، وثمرته عائدة إليه، والله غني عن العالمين كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6]، وجميع الأوامر والنواهي يحتاج فيها العبد إلى جهاد؛ لأن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير، وشيطانه ينهاه عنه، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه كما ينبغي.

أيها الإخوة: إن الجهاد في سبيل الله تعالى ذروة سنام الإسلام ومن أعظم وأجل القربات إلى الله تعالى بلا خلاف ولا نزاع، ولما كان الجهاد مطلبا لكثير من الشباب المسلم المتحمس استغل حماسهم بعضُ المنظرين من أصحاب المناهج المنحرفة كما استغل جهلهم وحبهم للخير وطمعهم بالأجر والثواب ونيل رضا الله والنجاة من العقاب أحببت أن أذكر نفسي وإياهم بأنواع من الجهاد لا تَقِّل أهمية وفضلا عن القتال في سبيل الله تعالى، لا سيما في حال العجز عن القتال، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح ـ 17]، وقال تعالى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبةـ 91]، فعلى الشباب المتحمس أن يلجئوا للعلماء ولا يسطحوا القضايا الكبرى، وأن يعتصموا بالله تعالى.

عباد الله: والنفس والكفار عدوان امتحن الله العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو الشيطان، فهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذل ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات.

فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، كل أحد بحسبه كما قال -سبحانه-: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52]، فهذا أعظم الجهاد، وهو جهاد الدعوة وتبليغ الدين إلى الناس. فما جعل الله على أحد في الدين من حرج، بل جعله واسعاً يسع كل أحد، كما جعل رزقه يسع كل حي، فكلف العبد بما يسعه، ورزقه ما يحتاجه، وأغناه من فضله، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما.

نسأل الله أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله، بأنفسنا وأموالنا، ونسأله -سبحانه- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي دينه وشريعته وسنة نبيه، آمين والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي