وليس من اللائق أنْ تُجاهر أحدًا من الناس بِمُخالفته, ثم تسألُه وتطلُبُ منه حاجتَك, ولله المثل الأعلى, كيف تُبارزه بالمعاصي والذنوب, وترتكب ما يكرهه, وتتركُ ما يُحبه, وأنت مع ذلك تسأله حاجاتك وأُمنياتك! فإذا أردت أنْ يستجيب لك فاسْتجب أنت له.. أنْ تمتثل ما يأمرك الله -تعالى- به, وتنتهيَ عما ينهاك عنه, فهذا أعظم أسباب إجابة الله لدعاء عباده, وحبّه وقربِه منهم...
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الله -تعالى- عوّد أولياءه بأنْ يُجيب دعاءهم, ويكشفَ كربهم, ولقد ذكر الله -تعالى- في كتابه الكثير من ذلك, وكيف أنه لم يُخيب رجاءهم, ويردَّ دعاءهم.
وقِصصُ الذين أجاب الله دعاءهم لا تُحصى.
وليس العجب في سرعة إجابة الله لهم, ولكنَّ العجب في حال كثيرٍ منا, كيف لم يَستجب اللهُ القريبُ الكريمُ دُعاءه, ويُلبي حاجته!
نعم - يا معاشر المسلمين- ما بال الكثير من الناس حُرم الإجابة وقد دعاه, ومُنع من كشف ضرّه وقد ناداه.
إنّ العجب ينقضي حينما نعلم أنّ الله -تعالى-، أجاب دعاء من دعاه حينما أتى بأسباب الإجابة, وترك موانعها.
فلذا, ينبغي علينا أنْ نتعرف على آداب الدعاء, التي بها يُجيب الله دعاء المظلوم, ويكشف كرب المكروب, ويُغيث الملهوف, ويفرجُ به الكربات, ويقضي به الحاجات.
وآداب الدعاء كثيرةٌ أذكر أهمّها:
أولًا: أنْ تدعو الله -تعالى- بإخلاصٍ وإيمان وحضور قلب, وهو -تعالى- يُجيب دعاء المخلص حال إخلاصه ولو كان مشركًا, قال -تعالى- عن المشركين: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ, فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
ومما يُلاحظ على كثير من الناس في دعائهم: أنهم لا يستشعرون التضرع والتذلل لله, بل يدعونَ اللهَ وهم في غفلةٍ عن التفكر في الدعاء ومُناجاة الله, بل إنّ بعضهم يتثاءب وهو يدعو! وبعضُهم يدعو وهو شارد الذهن, أو يُفكر في أمرٍ من أُمور الدنيا!
وهذا خلاف التضرع والتذلل الذي أمر الله به.
ثانيًا: أنْ ترفع يديك كحال السائل المستجدي, وتبدأُ دُعاءك أولاً بحمد الله والثناء عليه, ثُمَّ تصلّي على النبي -صلى الله عليه وسلَّم-، وتختتمُ دعاءك كذلك.
وليس من السنة أن تمسح بيديك وجهك.
ثالثًا: أنْ تدعو الله وأنت موقنٌ بالإجابة.
"وَلِهَذَا نُهِيَ الْعَبْدُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ".
وَنُهِيَ أَنْ يَسْتَعْجِلَ وَيَتْرُكَ الدُّعَاءَ لِاسْتِبْطَاءِ الْإِجَابَةِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْإِجَابَةِ, حَتَّى لَا يَقْطَعَ الْعَبْدُ رَجَاءَهُ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ وَلَوْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ "يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ".
ومن اللطائف ما ذكرتْه إحدى بنات الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-, أنها رأته ليلةً يوم الاستسقاء وهو ينظف ميزاب أحد الأسطح, فقالت: ما تصنع بالسطح؟ ولِمَ تُنَظِّفُ الميزاب والجو صحو؟
فأجابها بأن صلاة الاستسقاء ستقام غداً! ثقة منه بإجابة الله لدعائهم, وعدمِ تخييب آمالهم.
رابعًا: أنْ يكون طعامك وشرابك حلالاً طيّبًا, وقد ذَكَرَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فقد ذكر أنّ آكل الحرام يبعُدُ أنْ يُستجاب له, مع أنّ هذا الرجلَ يُلح بالدعاء وهو مسافر مضطر.
قال بعضُ السلف: لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ لَمْ يَنْفَعْكَ شَيْءٌ, حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ.
خامسًا: الإلحاح بالدعاء, وعدمُ اليأس والملل, وقد روى التِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ».
"ومَا دَامَ الْعَبْدُ يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ، وَيَطْمَعُ فِي الْإِجَابَةِ مِنْ غَيْرِ قِطْعِ الرَّجَاءِ،فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَمَنْ أَدْمَنَ قَرَعَ الْبَابَ، يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ".
سادسًا: عدم الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ, قال -تعالى- بعد أمرِ بالدعاء: (إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
وللاعتداء في الدعاء أمثلةٌ كثيرةٌ منها : أنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ سُؤَالُهُ مِنْ الْمَعُونَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ, أو الدعاء على غيره بغير حقّ.
ومنها: أنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ, مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ تَخْلِيدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ومنها: أنْ يرْفعَ صوْتَه فِي الدُّعَاءِ.
ومنها: أَنْ يَدْعُوَهُ غَيْرَ مُتَضَرِّعٍ ؛ بَلْ دُعَاءُ هَذَا كَالْمُسْتَغْنِي عن رَبِّهِ, وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِدُعَاءِ الذَّلِيلِ, فَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ مُتَضَرِّعٍ خَائِفٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ.
وتأملوا قَوْله -تعالى- (إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) بعد قَوْلِهِ : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) [الأعراف: 55]، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وهذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً, فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمْ".
سابعًا: أنْ تمتثل ما يأمرك الله -تعالى- به, وتنتهيَ عما ينهاك عنه, وهذا أعظم أسباب إجابة الله لدعاء عباده, وحبّه وقربِه منهم, قال تعالى في الحديث القدسي: "لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وليس من اللائق أنْ تُجاهر أحدًا من الناس بِمُخالفته, ثم تسألُه وتطلُبُ منه حاجتَك, ولله المثل الأعلى, كيف تُبارزه بالمعاصي والذنوب, وترتكب ما يكرهه, وتتركُ ما يُحبه, وأنت مع ذلك تسأله حاجاتك وأُمنياتك!
فإذا أردت أنْ يستجيب لك فاسْتجب أنت له.
ثامنًا: أنْ تدعو الله بخفيةٍ وإسرار, ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، ما كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم.
وذلك أن الله -تعالى- يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف: 55].
وَفِي إخْفَاءِ الدُّعَاءِ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ إيمَانًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ.
وثَانِيهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ لَا تُرْفَعُ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُمْ, وَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ لَدَيْهِمْ مَقَتُوهُ, وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى, فَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ, فَلَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ.
وثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ, الَّذِي هُوَ رُوحُ الدُّعَاءِ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ, فَإِنَّ الْخَاشِعَ الذَّلِيلَ, إنَّمَا يَسْأَلُ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ ذَلِيلٍ, قَدْ انْكَسَرَ قَلْبُهُ , وَذَلَّتْ جَوَارِحُهُ, وَخَشَعَ صَوْتُهُ , حَتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ تَبْلُغُ ذِلَّتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ, إلَى أَنْ يَنْكَسِرَ لِسَانُهُ, فَلَا يُطَاوِعُهُ بِالنُّطْقِ , وَقَلْبُهُ يَسْأَلُ طَالِبًا مُبْتَهِلًا, وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَأْتِي مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَصْلًا.
ورَابِعُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ.
وخَامِسُهَا: - وَهُوَ مِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ جِدًّا كما قال شيخ الإسلام -: أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى قُرْبِ صَاحِبِهِ لِلْقَرِيبِ, لَا مَسْأَلَةَ نِدَاءِ الْبَعِيدِ لِلْبَعِيدِ ؛ وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ زَكَرِيَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : (إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) [مريم: 3].
فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْقَلْبُ قُرْبَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ قَرِيبٍ: أَخْفَى دُعَاءَهُ مَا أَمْكَنَهُ.
هَذِهِ شَروطُ مَنْ يُجِيبُ الله دُعَاءَهُ ، وَمَنْ أَتَى بِهَا فَاللَّهُ مُنْجِزٌ لَهُ وَعْدَهُ ، وَاللَّهُ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
بارك الله لي ولكم...
الحمدُ لله الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى، وعلى آلِه وأصحابِه أعلام الهدى، أما بعد:
أيها المسلم: عندما تلتجئ لله -تعالى- في كُلِّ أمور حياتك، توجَّه لهُ بقلبك ولسانك ويديك, طالباً منه ما يجول في خاطرك, وأنت على يقينٍ وثقةٍ بأنّ الله لن يرُد عبداً التجأ إليه، كيف وهو القائل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ)؟ [النمل: 62].
مَن غيرُه -تعالى- يُجيب دعاءك إذا ضاقت عليك الدنيا؟ مَن غيرُه يرفع عنك الظلم إذا ظُلمت؟ مَن غيرُه يغفر الزلات, ويمحو سيّئاتِك وذنوبك؟
فتوَجَّهْ إلى الله بدعوةٍ خالصة, ودمعةٍ صادقة, وقلبٍ حاضرٍ تائب, فوالله لن يُخيبك ما دمت صادقًا, ولن يردّك ما دمت مُقبلاً.
فهو القريب وهو مستوى على عرشه فوق سماواته, (وإِذا سأَلَكَ عِبَادي عَنِّ فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
اللهم يا كريم يا قريب, يا جواد يا مُجيب, يا من أنت أقرب إلينا من حبل الوريد, اغفر ذنوبنا, وتجاوز عن تقصيرنا.
اللهم مَن ندعو وأنت الرب المعبود, ومن نسأل وأنت صاحب الكرم والجود.
اللهم فرج همومنا, واقض ديوننا, وأصلح أهلنا وأولادنا.
اللهم اغفر لأموات المسلمين, وارفع درجاتهم وتجاوز عن تقصيرهم يا رب العالمين.
اللهم وفق وليّ أمرنا لما تحب وترضى, واجمع به كلمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفظ رجال أمننا, وانصر جنودنا الذي يُرابطون في حدودنا, ويُقاتلون من بغى علينا وعلى إخواننا, إنك جوادٌ كريم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي