نجاسة الزنا واللواطة أغلظُ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تُفسد القلب، وتُضعف توحيده جدًّا؛ ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شِركًا. ومن الأضرار الخلقيَّة لتلك الفاحشة: قلة الحياء، وسوء الخُلق، وقسوة القلب، وقتل...
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، هو الأوَّل فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، له الحمد كله وبيده الخيرُ كله، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسرُّه، وكل شيء عنده بمقدار، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، خلَق الإنسان فسوَّاه، وعلى التوحيد والخُلق القويم فطَره وأوْصاه.
وأشهد أنْ لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، ولا ندَّ ولا ظهيرَ، لا رادَّ لأمره، ولا مُعقِّب لحُكمه، وهو أحكم الحاكمين.
وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وحُجَّة على الناس أجمعين، لا خيرَ إلا ودلَّ أُمَّته عليه وأمرَهم به، ولا شرَّ إلاَّ وحذَّرهم ونهاهم عنه، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، أمَر أُمَّته بمكارم الأخلاق وجميل الخِصال، ونهاهم عن كلِّ خُلق سافل وفِعل رذيلٍ، وحذَّرهم عن مخالفة أمر الله، وارتكاب معاصيه، وذكَّرهم بالبأس الشديد والوعد والوعيد، صلوات ربي وسلامه عليه عددَ ما خلَق الله تعالى وبرَا.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، واجْزِه عن أُمَّته خيرَ الجزاء، فلقد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وترَك أُمَّته على المحجَّة البيضاء، وارضَ اللهمَّ عن الآل والأصحاب، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم المآب، وتُبْ يا ربَّنا على كلِّ مَن تاب، وإليك أنابَ، ومنك خافَ وفيك رجا الثواب.
أمَّا بعدُ:
فاحمدوا الله ربَّكم، واشكروه على نِعَمه، فأنتم تتقلَّبون في خير مدرارٍ، ونِعمٍ غِزار، لا يُحصيها مُحصٍ، ولا يَعدُّها عادٌّ ما تعاقَب الليل والنهار، واتَّقوه -سبحانه- فهو أهل التقوى وأهل المَغفرة- عزَّ جاهه وتبارَكت أسماؤه-.
أيُّها المسلمون: إنَّ رأس المال الذي لا غِنى عنه لعبدٍ في كلِّ وقتٍ، تحقيق العبودية، وتَمحيص التوحيد لله -سبحانه-، فعلى ذلك فطَر الله الناس، وبذلك أمرَهم، ولأجْل ذلك بعَث المرسلين في كلِّ أُمة وُجِدت على وجه البسيطة: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
ولذا كان كلُّ نبيٍّ يَبعثه الله إلى قوم، يُبادر إلى أمرهم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، قائلاً لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59].
وبعد بيان ذلك وإقامة البراهين عليه، يُعرِّج كلُّ نبيٍّ على أبرز المعاصي والمخالفات التي يقع فيها قومه، فيُحذِّرهم منها، ويُبيِّن لهم عاقبتها وخطورة أمرها، فمَن تابَ وأنابَ، تابَ عليه ربُّه وأنجاه: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 18].
ومن كفَر واستكبَر، وطغى وتجبَّر، وعصى المرسلين، واستمرَّ في غيِّه وعُدوانه، حاق به العذاب الأليم بصنوف وأشكال يُقدِّرها الله القوي العزيز: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
وقد حكى الله -تعالى- لأُمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم قَصص أولئك الأقوام الذين عصوا ربَّهم واستكبَروا؛ لتَحذر ذلك المصير، وتأخذ العِظة والعِبرة، ومن أولئك الأقوام العُصاة، الذين نزَل بهم بأسُ الله الشديد، قومٌ كفروا بربِّهم، وزادُوا على الكفر ارتكابَ فاحشة لَم يُسبقوا إليها، خالفوا فيها الفطرة التي فطَر الله الخَلْق عليها، فوَقَعوا في تلك الفاحشة العظيمة والفَعلة القبيحة، التي تَأْنَف منها المخلوقات، حتى البهائم والعَجماوات، لَم تَصنع صَنيعهم، ولَم يَزَل نبيُّهم -عليه السلام- يُحذِّرهم ويُنذرهم، ويُذكِّرهم بربِّهم، ويُبيِّن لهم شناعة ما اقترَفوه ووَلَغوا فيه، فمرَّة يقول لهم: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [الأعراف: 80 - 81].
ومرَّة يقول: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل: 54 - 55].
ولكنَّهم لَم يَنتهوا، بل طَغوا واستكبَروا وتحدَّوا: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون) [النمل: 56].
فلمَّا نكَصوا على أعقابهم، وأصرُّوا على كفرهم ومعصيتهم، جاء القدر المقدور، والأمر الذي لا يُرَدُّ من ربِّ العالمين، فعُذِّبوا وأُهلِكوا بعذاب لَم يَسبق مثله لأُمة من الأُمم؛ جزاءً لهم على كفرهم وفِعلهم هذه الفاحشة التي لَم يُسبقوا إليها: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82 - 83].
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) (جَعَلْنَا عَالِيَهَا) (سَافِلَهَا)، وأمطَرنا عليها حجارة من طين معدَّة لذلك، قوية شديدة يَتبع بعضها بعضًا في نزولها عليهم، وفي رواية عن قتادة وغيره: بلَغنا أنَّ جبريل -عليه السلام- لَمَّا أصبَح، نشَر جَناحه، فانتسَف بها أرضَهم بما فيها؛ من قصورها، ودوابِّها، وحجارتها، وشجرها، وجميع ما فيها، فضمَّها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صَعِد بها إلى السماء الدنيا، حتى سَمِع سُكَّان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألفٍ، ثم قلَبها، فأرسَلها إلى الأرض منكوسة، ودَمْدَم بعضها على بعض، فجعَل عاليها سافلها، ثم أتبعَها حجارة من سجِّيل.
وذكَروا أنها نزَلت على أهل البلد وعلى المتفرِّقين في القرى مما حولها، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدَّث؛ إذ جاءَه حجر من السماء، فسقَط عليه من بين الناس، فدمَّره، فتَتبعهم الحجارة من سائر البلاد، حتى أهلَكتهم عن آخرهم، فلم يَبقَ منهم أحدٌ" انتهى كلامه باختصار.
وإن مما قدَّره الله -تعالى-: أنَّ أُناسًا من هذه الأمة، يقعون في تلك الفَعلة العظيمة والفاحشة الشنيعة، ولَمَّا كان فِعل قوم لوط أعظمَ الفواحش وأضرَّها على الدين والمُروءة والأخلاق، فهو داءٌ عُضال، مُتناهٍ في القُبح والشناعة، وهو شذوذ عن الفطرة وانحراف عن الجادة، يَمُجُّه الذوق السليم، وتَأْبَاه الفطرة السويَّة، وتَرفضه وتَمقُته الشرائع السماوية؛ لِما له من عظيم الأضرار، وما يترتَّب عليه من جسيم الأخطار، فآثاره السيئة يَقصر دونها العَدُّ، وأضراره المدمِّرة لا تقف عند حدٍّ، فشأنه خطير، وشرُّه مستطير، يَفتك بالأفراد، ويُنهك المجتمعات، ويَمحق البركات والخيرات، ويتسبَّب في وقوع العقوبات وحلول النَّكبات، لَمَّا كان الأمر كذلك، فإنه ليس من بِدْع القول أن يتكلَّم فيه خطيب، أو يتحدَّث في خطره داعية، فنصوص القرآن والسُّنة جاءَت فيه مُحذِّرة، ومن عقوبته مُنذرةً، كما تكلَّم في ذلك السلف الصالح، وألَّف فيه العلماء مؤلَّفات وكتبًا، ويكفي من ذلك كله أن القرآن الكريم أشارَ إلى ذلك الفعل وذكَر عقوبة مَن وقَع فيه في آيات عدَّة، تُتلى إلى يوم القيامة.
ومن هنا -أيها المسلمون- لا غَرْوَ ولا عجَبَ في طَرْح مثل هذا الموضوع بيانًا وتحذيرًا، والله -تعالى- أعلم وأحكم بما يَصلح لعباده.
أيها المسلمون: إن لذلك الفعل القبيح أضرارًا تعود إلى الدين وإلى النفس والخلق؛ يقول الإمام ابن القيِّم -رحمه الله-: "نجاسة الزنا واللواطة أغلظُ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تُفسد القلب، وتُضعف توحيده جدًّا؛ ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شِركًا" ا. هـ.
ومن الأضرار الخلقيَّة لتلك الفاحشة: قلة الحياء، وسوء الخُلق، وقسوة القلب، وقتل المُروءة والشهامة، وذَهاب الغَيرة والنَّخوة والكرامة، وإِلْف الجريمة والتساهُل فيها، وانتكاس الفطرة، وذَهاب الجاه وسقوط المنزلة، وسواد الوجه وظُلمته، حتى ليكاد يُعرف مَن يقوم بهذا الفعل؛ كما قال القائل:
وَعَلَى الْفَتَى لِطِبَاعِهِ *** سِمَةٌ تَلُوحُ عَلَى جَبِينِهْ
ومن أضرارها على المجتمع: حلول العقاب إذا ظهَر هذا الأمر، ولَم يُنكر، وزوال الخيرات ومَحْق البركات، وشيوع الفوضى وتفسُّخ المجتمع، وتفكُّك الأُسر، وعزوف الرجال عن الزواج، وقلَّة النَّسْل، ومن أضراره أيضًا: ظهور الأمراض والأوجاع التي لَم تكن فيمَن سبَق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لَم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ، حتى يُعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لَم تكن مضَت في أسلافهم الذين مَضَوا" [أخرَجه ابن ماجة، وصحَّحه الألباني].
ولها أيضًا أضرار على النفس بملازمة الحزن والقلق، ووجود الوحشة والاضطراب، وخوف العقاب والفضيحة، إلى غير ذلك من الأضرار التي يُقدِّرها الله -تعالى- لِمَن ارتكسَت فِطرته، وزالَت غَيرته، واستهانَ بمعصية ربِّه.
وللوقوع في هذه الفاحشة أسباب تَجرُّ إليها، لا يسع المقام ولا يناسب في تفصيلها، ولكن الحُر العاقل تَكفيه الإشارة، فمن ذلك: ضَعف الإيمان الذي يَعمر القلب ويَمنعه من المعصية.
ومن ذلك: تَرْك الصلاة أو التهاون فيها، فالله -تعالى- يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) [العنكبوت: 45].
وللفراغ دورٌ كبير يُكمِّله وجود الصُّحبة السيِّئة التي تُحسِّن القبيح وتُهَيِّئُه.
ومن أسباب الوقوع في تلك الفاحشة: ضَعف الشخصية والإرادة، والطيبة الزائدة، ولا سيَّما من الأحداث ونحوهم، وكذا مبالغة الصغار في التجمُّل وإظهار المفاتن والتعرِّي، والتساهل في سَتْر العورة.
ومن ذلك أيضًا: مشاهدة الأفلام والمشاهد، وسَماع الأغاني التي تُثير الغرائز، وتُذهب الغَيرة، وإطلاق النظر في الحرام، وكثرة المُزاح المُسفِّ، والتساهل في الحديث في مثل هذه الفواحش، فكم جرَّ الحديث فيها من بلاء، بل إنَّ ذلك من إشاعة الفحشاء المتوعَّد عليها: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور: 19].
ومن ذلك: اختلاط الكبار بالأحداث واجتماعهم على ما حرَّم الله -تعالى-، ولا سيَّما إذا كان في خلاء أو بين الجُدران، في شقة أو استراحة مَشبوهة، وكذا تبادُل الصور المُثيرة، والتفاخر بفِعل هذا العمل القبيح، وجَرُّ الأحداث إلى ذلك، عن طريق قيادة السيارة، أو بيع طيور الحَمَام، أو التهديد، أو الترغيب أحيانًا، فهل يُصدِّق عاقل أنَّ حدثًا يَنقاد إلى ذلك الفعل القبيح لأجْل سيجارة واحدة -والعياذ بالله-.
ومن أكبر أسباب ذلك: إهمال الأولاد وتَرْكهم يَسرحون ويَمرحون مع مَن شاؤوا؛ كبارًا كانوا، أم صغارًا، صالحين أم طالحين.
ووالله، إنَّ العجب لا ينقضي من أبٍ ينام - مُطمئنَّ البال قريرَ العين -وابنه مع ثُلَّة فاسدة، أو يتسكَّع في الشوارع مع رُفقة تَلوح على وجوههم سِيَمُ الفساد ونظرات الرِّيبة، بل ويتغامَزون ويتهامَسون بما يَسُرُّ الشيطان ويُبغضه الرحمن، والمُشتكى إلى الله.
ومن أسباب الوقوع في تلك الفاحشة: تفكُّك البيوت، ووجود الطلاق أو الشِّقاق بين الوالدين، ومن ذلك: غفلة الصالحين والمعلِّمين، وأئمَّة المساجد والدعاة -عن التنبيه على هذا المنكر العظيم بالأسلوب الحسن، وأعظم من ذلك: التغاضي عن مثل تلك الممارسات، وتَرك الحَزْم في مواجهتها وَفْق المنهج الشرعي في علاجها.
عباد الله: هذه نُتَفٌ وإشارات علَّها تُذكِّر أو تُنبِّه، ويكفي من القِلادة ما أحاطَ بالعُنق.
نسأل الله -تعالى- أن يطهِّر مجتمعات المسلمين من كلِّ فاحشة ومنكر.
اللهمَّ اهدِنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرِف عنَّا سيِّئَها، لا يَصرف عنَّا سيِّئَها إلاَّ أنت.
سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.
الحمد لله...
أمَّا بعدُ:
فهذه كلمة أهمسُ بها ووصيَّة أُلقِيها في آذان الآباء وأولياء الأمور، آمُل أن ينفعَ الله بها، فيا مَن حمَّلك الله -تعالى- أمانة الحِفظ والتربية لأولادك: اعلَم أنَّ الله -تعالى- سيسألك عمَّا قُمت به نحو أولادك من خير وتربية حسنة، أو ضد ذلك من إهمال وغفلة وتضييع، بِمَ ستُجيب ربَّك إن سألك عن ابنك الذي ينام الليالي في ثُلَّة فاسدة، تتعاطى الحرام وتُلَقِّنه لابنك؟ وما عسى أن تُجيب به إن سُئِلت عن ابنك الذي تمرُّ به الأيام لا تَطأ قدماه المسجد، أو ذاك الذي وفَّرتَ له كلَّ وسائل الهدم والتدمير من آلات ومالٍ، وسيارة وإهمالٍ، ثم ترجو بعد ذلك صلاحه، ولا تَزيد عن قولك: عسى الله أن يَهديه، فحسب؟
أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ *** إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ
أيها الأب العزيز: ليكُن حِرصك على دين ابنك وأخلاقه، أكثر من حِرصك على صحته وراحته ورفاهيته، و"إنَّك لا تَجني من الشوك العنب".
إنَّ ابنك أمانة في عُنقك، وقد حذَّرك ربُّك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
وكلمة أخرى أقرعُ بها مسامع أولئك النَّفر من البشر، الذين هم للذئاب أقربُ، وهم بالوحوش الضارية أشبه، أولئك الذين وَلَغوا في تلك المعصية الكبيرة والفاحشة الشنيعة، فغرَّروا بالسُّفهاء، وجرُّوا الأحداث إلى ذلك المستنقع الآسِن، عن طريق الترغيب والمال تارة، وبالقوة والتهديد تارة أخرى، فعَصوا الله، وظلَموا ذلك الحدث، وانتَهَكوا عِرضه وعرَّضوه للفتنة، وأساؤوا إلى أُسرته، ورُبَّما وقَع ما لا تُحمد عقباه من التعدي والانتقام، فالناس يَغارون على حُرُماتهم، ولا خيرَ فيمَن لا يَغار إذا انتُهِكت محارمه، ويا مَن وقَعت في ذلك المنكر، ولَم تَزَل عليه، أُذكِّرك بالله الذي يحب التوَّابين، ويحب المتطهِّرين، فتُب إلى ربِّك وانْتَهِ عن معصيته، تنَل الخير والأجر في الدنيا والآخرة، وإلاَّ فخَفِ العاقبة وخُذ حِذْرك، إن كنتَ من حزب الشيطان الذين لا يحبون التوبة، ولا تُحدِّثهم نفوسهم بها، ولا يحبون الطهارة والنظافة، بل يَعمدون إلى مواضع النجاسة والخَبَث، فيَلَغون فيها، فاللهمَّ لا شَماتة.
إنَّ ربَّك قد حذَّرك -أيها العبد الوالغ في الفاحشة- من الوقوع في معصية قوم لوط، وأنذَرك أن يَنزل بك ما نزَل بهم، فقال: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد) [هود: 82 - 83].
فاحذَر ذلك الصنيع -يا عبد الله- واسْمَع ما قاله الإمام ابن كثير -رحمه الله- معلِّقاً: "وقوله: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد) أي: وما هذه النِّقمة ممن تشبَّه بهم في ظُلمهم ببعيد عنه.
وقد ورَد في الحديث المروي في السُّنن عن ابن عباس مرفوعًا: "مَن وجَدتموه يعمل عملَ قوم لوط، فاقْتُلوا الفاعل والمفعول به".
وذهَب الإمام الشافعي في قولٍ عنه وجماعة من العلماء: إلى أنَّ اللائط يُقتل؛ سواء كان مُحصنًا، أو غير محصنٍ؛ عملاً بهذا الحديث، وذهَب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يُلقى من شاهقٍ، ويُتبع بالحجارة؛ كما فعَل الله بقوم لوط، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب" ا. هـ.
واعلَم أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- لَم يختلفوا في أنَّ حكم مَن فعَل تلك الفاحشة القتل، ولكن اختَلفوا في كيفيَّته، وإليك ما قاله الإمام الشوكاني -رحمه الله- حول عقوبة مَن فعَل ذلك: "وما أحقُّ مُرتكب هذه الجريمة، ومُقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يُعاقب عقوبة يَصير بها عبرةً للمعتبرين، ويُعذَّب تعذيبًا يَكسِر شهرة الفَسَقة المتمردين، فحقيقٌ بمَن أتى بفاحشة قوم ما سبَقهم بها من أحدٍ من العالمين، أن يَصلَى بما يكون في الشدَّة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم، وقد خسَف الله -تعالى- بهم، واستأصَل بذلك العذاب بِكرهم وثَيِّبَهم" ا.هـ.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الفواحش والفتن؛ ما ظهَر منها، وما بطَن.
اللهمَّ احفَظ علينا وعلى أهلينا وأولادنا وإخواننا الدينَ والنفس والعِرض، وحُسن الأخلاق، يا رحيم يا كريم.
اللهمَّ إنَّا نسألك بأنَّك أنت الله، لا إله إلا أنت المنَّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كلِّ مكان، اللهم انصُر المجاهدين في سبيلك في كلِّ مكان، اللهمَّ انصُرهم نصرًا مؤزَّرًا، اللهمَّ اربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، اللهمَّ أنجِ المستضعفين المسلمين في كل مكان، اللهمَّ احقِن دماءَهم وآمِن رَوعاتهم، واستُر عوراتهم واحفَظهم يا كريم يا منَّان.
اللهمَّ مُنزل الكتاب ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهمَّ اهزِم اليهود والصليبيين، وردَّهم على أعقابهم خائبين خاسرين، اللهمَّ زَلْزِل الأرض من تحت أقدامهم، وصبَّ عليهم العذاب صبًّا، فإنهم لا يُعجزونك.
اللهمَّ عليك برأس الكفر وراعية الإرهاب ومُروِّعة المسلمين وقاصِفتهم، اللهمَّ أشْغِلهم في ديارهم، وخالِف بين قلوبهم، وشتِّتْ شملَهم، وردَّ كيدَهم في نحورهم، اللهمَّ إنَّ بطشَك شديد وأمرَك رشيد، وأنت الحليم العليم الحكيم، تُمهل ولا تُهمل، قد قلتَ يا ربَّنا -وأنت أصدق القائلين-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42] اللهمَّ إن الحال بالمسلمين شديد، والكرب عظيم، وإنَّ الكفر قد انتفَش وطغى وتجبَّر، اللهم إن كلمتك هي العُليا وكلمة الكفر هي السفلى، اللهمَّ هيِّئ للكفر يدًا مسلمة مُجاهدة، تردُّ كيده وتَهزم جنده، وتُذيقه الذلَّ والهوان، وترفع راية التوحيد في ربوع الأرض، اللهمَّ إن ذلك ليس عليك بعزيز، فأنت على كلِّ شيء قدير.
اللهمَّ احفَظ لنا دينَنا وأَمْنَنا، وأصلِح وُلاة أمرنا، ووفِّقهم إلى ما تحبُّ وترضى.
اللهمَّ أغِثنا، والحمد لله ربِّ العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي