عبادَ الله: إنَّ من لوازم الإيمان بالله -تعالى-: أنْ يتحلَّى المسلم بالخلُق الحسن، ويُعامل الناس بمكارم الأخلاق، والتحلِّي بحسن الخلُق جزءٌ رئيسٌ من الإيمان بالله -تعالى- لا ينفكُّ عنه، وكلَّما قوي إيمان العبد كان التزامه بالخلق الحسن أقوى...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله ربَّكم -أيها المؤمنون-، تجدوا غبَّ ذلك راحةً في البال، وسعةً في الرزق، وسكينةً في النفس.
عباد الله: أرأيتُم لو أنَّ أبًا نادَى ابنه، ألا يُلبِّي النداء على عجل؟ ولو طلب منه شيئًا ألا يسرع بالامتثال؟ بلى والله، فحقُّ الأب عظيمٌ، وطاعته واجبةٌ، ومعروفُه لا يُنسى، فما الحال إذًا إذا ناداك -يا عبد الله- سيِّدك ومولاك وخالقك ورازقك -سبحانه وتعالى-؟ ألا تُبادر بالسمع والطاعة حبًّا وتعظيمًا وإجلالاً وخوفًا ورجاءً؟ فحقُّ الله -تعالى- أعظم الحقوق، وامتثال أمرِه آكَد الواجبات، وترْك معصيته أكبرُ الفرائض.
إذا علمت هذا -أيُّها المسلم- وأَيْقنت به، فاسمَعْ قولَ الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[النساء: 136].
واسمَعْ ما أُمر به النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الأعراف: 158].
إنَّ ربَّنا -سبحانه- يُنادي عبادَه ويأمرُهم أنْ يؤمنوا به حقَّ الإيمان، وقد وعَد سبحانه أهلَ الإيمان بالجنَّة والمغفرة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخِرة: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 72].
والإيمان بالله -تعالى- شُعَبُهُ كثيرة، ومُقتَضياته عديدة، وحقيقتُه لا تخفَى، فالإيمان بالله -تعالى- اعتقادٌ بالقلب، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، وليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقَه العمل، كما قال سلَفُنا الكرام -رحمهم الله-.
عبادَ الله: إنَّ من لوازم الإيمان بالله -تعالى-: أنْ يتحلَّى المسلم بالخلُق الحسن، ويُعامل الناس بمكارم الأخلاق، والتحلِّي بحسن الخلُق جزءٌ رئيسٌ من الإيمان بالله -تعالى- لا ينفكُّ عنه، وكلَّما قوي إيمان العبد كان التزامه بالخلق الحسن أقوى، هكذا يرشدُنا كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- فالله -تعالى- يقولُ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة: 177].
فانظُر -رعاك الله- كيف أصبَحَ الإحسان إلى القريب واليتيم والمسكين والوفاء بالعهد من خِصال الإيمان، وذكرها الله تعالى قرينة للإيمان به سبحانه وباليوم الآخِر، بل قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "البر حُسن الخلُق" [مسلم].
ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، وألطَفُهم بأهله" [الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"].
وأخرج البخاري قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: "والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ" قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه"، والبوائق: هي الشرور.
وعنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البَذِيء" [أخرجه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب"].
وفي "صحيح مسلم" عن أنسٍ عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنُ عبدٌ حتى يحبَّ لجاره -أو قال: لأخيه- ما يحبُّ لنفسه".
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمنُ مَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"، وقال: "حديث حسن صحيح".
وسُئِل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أيُّ الإسلام خيرٌ؟ قال: "تطعمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على مَن عرفتَ ومَن لم تعرفْ" [أخرجه البخاري].
وعن أبي هريرة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "مَن كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخِر فليقُلْ خيرًا أو ليصمُتْ، ومَن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرم جارَه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفَه" [مسلم].
فانظُر -يا عبدالله- كيف أصبح التحلِّي بالخلق الكريم من أهمِّ خِصال الإيمان ولوازمه، ونفهم من هذا أنَّ مَن حسنت أخلاقه وطابت فعاله مع الناس، كان أقربَ إلى الإيمان، وأكثر تحقيقًا له ممَّن ساء خلقه وشان طبعه، وفي مقابل ذلك نعلم أنَّ انهيار الأخلاق وضعف التحلِّي بالخلق الكريم مردُّه إلى ضعف الإيمان أو فقدانه؛ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم تقريرًا لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلُق القويم: "ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافقٌ، وإنْ صامَ وصلَّى وحجَّ واعتمر وقال: إنِّي مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" [رواه مسلم].
ولا ريب أنَّ النفاق أخطر ما يُناقض الإيمان، نخلصُ من ذلك -يا عباد الله- إلى أنَّ للإيمان حقيقةً، وكل حقيقة لها علامة، وعلامة الإيمان العمل به وتحقيق أركانه والتِزام لوازمه، ومن لوازم الإيمان بالله -تعالى- التحلِّي بمكارم الأخلاق والإحسان إلى الخلق، ومَن كان مؤمنًا حقًّا فلتحسن أخلاقه ولتطب فعالُه؛ طاعةً ومحبةً لله -تعالى- ولرسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
اللهمَّ اهدِنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عنَّا سيِّئها، لا يصرف عنَّا سيئها إلا أنت.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله -أيها المؤمنون-، وأطيعوا الله والرسول لعلكم تُرحَمون.
عباد الله: إذا كان ارتباطُ الخلق والسلوك بالإيمان بالله بهذه المثابة، وإذا كان لُزوم الخلق الحسن من لَوازِم العقيدة الإسلاميَّة، فلماذا نرَى في واقع المسلمين الآن المخالفة والمناقضة لهذه المسلَّمات؟
لقد أصبحت الشكوى مريرة لما أصابَ الناس في العُصور المتأخرة من انهيارٍ في الأخلاق، واضطرابٍ في الموازين، فالقريب يتذمَّر من قريبه، والجار يشكو جارَه، والأمانة ضاعَتْ بين الناس، والمراوغة راجَتْ سوقُها، والغشُّ في المعاملات قائمةٌ سوقُه، وتضييع حقوق العباد وتأخيرها ممَّا ألفه كثيرون؛ ممَّا اضطرَّ الناس إلى البحث عن صديق أو رفيق يسهل أمر تلك المعاملة أو يعجل بالموعد، بل ربما تطلَّع موظفٌ إلى رشوةٍ كي يُؤدِّي عملَه الواجب عليه، وإنَّه لخطرٌ عظيم ينذرُ بالشرور والفوضى، وإنَّ ذلك لدلالةٌ واضحة على فساد التصوُّر وضعف الإيمان، فظهرَ بسبب ذلك انفصامٌ نكد وازدواجيَّةٌ بين مفهوم الإيمان ومقتضياته، حين يشعُر المسلم أنَّه غير مُطالَب بأداء الحقوق أو إحسان الخلق مع الناس، ويرى أنَّ ذلك عملٌ ثانوي لا يُؤثِّر تركه في دِينه وعقيدته.
فلنتَّقِ الله -أيها المسلمون-، ولنعلم أنَّه لا بُدَّ من تمثُّل العقيدة وتشرُّبها، وأنْ تتحوَّل إلى واقعٍ عملي في الحياة والتعامُل بين الأنام، تأسِّيًا بأصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذين تحوَّلُوا إلى نماذج فريدة سُلوكًا وإخلاصًا، بل وتأسِّيًا بالنبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي كان خلُقُه القُرآن، وكان أحسَنَ الناس خُلُقًا، وهو أكثر الخلق إيمانًا بالله، وخشيةً له.
اللهمَّ اجعَلْنا من عبادك الذين يستَمِعون القول فيتَّبعون أحسنه.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي