لقد امتلأت كثير من صحفنا بمقولات ورسومات كاريكاتورية تركِّز على تلك الكلمة الفاجرة: "رفع القيود عن المرأة"،.. لكن الملاحظ أن القوم جاوزوا الكذب باسم الشريعة تارة، وباسم الوطن ثانية، وتارة باسم المطالبة بحقوق المرأة ثالثةً، وتارةً رابعة باسم فتح مجالات العمل للمرأة ومشاركتها في التنمية! وصار القومُ يتخذون من وجود الخلاف الفقهي في مسألة معينة وسيلةً للوصول إلى أهدافهم، وإلا فَمَنْ عَرَفهم يدرك إنهم من أبعد الناس حفاوة بكلام أهل العلم والفقه، وندرك أيضاً أن التذرع بالخلاف الفقهي إنما هو جزءٌ من منظومة ودائرة متكاملة لا يمكن فصل جزئياتها عن بعض.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنه إلا هالك؛ فصلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فحينما دعا داعي الجهاد قبل غزوة تبوك؛ جاء بعضُ المنافقين ليعتذروا عن الخروج إلى الجهاد في سبيل الله مع محمد - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الصادقين، ولكي يكون العذر مقبولاً صبغوه بالصبغة الشرعية، فقال قائلهم: "ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي" يقصد بذلك أنه يخاف على نفسه الفتنة من رؤية نساء الروم، فأتى الردُّ من علام الغيوب جل وعلا ليكشف حقيقة الأمر فيقول: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)[التوبة: 49].
وليست هذه المرة التي رسبوا فيها؛ بل كانوا أخفقوا قبلها في غزوة الأحزاب: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)[الأحزاب: 13]، فجاء الرد من عالم الغيب والشهادة بقوله: (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)[الأحزاب: 13].
إنه منهج سلكه المنافقون -بلا حياء- والوحي ينزل؛ ليمرروا نفاقَهم الذي امتلأت به قلوبهم، وإذا كان هذا والوحي ينزل؛ فلا عَجَب أن يستمروا عليه بعد انقطاع خبر السماء!
فها نحن اليوم نرى أبناءهم في المنهج، يسلكون نفس الطريق، ويلبسون ذات الثوب!
فهم عندما يريدون نقض أمر شرعي، أو تبرير قضيةٍ مخالفة للشرع؛ قدَّموا بين يديه ما كان يُقدِّمه آباؤهم من المنافقين السابقين.
أيها المسلمون!
ولكي لا يكون الكلام عاماً؛ فلنضرب على ذلك بمثال يكثر ترداده هذه الأيام في بعض الصحف، وقبل هذه الأيام، وسيتكرر بعد هذه الأيام ما دام للحق قوة.. إنه مثالٌ بل قضيةُ القضايا عندهم وعند أسيادهم: إنها قضية المرأة التي يراهنون عليها كثيرًا!
فاستمرارُ كثير من النساء على الستر، وقناعةُ كثير منهن بالحجاب، ورضا أكثرهن بدين الله الذي يأمر بالعفة والقرار والبعد عن الاختلاط بالرجال.. كلُّ ذلك لم يرق لهم!! لماذا؟ يجيبنا القرآن: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27]، فلننظر في قوالب الشفقة والرحمة التي يصوغ بها هؤلاء مطالبَهم في هذه القضية الكبيرة.
لقد عرفنا من أساليب هؤلاء القوم: أنهم يستخدمون مصطلحات مُوهِمة، وعبارات براقة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والفساد! كلفظ: الحرية والمساواة، التقدم والرقي، التوازن والإنصاف، عدم الرجعية والتخلف، البعد عن الإرهاب والتطرف.
وكل ذلك حسب العادات والتقاليد، وبما لا يخالف الشريعة! ونحو هاتيك العبارات؛ لتمرير أفكارهم التي لا يستطيعون المجاهرة بها؛ خوفاً من المجتمع، وهو أسلوب مرحلي مؤقت سرعان ما يتخلون عنه إذا تهيأت الظروف.
لقد امتلأت كثير من صحفنا بمقولات ورسومات كاريكاتورية تركِّز على تلك الكلمة الفاجرة: "رفع القيود عن المرأة"، وقبل فترة -وفي عدد يومٍ واحد- قرأتُ بنفسي خمسة مقالات في صحيفة واحدة كلها تركِّز على هذا الموضوع وبأساليب مختلفة!! فهل هذا مجرد صدفة؟
إن مقاماً كهذا يضيق عن الاستشهاد بكلماتهم، أو استعراض مشاريعهم التغريبية التي يكيدون بها للمرأة في بلادنا بالذات، ومقاماً كهذا لا يسمح بالتتبع، لكن الملاحظ أن القوم جاوزوا الكذب باسم الشريعة تارة، وباسم الوطن ثانية، وتارة باسم المطالبة بحقوق المرأة ثالثةً، وتارةً رابعة باسم فتح مجالات العمل للمرأة ومشاركتها في التنمية!
وصار القومُ يتخذون من وجود الخلاف الفقهي في مسألة معينة وسيلةً للوصول إلى أهدافهم، وإلا فَمَنْ عَرَفهم يدرك إنهم من أبعد الناس حفاوة بكلام أهل العلم والفقه، وندرك أيضاً أن التذرع بالخلاف الفقهي إنما هو جزءٌ من منظومة ودائرة متكاملة لا يمكن فصل جزئياتها عن بعض.
ومن واقع منتديات كثيرة، واجتماعات متعددة رتّبوا لها وعقدوها من أجل مناقشة هذه الأمور والدعوة إليها تنتشر لهم صور يندى لها الجبين، ويتساءل الغيور: إذا كانت هذه صورهم وهم يدَّعون المحافظة على القيم، وفي حدود "الضوابط الشرعية" فلا ندري كيف سيكون الحال إذا اتسعت الدائرة؟!
ولنا أن نتساءل - أيها الناس - وقد تردد: أي قيود هذه التي يريدون رفعها عن نسائنا؟
إن هؤلاء حينما يطالبون بهذه الأمور، إنما هي تمهيد لأمور أخرى لا تخفى على عاقل بطرقهم المعروفة في التوطئة للشر.
تقول إحدى هؤلاء المتحدثات في أحد المنتديات النسائية: "إن النقاب متعلق بالتقاليد أكثر من الدين"! انظر كيف نسفت هذه المسألة من أصلها، بهذا الكلام الباطل شرعاً، ثم انطلقت هذه المتحدثة لتتحدث عن قضايا "رياضة البنات في المدرس"! و"كرة القدم والسلة النسائية "! و"الفروسية النسائية"! و"قيادة المرأة للسيارة"! وغيرها.
هكذا كان حديثها، مع تغييب تامٍ لكثير من القضايا التي هي أمس وألصق بحاجة الناس -وخصوصاً المرأة- فأين الحديث عن قضايا العنف التي تمارس ضد المرأة؟
وأين الحديث عن حقها في وظيفة آمنة، تحفظ لها كرامتها، وبعيدة عن الاختلاط بالرجال، أو السير مئات الكيلومترات يومياً قبيل الفجر ولا تعود إلا بعد العصر؟
وأين مناقشة المخاطر الواقعة على المرأة من جراء عملها في بعض المحلات -وليس مجرد توقع- بل هو تحرش صريح شكت منه كثير منهن، وما لم يُعْلن فالله أعلم به؟!
وأين الحديث عن توفير مصروف لكل امرأة مطلقة أو أرملة يثبت عجزها عن العمل بدلاً من إذلالها ببعض البرامج التي تعمل عاماً وتتوقف أعواماً؟
وأين الحديث عن دور الأم في المحافظة على نظام الأسرة، وأثر هذه الأم بحيث لا يتكون البيت في آخر المطاف من أبوين بدون أم؟!
يا عقلاء بلدي .. يا عقلاء أمتي!
لقد سارت المرأة في كثير من الدول العربية -ومنها بعض دول الخليج- نفس المسير الذي تدعو إليه بعضُ نساء بلدي! فماذا كانت النتائج؟ وماذا حققوا؟ نتائج ذلك نراها واضحة تلوح لكل معتبر، ويكفي كمَثَل سريع أن عدد العانسات بمصر بلغ 9 ملايين، ونسبتهن في تونس وسوريا ولبنان والإمارات فوق 40% على أقل التقديرات! والمؤشرات الأخرى ليست أحسن حالاً. (ما مضى من أسطر تبلغ العشرين تقريباً مستفاد مع بعض التصرف من مقولة لأخي الشيخ عصام العويد بهذا الموضوع).
فكيف نسلك طريق الموت وهذه نتائجه يراها الأعشى؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة...
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، أما بعد:
فمن آخر الملفات المثارة في قضية المرأة: "إقرار الرياضة في مدارس البنات"، ولنا مع هذا الموضوع وقفات:
الأولى: الفتوى الشرعية في البلد من كبار العلماء -وعلى رأسهم سماحة المفتي حفظه الله وشفاه- على تحريم هذا الأمر، فلماذا تُتجاوز فتاوى العلماء الذين عيّنهم وليُّ الأمر وفقه الله للتصدي لبيان هذه الأمور؟
الوقفة الثانية: هل ممارسة المرأة للرياضة حرام؟ أليس قد سابقت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
فالجواب: أننا نقول: إن أصل الرياضة للمرأة والرجل حلال ولا شك، حتى ولو لم يَرد هذا الحديث -الذي اختلف العلماء في صحته ضعفه- فلو مارسته في البرية مع زوجها كما في قصة عائشة، أو في بيتها؛ لم يمنع منه عاقلٌ فضلاً عن عالم، لكن لماذا نتعامل مع هذا الملف الساخن بهذه السذاجة والسطحية المفرطة؟ ولماذا نفصل الحديث عن موضوعٍ كهذا عن مآلاته وعواقبه؟
الوقفة الثالثة: حين يقال "بالضوابط الشرعية" فعن أي ضوابطٍ يتحدث هؤلاء؟ ومن المعلوم أن المرأة بلبسها الرياضي لا يمكن في الأعم الأغلب إلا أن تلبس ما يحجِّم العورة والمفاتن؟ ومَن الذي سيضع هذه الضوابط؟ أَهُم العلماء المخوَّلون بالفتوى -والذين حرموها-؟!
لقدْ أقرّت رياضةُ البنات في بعض الدول العربية قبل عقود من الزمن لا تتجاوز ستين سنة من الآن، وبـ"ضوابط شرعية" كما يقال، وأُقسم بالله لم تمض ثلاثون سنة على هذه الضوابط حتى محاها الماء، وطار بها الهواء، فشُوهِدت نساء المسلمين والعرب شبه عاريات في مسابح الأولمبياد، ورياضة الجمباز، وقفز الحواجز وغيرها من الرياضات!! أمام أنظار أكثر من مليار مشاهد ومتابع لها عبر الشاشات!!
الوقفة الرابعة: أسوقها صرخةَ نذير، ونصيحةً غيور، عاش حتى رأى بعينه مآلات إقرار الرياضة النسائية في بلاده، ثم انتقل إلى بلادنا -حرسها من كيد المفسدين- ومات فيها، فأرسل هذه الرسالة قبل نحو من 40 سنة، إنه الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-، إذ يقول:
"إنه لا يزالُ منا مَن يحرصُ الحرصَ كلَّه على الجمع بين الذكور والإناث، في كل مكان يَقدِر على جمعهم فيه -في المدرسة، وفي الملعب، وفي الرحلات- الممرضات مع الأطباء والمرضى في المستشفيات، والمضيفات مع الطيارين والمسافرين في الطيارات، وما أدري وليتني كنتُ أدري: لماذا لا نجعل للمرضى من الرجال ممرضين بدلاً من الممرضات؟ هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ هل لديكم برهان فتلقوه علينا؟
إن كان كل ما يهمكم في لعبة كرة القدم أن تدخل وسط الشبكة، أفلا تدخل الكرة في الشبكة إن كانت أفخاذ اللاعبين مستورة؟
خبِّروني بعقل يا أيها العقلاء! لقد جاءتنا على عهد الشيشكلي من أكثر من ثلاثين سنة، فرقةٌ من البنات تلعبُ بكُرة السلة، وكان فيها بنات جميلات مكشوفات السيقان والأفخاذ، فازدحم عليها الناس حتى امتلأت المقاعد كلها، ووقفوا بين الكراسي، وتسوروا الجدران، وصعدوا على فروع الأشجار، وكنا معشر المشايخ نجتمعُ يومئذ فأنكرنا هذا المنكر، وبعثنا وفدًا منا، فلقي الشيشكلي فأمر غفر الله له بمنعه، وبترحيل هذه الفرقة وردها فورًا من حيث جاءت، فثار بي وبهم جماعة يقولون: أننا أعداء الرياضة، وأننا رجعيون، وأننا متخلفون! فكتبتُ أرد عليهم، أقول لهم:
هل جئتم حقاً لتروا كيف تسقط الكرة في السلة؟ قالوا نعم! قلتُ: لقد كذبتم والله، إنه حين يلعب الشباب تنزلُ كرة السلة سبعين مرة فلا تقبلون عليها مثل هذا الإقبال، وتبقى المقاعد نصفها فارغاً، وحين لعبت البنات نزلت الكرة في السلة ثلاثين مرة فقط، فلماذا ازدحمت عليها وتسابقتم إليها؟ كونوا صادقين ولو مرة واحدة، واعترفوا بأنكم ما جئتم إلا لرؤية أفخاذ البنات!
وهذا الذي سردتُه ليس منه -والحمد لله- شيء في مدارس المملكة، ولا تزال على الطريق السوي، ولكن من رأى العبرة بغيره فليعتبر، وما اتخذ أحدٌ عند الله عهدًا أن لا يحل به ما حل بغيره إن سلك مسلكه، فحافظوا يا إخوتي على ما أنتم عليه، واسألوا الله وأسأله معكم العون.
إن المدارس هنا لا تزال بعيدة عن الاختلاط ، قاصرة على المدرسات والطالبات".ا.هـ (ذكريات الشيخ علي الطنطاوي: 8/279).
اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كيد المنافقين، ومن كيد الأعداء المستعلنين والمستبطنين، اللهم احفظ نساءنا من مكرهم وخبثهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي