بين حصار المشركين وحصار الباطنيين

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. حاجة المصلحين إلى الصبر واليقين .
  2. ضرب الحصار من أساليب أهل الباطل مع أهل الحق .
  3. وقفات مع حصار شِعب أبي طالب .
  4. الاضطهاد لا يقتل دعوة الحق .
  5. كيفية فك الحصار عن الشعب .
  6. تعاون أشراف قريش في فك الحصار .
  7. حصار الروافض لأهل السنة في الفلوجة ومضايا وغيرها. .

اقتباس

كَانَ المُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِحِصَارِ المُؤْمِنِينَ يَرُدُّونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنْ خَابَ ظَنُّهُمْ، وَارْتَدَّ عَلَيْهِمْ مَكْرُهُمْ؛ إِذْ صَارَ المُؤْمِنُونَ بَعْدَ الْحِصَارِ أَقْوَى وَأَصْلَبَ مِمَّا كَانُوا قَبْلَهُ. وَهَا هُوَ التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ؛ فَالْأُمَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ الْحَاقِدَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ تُحَاصِرُهُمْ فِي فَلُّوجَةِ الْعِرَاقِ، وَفِي عَدَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الشَّامِ، وَهُوَ حِصَارٌ يُرِيدُ بِهِ الْبَاطِنِيُّونَ كَسْرَ شَوْكَةِ المُؤْمِنِينَ، وَيُعَاقِبُونَ بِهِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَغَيْرِ المُقَاتِلِينَ؛ لِأَنَّ المُعْتَقَدَ الْبَاطِنِيَّ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ إِبَادَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَافَّةً...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ يَبْتَلِي عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ؛ لِيُؤَهِّلَهُمْ لِلنَّصْرِ وَالِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154] نَحْمَدُهُ فِي الْعَافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ كَمَا نَحْمَدُهُ فِي الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَهُوَ المَحْمُودُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَزِيزٌ لَا يُرَامُ، وَمَلِكٌ لَا يُضَامُ، وَقَيُّومٌ لَا يَنَامُ، لَهُ فِي عِبَادِهِ شُئُونٌ وَأَفْعَالٌ، مَدَارُهَا عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أُوذِيَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى فَصَبَرَ، وَمُكِّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَشَكَرَ، وَانْتَصَرَ عَلَى أَعْدَائِهِ فَصَفَحَ وَغَفَرَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْبُدُوهُ وَعَظِّمُوهُ، وَاذْكُرُوهُ وَاشْكُرُوهُ؛ فَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَفْعَالٌ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ (أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ حَمَلَ رِسَالَةَ اللهِ -تَعَالَى-، وَدَعَا إِلَى دِينِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّحَ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ؛ لِيَنَالَ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، وَيُمَكَّنَ لَهُ فِي الْعَالَمِينَ؛ فَبِالْيَقِينِ يَبْقَى عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ فَلَا يُبَدِّلُهُ وَلَا يُغَيِّرُهُ، وَبِالصَّبْرِ يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِي سَبِيلِ دَعْوَتِهِ.

وَمَنْ زُعْزِعَ يَقِينُهُ حَادَ عَنْ مَنْهَجِهِ، وَمَنْ ضَعُفَ صَبْرُهُ تَخَلَّى عَنْ دَعْوَتِهِ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

وَمِنْ أَسَالِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي مُحَارَبَةِ الْحَقِّ ضَرْبُ الْحِصَارِ عَلَيْهِمْ، وَتَجْوِيعُهُمْ حَتَّى المَوْتِ؛ لِيَكْسِرُوا عَزِيمَتَهُمْ، وَيُوهِنُوا قُوَّتَهُمْ، وَيَصْرِفُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ.

وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ خَبَرُ حِصَارِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ حَتَّى أَهْلَكَهُمُ الْجُوعُ «وَتَمَخَّضَ حِقْدُ المُشْرِكِينَ عَنْ عَقْدِ مُعَاهَدَةٍ تَعُدُّ المُسْلِمِينَ وَمَنْ يَرْضَى بِدِينِهِمْ؛ أَوْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ؛ أَوْ يَحْمِي أَحَدًا مِنْهُمْ- حِزْبًا وَاحِدًا دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا أَلَّا يَبِيعُوهُمْ، أَوْ يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَأَلَّا يُزَوِّجُوهُمْ، أَوْ يَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَكَتَبُوا ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ عَلَّقُوهَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، تَوْكِيدًا لِنُصُوصِهَا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَوِي الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ، نَجَحُوا فِي فَرْضِ رَأْيِهِمْ، وَإِشْبَاعِ ضِغْنِهِمْ، فَاضْطَرَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الِاحْتِبَاسِ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ، وَانْحَازَ إِلَيْهِمْ بَنُو المُطَّلِبِ، كَافِرُهُمْ وَمُؤْمِنُهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، مَا عَدَا أَبَا لَهَبٍ، فَقَدْ آزَرَ قُرَيْشًا فِي خُصُومَتِهَا لِقَوْمِهِ.

وَضُيِّقَ الْحِصَارُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَوْنُ، وَقَلَّ الْغِذَاءُ حَتَّى بَلَغَ بِهِمُ الْجَهْدُ أَقْصَاهُ، وَسُمِعَ بُكَاءُ أَطْفَالِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، وَعَضَّتْهُمُ الْأَزَمَاتُ الْعَصِيبَةُ، حَتَّى رَثَى لِحَالِهِمُ الْخُصُومُ، وَمَعَ اكْفِهْرَارِ الْجَوِّ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَدْ تَحَمَّلُوا فِي ذَاتِ اللهِ -تَعَالَى- الْوَيْلَاتِ.

وَلَمْ تَفْتُرْ حِدَّةُ المُشْرِكِينَ فِي الْحَمْلَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَرِجَالِهِ، وَفِي تَأْلِيبِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: "كَانَتِ الصَّحَابَةُ إِذَا قَدِمَتْ عِيرٌ إِلَى مَكَّةَ، يَأْتِي أَحَدُهُمُ السُّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ قُوتًا لِعِيَالِهِ، فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ فِيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَالِي وَوَفَاءَ ذِمَّتِي، فَأَنَا ضَامِنٌ أَلَّا خَسَارَ عَلَيْكُمْ. فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمُ السِّلْعَةَ قِيمَتَهَا أَضْعَافًا، حَتَّى يَرْجِعَ أَحَدُهُمْ إِلَى أَطْفَالِهِ، وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ، وَيَغْدُو التُّجَّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، حَتَّى جَهِدَ المُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جُوعًا وَعُرْيًا".

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: "خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِأَبُولَ فَسَمِعْتُ قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ، فَإِذَا قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ، فَأَخَذْتُهَا وَغَسَلْتُهَا، ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا، وَرَضَضْتُهَا، وَسَفَفْتُهَا بِالمَاءِ، فَقَوِيتُ بِهَا ثَلَاثًا".

فَانْظُرُوا كَيْفَ انْتَهَى الْحِصَارُ بِالمُسْلِمِينَ؟! وَكَيْفَ أَضْنَاهُمُ الْحِرْمَانُ، وَأَلْجَأَهُمْ أَنْ يَطْعَمُوا مَا لَا مَسَاغَ لَهُ؟!

وَقَدْ أَحْزَنَتْ تِلْكَ الْآلَامُ بَعْضَ ذَوِي الرَّحْمَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُوقِرُ الْبَعِيرَ زَادًا، ثُمَّ يَضْرِبُهُ فِي اتِّجَاهِ الشِّعْبِ وَيَتْرُكُ زِمَامَهُ لِيَصِلَ إِلَى الْمَحْصُورِينَ، فَيُخَفِّفَ شَيْئًا مِمَّا بِهِمْ مِنْ إِعْيَاءٍ وَفَاقَةٍ.

بَقِيَتْ هَذِهِ الضَّائِقَةُ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ كَالِحَةً، كَانَ رِبَاطُ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ الْقُلُوبَ، وَيُصَبِّرُ عَلَى اللَّأْوَاءِ... وَفِي أَيَّامِ الشِّعْبِ، كَانَ المُسْلِمُونَ يَلْقَوْنَ غَيْرَهُمْ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَلَمْ تَشْغَلْهُمْ آلَامُهُمْ عَنْ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَعَرْضِهَا عَلَى كُلِّ وَافِدٍ؛ فَإِنَّ الِاضْطِهَادَ لَا يَقْتُلُ الدَّعَوَاتِ، بَلْ يَزِيدُ جُذُورَهَا عُمْقًا، وَفُرُوعَهَا تَمَدُّدًا؛ وَقَدْ كَسَبَ الْإِسْلَامُ أَنْصَارًا كُثُرًا فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ، وَكَسَبَ -إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ- أَنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ بَدَؤُوا يَنْقَسِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ صَوَابِ مَا فَعَلُوا، وَشَرَعَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَعْمَلُ عَلَى إِبْطَالِ هَذِهِ المُقَاطَعَةِ، وَنَقْضِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا.

وَأَوَّلُ مَنْ أَبْلَى فِي ذَلِكَ بَلَاءً حَسَنًا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو؛ فَقَدْ سَاءَتْهُ حَالُ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَنَاءٍ؛ فَمَشَى إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ؛ وَكَانَ شَدِيدَ الْغَيْرَةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَنِي هَاشِمٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: "يَا زُهَيْرُ! أَرَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ؟! أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ: لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ- يَعْنِي: أَبَا جَهْلٍ- ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مَا أَجَابَكَ أَبَدًا! فَقَالَ: فَمَاذَا أَصْنَعُ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ؟! وَاللهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَنَقَضْتُهَا!

فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ زُهَيْرٌ: ابْغِنَا ثَالِثًا، فَذَهَبَ إِلَى المُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَرَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلِكَ مُوَافِقٌ فِيهِ؟! أَمَا وَاللهِ لَوْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَى مِثْلِهَا مِنْكُمْ أَسْرَعَ!! قَالَ: مَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ. قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ ثَانِيًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: ابْغِنَا ثَالِثًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: مَنْ هُوَ! قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.

قَالَ: ابْغِنَا رَابِعًا، فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخَتْرَيِّ بْنِ هِشَامٍ؛ وَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ. قَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا وَزُهَيْرٌ وَالمُطْعِمُ، قَالَ: ابْغِنَا خَامِسًا، فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَكَلَّمَهُ، وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُ، قَالَ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُعِينٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَسَمَّى لَهُ الْقَوْمَ.

فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحُجُونِ الَّذِي بِأَعْلَى مَكَّةَ فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ! أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى، لَا يَبْتَاعُونَ، وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ؟! وَاللهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ!!

قَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَذَبْتَ، وَاللهِ لَا تُشَقُّ.

قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاللهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا بِهَا حِينَ كُتِبَتْ!

وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ وَاللهِ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا.

وَقَالَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ!!

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ هَذَا.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ! فَقَامَ المُطْعِمُ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا كَلِمَةَ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَتِحُ بِهَا كُتُبَهَا».

وَبِهَذَا المَوْقِفِ مِنْ بَعْضِ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ انْتَهَتِ المُقَاطَعَةُ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَعَانَى مِنْهَا المُسْلِمُونَ الْوَيْلَاتِ، مِنْ جُوعٍ وَحِرْمَانٍ، ثُمَّ كَانَ التَّمْكِينُ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ الَّذِي قَابَلَهُ المُؤْمِنُونَ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، فَعَادُوا بَعْدَ التَّجْوِيعِ أَصْلَبَ عُودًا، وَأَمْضَى عَزْمًا، وَأَقْوَى فِي تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ -تَعَالَى-، فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ ثُمَّ الْجِهَادُ وَالْفُتُوحُ، حَتَّى فُتِحَتْ مَكَّةُ بَعْدَ سُنَيَّاتٍ قَلَائِلَ مِنْ حِصَارِ المُؤْمِنِينَ فِي الشِّعْبِ (فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الجاثية: 36-37].

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].

أَيُّهَا النَّاسُ: كَانَ المُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِحِصَارِ المُؤْمِنِينَ يَرُدُّونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنْ خَابَ ظَنُّهُمْ، وَارْتَدَّ عَلَيْهِمْ مَكْرُهُمْ؛ إِذْ صَارَ المُؤْمِنُونَ بَعْدَ الْحِصَارِ أَقْوَى وَأَصْلَبَ مِمَّا كَانُوا قَبْلَهُ.

وَهَا هُوَ التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ؛ فَالْأُمَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ الْحَاقِدَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ تُحَاصِرُهُمْ فِي فَلُّوجَةِ الْعِرَاقِ، وَفِي عَدَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الشَّامِ، وَهُوَ حِصَارٌ يُرِيدُ بِهِ الْبَاطِنِيُّونَ كَسْرَ شَوْكَةِ المُؤْمِنِينَ، وَيُعَاقِبُونَ بِهِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَغَيْرِ المُقَاتِلِينَ؛ لِأَنَّ المُعْتَقَدَ الْبَاطِنِيَّ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ إِبَادَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَافَّةً.

فَأَصْبَحَ أَهْلُ المُدُنِ المُحَاصَرَةِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ عَسِيرَيْنِ: فَإِمَّا الِاسْتِسْلَامُ لِلْبَاطِنِيِّينَ لِيَقْتُلُوهُمْ بَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ وَانْتِهَاكِ أَعْرَاضِهِمْ، أَوِ الصَّبْرِ عَلَى الْحِصَارِ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا جُوعًا وَمَرَضًا، وَفِي الْفَلُّوجَةِ مَاتَ أَطْفَالٌ جُوعًا وَمَرَضًا بِسَبَبِ الْحِصَارِ.

وَيَقَعُ ذَلِكَ تَحْتَ سَمْعِ وَبَصَرِ الْعَالَمِ الَّذِي يُسَمَّى حُرًّا بِمُنَظَّمَاتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَجَمْعِيَّاتِهِ الْحُقُوقِيَّةِ، فَلَا يُحَرِّكُ سَاكِنًا؛ لِأَنَّ أَقْطَابَهُ شُرَكَاءُ فِي جَرِيمَةِ تَصْفِيَةِ بُلْدَانِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِهَا، وَتَسْلِيمِهَا لِلْبَاطِنِيِّينَ، فِي مَكْرٍ كَبِيرٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَعَجْزٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

وَلَكِنَّ هَذَا الْكَرْبَ الْعَظِيمَ، وَاللَّيْلَ الْبَهِيمَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْقُبَهُ فَرَجٌ وَفَجْرٌ جَدِيدٌ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ. وَهُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُحَاصَرِينَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِمْ، وَالْيَقِينِ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ، وَابْتِلَاءٌ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالسَّعْيِ فِي فَكِّ الْحِصَارِ عَنْ إِخْوَانِهِمْ، وَمَعُونَتِهِمْ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَتَنَاوُلِ قَضِيَّتِهِمْ، وَتَعْرِيفِ النَّاسِ بِهَا، مَعَ الدُّعَاءِ لَهُمْ بِأَنْ يُفَرِّجَ اللهُ -تَعَالَى- كَرْبَهُمْ، وَيَكْبِتَ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَنْ يَزِيدَ المُؤْمِنِينَ حِصَارُهُمْ وَعَذَابُهُمْ إِلَّا قُوَّةً وَصَلَابَةً.

اللَّهُمَّ نَاصِرَ المُسْتَضْعَفِينَ، وَمُجِيبَ الدَّاعِينَ، وَمُعْطِيَ السَّائِلِينَ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الْفَلُّوجَةِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَسَائِرِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَطْعِمْهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمِنْهُمْ مِنْ خَوْفٍ. اللَّهُمَّ أَطْعِمْهُمْ فَإِنَّكَ تُطْعِمُ وَلَا تُطْعَمُ، وَأَنْتَ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَمَكِّنْ لَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَاكْبِتْ أَعْدَاءَهُمْ.

اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجَزُوا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَيْنَا فَنَضْعُفَ عَنْهُمْ، اللَّهُمَّ كِلْهُمْ إِلَيْكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي