ومما ظنّه بعضُ الناس -ولا أصل له- أن أجرَ الدفن لا يثبت حتى يشارك الإنسانُ في الحثْي على القبر؛ فيتزاحم الناس، وربما أثاروا الغبار، أو تسلّق الصغار! وهذا لا دليل عليه، غاية ما في ذلك حديث ورد في فضل الحثو على القبر، ولا علاقة له بأجر القيراطين، ومع ذلك فهو لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال أبو حاتم الرازي - رحمه الله-، فالقيراطان ثابتان بمجرد الحضور حتى الدفن، ولو لم يشارك الإنسانُ في الحثي...
الحمد لله، خلق الإنسان (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس: 19 - 22].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالشرع المطهر، فأتمّ الله به الدين وكمّله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما كبّر الله مكبّر وهللّه.
أما بعد: فإن الله -تعالى- شرَع من الأحكام ما يبهر العقول، وما يجلي عناية الشريعة بأهلها أحياءً وأمواتاً، ومِن ذلك ما يتعلق بالإنسان إذا غادر هذه الحياة.
ولما كان بعضُ الناس قد يقع في أخطاء مُجانبة للهدي النبوي في هذا الباب؛ كان لزاماً أن تُبيَّن هذه الأمور ولو بشيء من الإجمال، الذي يوضّح المنهج الشرعي، والهدي النبوي في التعامل مع خبر الوفاة حتى ينتهي الدفن.
1 - فلقد علّم -صلى الله عليه وسلم- أُمتَه ماذا نقول حين نصاب بموت أحد فقال: "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها" (صحيح مسلم ح(918).
وتُحدِّث أمُ سلمة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا حضرتم المريض، أو الميت فقولوا خيرًا؛ فإن الملائكة يُؤمِّنون على ما تقولون»، قالت: فلما مات أبو سلمة أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله! إن أبا سلمة قد مات، قال: "قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة"، قالت: فقلت؛ فأعقبني الله مَن هو خير لي منه؛ محمداً -صلى الله عليه وسلم-! (صحيح مسلم ح(919).
2 - وعلّم أمّتَه أن يسرعوا بالجنازة تجهيزاً وحمْلاً وصلاةً، فقال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها، وإن يك سوى ذلك، فشر تضعونه عن رقابكم» (متفق عليه، البخاري ح(1315)، مسلم ح(944).
فعُلم من ذلك أن تأخير دفنها لغير سببٍ شرعيٍ معتَبرٍ مخالفٌ لهذا الهدي النبوي الكريم.
3- وشرع -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن يصلّوا على الجنازة، وحثّهم على حضورها حتى تُدفَن، فقال: «من شهد الجنازة حتى يصلي؛ فله قيراط، ومن شهد حتى تُدفن كان له قيراطان»، قيل: وما القيراطان؟ قال: «مِثل الجبلين العظيمين» (متفق عليه، البخاري ح(1325)، مسلم ح(945).
4 - واعلموا - عباد الله- أن لُبّ هذه الصلاة هو الدعاءُ، والإخلاصُ في ذلك، وعلى المؤمن أن يستشعر ماذا لو كان مكان الميّت؛ أيحب أن يجتهد الناسُ في الدعاء له؟
5 - وقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- بفعله صفةَ هذه الصلاة: فيكبر المصلي ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يكبر ثم يدعو بما ورد، ومن فاتته الصلاةُ مع الناس، صلى عليها بعد الدفن كما صنع -صلى الله عليه وسلم- مع الأَمَة السوداء التي كانت تنظف المسجد، وإن صلّى قبل الدفن جاز.
6- ثم تُحمل الجنازة، ويُسرَع بها سرعةً فوق المشي المعتاد، وبدون إسراعٍ يؤذي الحاملين، أو المارين في الطريق.
7 - فإن كان القبرُ جاهزاً دُفنت، وإلا انتُظِر حتى تُدفَن، ولا بأس إذا لم يكن القبر جاهزاً أن يَعِظ أعلمُ الموجودين مَن حوله بموعظة تليق بالمقام، لكن المقطوع به أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يَعِظ عند كل جنازة كما يفعله بعضُهم، بل كان وعْظُه عارضاً وفي مناسبات محدودة.
8 - ولقد كان من هدي السلف في هذه المقامات: خفض الصوت، قال قيس بن عُباد -وهو أحد كبار التابعين-: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرهون رفعَ الصوت عند ثلاث: عند القتال، وعند الجنائز وعند الذكر"( مصنف ابن أبي شيبة (6/ 513).
وإن موقفاً كهذا لخليقٌ بالمؤمن أن يجعله فرصةً للاعتبار والتذكُّر، لا للأحاديث الجانبية، وأقبح منها حين تكون دنيوية! فليت شعري إذا لم يتعظ الإنسانُ بمصيره ومآلِه وهو في المقبرة فمتى يتعظ؟ ألا إنها غايةُ الغفلة أن يَنتقل حديثُ الدنيا إلى المقابر!
9 - ومن المهم -عند الدفن- أن يُراعَى حقُّ الأقارب في تولي دفن ميِّتهم، لا أن يُزاحَموا على ذلك، فتجد بعضَ الناس يتحلق على القبر، مضايقاً ورثةَ الميت، وهذا لا ينبغي! وليس من العقل والحكمة في شيء.
10 - ومما ظنّه بعضُ الناس -ولا أصل له- أن أجرَ الدفن لا يثبت حتى يشارك الإنسانُ في الحثْي على القبر؛ فيتزاحم الناس، وربما أثاروا الغبار، أو تسلّق الصغار! وهذا لا دليل عليه، غاية ما في ذلك حديث ورد في فضل الحثو على القبر، ولا علاقة له بأجر القيراطين، ومع ذلك فهو لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال أبو حاتم الرازي - رحمه الله-، فالقيراطان ثابتان بمجرد الحضور حتى الدفن، ولو لم يشارك الإنسانُ في الحثي.
11 - ومما شرَع -صلى الله عليه وسلم- لأُمّته أن يُدعا للميت بعد دفنه، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يُسأل» (أبو داود ح(3221).
والسنة عدم إطالة الوقوف، بل يدعو ثلاثاً بالمغفرة والثبات ثم ينصرف؛ ليتيح المجالَ لغيره من إخوانه المسلمين الذين يرغبون في الوقوف على القبر.
وأما ما روي عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ من الأمر بالإقامة حول قبره قدْر ما تُنحر جزورٌ ويؤكل لحمُها. (رواه مسلم ح(121)، فهو اجتهاد مرجوح منه، ولعله لم يبلغه ما ورد في الباب، والسنّةُ وما عليه عمل الخلفاء وسائر الصحابة أولى بالاتباع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله ... أما بعد:
فإن مما شرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته: التعزية لمن كان مصاباً.
والمصاب قد يكون قريباً، وقد يكون صديقاً أو جاراً.
والتعزية تَثبت بمجرد وقوع المصيبة، ولا يُنتظر حتى تُدفن الجنازة كما يَظن بعض الناس.
ولا حرج في الاجتماع للتعزية، بشرط ألا يكلَّف أهلُ الميت شيئاً، ولا يُشغَلوا بصنع الطعام للمُعزِّين، بل السنة أن يُصنَع لهم، كما في حديث: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنه قد أتاهم أمرٌ شَغَلهم» (سنن ابن ماجه ح(1610)، مع تجنُّب المنكرات الأخرى التي تَقع في بعض البلاد؛ مِن استئجار مُقرئ، أو نُواح أو لطم، أو اختلاط بين الرجال والنساء...أو غير ذلك من المنكرات والبدع.
ومن الأمور المستحسنة في باب التعزية - التي يحصل بها المقصود دون تكليف ولا إرهاق- أن يكون وقتُ التعزية من العصر حتى أذان العشاء؛ ليتجنب الناسُ التكلفة في طعامي الغداء والعشاء.
هذه جملةٌ من الأحكام التي تتعلق بهذه الشعيرة العظيمة؛ فاحمدوا الله -تعالى- على كمال شريعته، واتقوا الله في اتباعها، والبعد عن كل ما يكدّرها.
اللهم ارزقنا الفقه في دينك والبصيرة فيه، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي