دور العلماء في الأزمات

أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
عناصر الخطبة
  1. كثرة الفتن المحيطة بالأمة .
  2. واجب العلماء في أزمان الفتن .
  3. أهمية نشر الأمل والتفاؤل بين المسلمين .
  4. أمة الإسلام أمة منصورة محفوظة .
  5. صمود الأمة أمام جحافل الظلم والعدوان .
  6. وظيفة العلماء في المجتمع. .

اقتباس

لقد فضَّل الله العلماء في هذه الأمة، وجعل لهم مكانة عظيمة، وجعلهم الفئة التي تخشى الله –عز وجل-،.. فضَّل الله العلماء بالفقه في الدين واستعمال النصوص في مواضعها، وفي أوقاتها، ومعالجة مشاكل الناس بمنهج الله وكتاب الله وسنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذه المكانة ما تبوؤها إلا لأنهم يعيشون في الميدان بالعلم، ويعيشون في الواقع بالعلم والهدى، فيرشدون الناس، ويعرفون أحوالهم، وما يصلح لهم وما يشق عليهم، ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون عباد الله: ولا تزال المحن تتوالى بالمسلمين مصداقًا لما قاله النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في صحيح مسلم "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".

ولكن إذا كان الله قد كتب هذا الابتلاء على هذه الأمة (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2- 3].

وإذ كتب الله ذلك على المؤمنين فما هو واجب الدعاة وحمَلة الألوية ورافعي الراية المحمدية ما هو واجبهم تجاه أمتهم في زمن الفتن؟

إن الفتن تورث القلوب خوارًا وضعفًا، ويتسرب اليأس والقنوط إلى القلوب، ويكاد كثيرًا من الناس يشكون في وعد الله ووعيده، فما هو واجب الدعاة؟ وماذا عليهم في هذه الأزمات وفي غيرها مما لا مناص للأمة من أن تتعرض له أو لغباره.

واجب الدعاة في الفتن أن يبثوا البشارات في قلوب الناس.

واجب الدعاة في الفتن أن يعلّقوا الناس بوعد الله الذي لم يتخلف، فإن الله وعد المؤمنين بالتمكين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].

إن هذا وعد رباني والبشارة النبوية إن هذا الدين يسري مسرى الليل والنهار "حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر" إشارة إلى الحاضرة والبادية، لا يبقى على ظهر الأرض "بيت مَدَرٍ، ولا وَبَرٍ، إلَّا أدخله الله كلمة الإسلام، بِعزِّ عَزِيزٍ، أو ذُلِّ ذليل، عزًّا يعز الله فيه الإسلام وأهله وذلاًّ يذل الله فيه الشرك وأهله".

أيها المؤمنون: نحن أمة مرحومة أمة موعودة بوعد لا يتخلف، وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وبشارة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى إلا هو إلا وحي يوحى.

إن هذه الأمة أمة منصورة وأمة ممكَّنَة، قد يقول قائل: أين هذا؟ ونحن نتلفت يمينًا وشمالاً، لا نرى إلا الذل والهوان، لا نرى إلا الضعف والاستكانة، لا نرى إلا حال المؤمنين كاليتيم على مأدبة اللئيم أو كما يقال:

وَيُقْضىَ الأمْرُ حينَ تَغيبُ تَيْمٌ *** وَلا يُسْتَأمَرُونَ وَهُمْ شُهُودُ

نقول: نعم ليست أول المحن ولا آخر المحن، إن محنًا كثيرة مرة على الأمة وكانت العاقبة النصر والتمكين لعباد الله وأوليائه.

إن هذه سنة الله لولا أن هذا دين الله ما قامت له قائمة، لو تصفحت صفحات التاريخ من السيرة النبوية العطرة وسيرة الخلفاء الراشدين وسيرة الأئمة المهديين بعدهم وسيرة العاملين الصادقين على مدار التاريخ لرأيت أن العاقبة للمتقين.

أُوذي النبي -عليه الصلاة والسلام- في مكة، وحُصِر من أجل أن تموت دعوته ولم تمت، طُرد من أجل أن يتخلص منه ومن دعوته، وما انتهت.

ولم تكن الهجرة نهاية المطاف في التعذيب والإيذاء، بل كانت بداية شوط آخر للابتلاء، اجتمع عليه في المدينة في غزوة الأحزاب المشركون وكِبرهم، وخيانة اليهود وغدرهم، وتلون المنافقين ومكرهم، هذا الثالوث الخبيث، من المشركين واليهود والمنافقين، جاءوا في غزوة الخندق غزوة الأحزاب، ولك أن تتصور هول المصيبة؛ إذ يصفها القرآن ويصف المؤمنين الكُمَّل (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: 11].

لك أن تتصور إلى أيّ حدٍّ بلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون، وعند ذاك اشرأبت أعناق المنافقين، وهم لا يرفعون رءوسهم إلا إذا اطمأنوا بضعف المسلمين قالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب: 12].

لكنَّ أهل الإيمان الصادقين الذي وصفهم الله بقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].

في هذه الأزمة الشديدة والمسلمون يعانون من شدة البرد، ويعانون من الجوع يربطون على بطونهم الحجارة، ويعانون من وطأة المشركين وخيانة اليهود من الداخل ولعب المنافقين على الحبال.

أمر عظيم ومع ذلك يُشار على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، هل لجائع أن يحفر خندقًا؟ هل لخائف أن يحفر خندقًا؟ إنهم يحملون قلوبًا، وإن كنا نحن نحمل بطونًا وكروشًا، يحملون القلوب التي تحمل البطون التي تحمل كل شيء، التي يهون في نظرهم الصعاب وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

يحفرون الخندق فيجدون صخرة عظيمة لا تأخذ فيها المعاول، فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- اعترضتنا صخرة ما نستطيع أن نفعل فيها شيئًا.

فيأخذ المعول بيده الشريفة -صلوات الله وسلامه عليه-، ويضرب أول ضربة، ويقول: "الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، والله! إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأرى قصور صنعاء من مكاني هذا".

يقول هذا في الوقت الذي يقول المنافقون: إن محمدًا يعدنا أنه يفتح بلاد الروم قيصر الذي كان في الشام وبلاد كسرى التي في فارس، يعدنا بذلك ونحن لا يأمن أحدنا أن يخرج إلى الخلاء.

انظر كيف المنافقون يفعلون، يقولون: "لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الخلاء"، وهو يعلق قلوبنا بهزيمة كسرى وقيصر، نعم إنه واجب الدعاة في الفتن أن يبشِّروا الناس وأن يربطوهم بالوعد الوثيق الذي لا يتخلف.

إن الداعي إذا دخل في قلبه اليأس والشك والريب كما يدخل في قلب العامي سقط الإسلام، لا بد من رجال يعلِّقون أنظار الناس بما عند الله سبحانه وتعالى.

جاء التتار وما أدراك ما التتار جاءوا بجحافلهم من الشرق، لا يجدون شيئًا حطوا عليه إلا جعلوه خرابًا، كالجراد الذي ما يُوضَع على زرع إلا ويتركه حطبًا، لا يأتون على حاضرة ولا بادية إلا أبادوها وأهلكوها.

كانوا يتركون الناس ينامون، ثم يذهبون إلى السدود المائية العظيمة التي تسد الأنهار فيكسرونها من أجل أن تنفجر ويغرق الناس فيها وتجترفهم.

قلوبهم لا تعرف الرحمة إليها سبيلاً أعظم فتنة، تصور ماذا يقول ابن الأثير المؤرخ الإسلامي الشهير عندما ذكر شيئًا عن هذه الفتنة، قال: "يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، من الذي يستطيع أن ينعى الإسلام والمسلمين".

كان الناس يقولون: لن تقوم للإسلام قائمة بعد هذا اليوم، كان الناس يقولون: لن يبقى للإسلام باقية، ولكن هذا دين الله، وسينصره الله بنا أو بغيرنا، دائمًا يتعرض لمحن وتنتهي، ويخرج الإسلام منصورًا أفضل مما كان.

رزق الله الأمة بعلماء عظام، كان من جملتهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- الذي ثبَّت الله به القلوب، وثبَّت الله به الناس في هذه الأزمة؛ أزمة التتار، قتلوا في بغداد مليونًا و800 ألف شخص، وجعلوهم كالتلال والأكوام من القتلى.

حتى إن أهل دمشق كانوا يمرضون ويموتون من نتن قتلى بغداد، تصوروا ماذا جرى على الإسلام، ومع ذلك ما ذهب الإسلام، هذه أمة تُجرَح ولا تُذبَح، تَمرض ولا تموت، ومن ظن أن هذه الأمة تموت فإنه جاهل بطبيعتها، وجاهل بحقيقة دينها، هذه أمة مؤيَّدة منصورة شئنا أم أبينا، هذه أمة تتعثر وتتلكأ في مسيرتها لكنها لا تنبطح وتتذمر أبداً؛ لأنها منصورة من الله –عز وجل-.

جاء التتار بجحافلهم، كانت الرحمة لا تعرف إلى قلوبهم سبيلاً، يقتلون الناس وحتى الأطفال والنساء، وخيَّم ذلّ على الناس لا يحب المرء أن يذكره، ولكن في النهاية ماذا كان؟ صمد المسلمون؟ صمد العلماء؟ ثبت الدعاة؟ اجتمع الناس حولهم؟

بعد ذلك تصوروا أن التتار دخل كثير منهم في الإسلام، وقد جرت العادة أن الأمة الغازية تؤثر بدينها في دين الأمة التي جاءها الغزو، أما أن تتأثر الأمة الغازية بدين الأمة الضعيفة المحتلة، فهذا غريب.

جلس التتار بين المسلمين حكموهم أذلوهم، فرأوا ثباتهم، واستمرارهم على دينهم، فدخل كثير منهم في الإسلام، وصاروا جنودًا وملوكًا في الإسلام، وفتحوا في القارة الهندية بلادًا أدخلوها في الإسلام.

وهذا تحقيق لوعد الله، تحقيق للبشارة النبوية (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 8- 9].

ثم جاءت الحروب الصليبية، واحتلت بلاد الشام وشمال إفريقيا، وجعلت في رأس كل جبل حامية تحميها، وظن الناس أن هؤلاء لن يخرجوا أبداً، فيسَّر الله بجنود الإسلام فاقتلعوهم، وطردوهم إلى أوساط أوروبا.

أمة منيعة، لا يصيبها الوهن إلا بقدر تخلّيها عن دينها، وما من أمة تمسكت بدينها ولا جيل إلا انتصر مهما كان ضعيفًا، ونحن ما أحوجنا اليوم إلى أن نبثَّ الأمل في زمن المحن، وأن ندخل الأمل واليقين في قلوب الناس، إن الله حافِظٌ دينه بنا أو بغيرنا، فلنتشرف نحن بخدمة هذا الدين.

أيها المسلمون عباد الله: هذه سُنة الله في هذه الأمة، ما إن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ارتد المرتدون، وقالوا كنا نعطي الزكاة لرسول الله؛ لأنه كان يصلي علينا يدعو لنا، وصلاته سكن لنا، أما ابن أبي قحافة ما دخله في هذا، ما لك يا أبا بكر تطلب شيئًا ليس لك فيه مجال!!

وكادت بلاد كثيرة تهب عليها رياح الردة، رياح الفساد ومنهم من ذهب إلى النصارى ومنهم من تنبأ وادعى النبوة، ومنهم من أنكر الزكاة، ومنهم من أقر بوجوبها، ولكن يقول: ما هي إلا لمحمد -عليه الصلاة والسلام-، وليست لمن بعده إلى غير ذلك، ولكن اجتمعت كلمة الصحابة على أن يقاتلوهم على أن يؤدوا الزكاة، كما كانوا يؤدونها أيام رسول الله.

جاء عمر فقال: يا أبا بكر! كيف تقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله؟! والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله".

قال: "الزكاة يا عمر من حقها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه".

دائمًا الفتن يحدث فيها اضطراب، وتميد الأرض بالناس، وأعظم اضطراب: اضطراب الأفكار والآراء  واضطرب الرؤى، لكن يبقى الله في الأمة علماء يثبتون الناس يؤملونهم يبشرونهم ويقولون لهم: الزموا نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن النجاة والفلاح في هديه صلوات الله وسلامه عليه.

بعد ذلك ما حال الحول إلا ورجع هؤلاء إلى الإسلام، واستقرت البلاد، واطمأنت من الفتنة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا بعد أن كاد عصر الصحابة ينتهي إلا مرقت الخوارج، وجحدت الرافضة، وألحدت القدرية، وفسخت المرجئة، ولكن يسر الله العلماء يدعون الناس إلى المنهج الصحيح والمنهج القوي.

لن تستطيعوا أن تجمعوا الأمة كلها على شيء واحد، لكن على الأقل أهل الحق يجتمعون على طريق واحد.

فالله اللهَ أيها المسلمون في بثّ الأمل وبث المبشرات التي تربط القلوب بالله -عز وجل- واليقين الراسخ بأن النصر حليفنا إذا نحن تمسكنا بديننا.

أسأل الله أن يدفع عنا وعنكم وعن بلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، واستغفروا الله؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله.

أما بعد: لقد فضَّل الله العلماء في هذه الأمة، وجعل لهم مكانة عظيمة، وجعلهم الفئة التي تخشى الله –عز وجل-، وبيَّن النبي -عليه الصلاة والسلام- مكانتهم ومنزلتهم، وليس ذلك لأنهم يحفظون العلوم، وإلا فلربما يكون هناك من الحفظة أكثر منهم، وليس ذلك لأنهم يجمعون العلوم بين دفات صدورهم؛ فقد يكون هناك من هو أولى منهم بهذا الباب.

 كم من حفظة! كم من أناس يحفظون المتون ويسردونها سردًا، لكنْ فضَّل الله العلماء بالفقه في الدين واستعمال النصوص في مواضعها، وفي أوقاتها، ومعالجة مشاكل الناس بمنهج الله وكتاب الله وسنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، لذلك كان العالم يُؤجَر بأجر كلِّ مَن استفاد من علمه، كما يقول الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- في مفتاح دار السعادة قال: "فتُضَمّ أعمالهم إلى عمله وأعمارهم إلى عمره".

فكل من يستفيد من العالم عمله يرجع إلى العالم، وعمر هذا العامل يرجع إلى العالم، وكلنا جميعًا تُضَم أعمالنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أول من دعا إلى الله في هذه الأمة، أول من سنَّ السنة الحسنة في هذه الأمة.

العلماء لهم مكانة، لكن هذه المكانة ما تبوؤها إلا لأنهم يعيشون في الميدان بالعلم، ويعيشون في الواقع بالعلم والهدى، فيرشدون الناس، ويعرفون أحوالهم، وما يصلح لهم وما يشق عليهم، ليست هذه المكانة لهم إلا لأنهم يعرفون اتجاه السعادة فيوجهون الناس إليها، ومصادر الشقاوة فيسدونها عن الناس.

ولذلك جاء الدين بسدّ الذرائع، هذه المكانة للعلماء -أيها الأحبة- جعلها الله لهم وأعظم ما تتجلى مكانة العالم في زمن الفتنة، فهذا الإمام أحمد بن حنبل -رحمة الله عليه- حصلت فتنة عظيمة تواتر عليها ثلاث من الملوك من بني العباس، المأمون والواثق والمعتصم قدر 22 سنة، والأمة تُحكَم بمنهج الجهمية التي صرَّح العلماء بأنه منهج مصادم للدين حتى قال ابن القيم في نونيته:

ولقد تقلد كفرهم خمسون *** في عشر من العلماء في البلدان

خمسون في عشر يعني خمسمائة عالم.

منهج الجهمية المعطلة حكَم الأمة بضراوة، عذَّب العلماء، قتل أحمد بن نصر الخزاعي، يذكر في قصة تعذيب الإمام أحمد أنه ضُرب ثمانية عشر ألف سوط من أجل أن يرجع عن هذا القول، عُذِّب عذابًا شديدًا،  كان يمسك بإزاره حتى لا تنكشف عورته إذا اشتد عليه الضرب، وفقد وعيه وثبت، فخرج كالذهب يخرج من الكير ذهبًا مصفى.

كما يقول بعض أهل العلم: الإمام أحمد شيخه الإمام الشافعي وشيخ الشافعي الإمام مالك أئمة كبار، لماذا اشتهر أحمد؟ اشتهر أحمد لثباته في الفتنة، والوقت الذي يظهر فيه العلماء أكثر ما يكون هو في وقت الفتن.

أحيانًا يطلبون من الناس ألا يتكلموا، السلامة في ترك الكلام، أو السلامة في الكلام بكذا دون كذا، أو السلامة في الابتعاد، أو السلامة في الاقتراب؛ لأن في زمن الفتن تحدث ضغوط نفسية على الفتوى، وضغوط نفسية على الكلمة فتنحرف يمينًا أو شمالاً، أما العالم الراسخ المتجرد المنصف فإنه الذي يتجرد من هذا كله، ويفتي الناس بما ينفعهم متجردًا من أيِّ شيء يؤثر عليه.

ظهرت مكانة الإمام أحمد بثباته في الفتنة، شيخ الإسلام ابن تيمية ابتُلي ابتلاءً عظيمًا عُذِّب سُجِن، خرَج من زنزانته إلى قبره، ولكن لما مات كم اجتمع من الناس في جنازته؟ كان الناس من باب المسجد الذي صُلي عليه فيه إلى باب المقبرة يشقون الناس شقًّا لنعشه حتى دُفن.

قام لله مقامًا عظيمًا، فدعا إلى الله ووعظ وذكَّر، وأرشد وأصَّل وقعَّد، وبيَّن للناس المنهج الصحيح حتى صار ابن تيمية قنطرة وصارت مدرسته قنطرة، من مشَى عليها وصل إلى الشاطئ الآخر بر الأمان.

رفع الله شأن ابن تيمية، وقد كان في زمانه علماء أكبر منه وأكثر شهرة وحظوة ومكانة لتجرُّده وثباته، ومع ذلك ما أُثر عنه أنه انتقم لنفسه، ابن مخلوف المالكي أفتى بقتله، وقضاة كثيرون، ولما تمكن شيخ الإسلام طُلب منه أن يفتي بقتلهم كما أفتوا بقتله، قال: لا يجوز أن يقتلوا، قالوا لماذا؟ قال: لأنهم حرام الدم، قالوا: هم أفتوا بقتلك، قال: هم جهلة وأنا عالم، لو أفتيت بقتلهم أكون جاهلاً.

هكذا العلماء الذي يحلقون في سماء الفضيلة، ولا ينزلون إلى الترهات، ولا يبالون عن كلام فلان فيهم، الكلام في الناس أو أهل العلم سُنَّة، تُكُلِّم في الأنبياء، ومع ذلك لما استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفتح مكة ما قال: افعلوا بهؤلاء الذين طردونا، ولا شيء من ذلك، أطلق سراحهم وعفا عنهم، وتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بتأليفهم إلى الحق.

إن العالم يستطيع أن يدعو بعمله أكثر مما يدعو بقوله، ونعوذ بالله أن نكون من قطاع الطريق الذي يقفون بين الجنة والنار يدعون إلى الناس إلى الجنة بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأعمالهم.

هكذا العلماء كبريت أحمر، بل أعز منه الذهب المصفَّى تحتاج إليهم الأمة لاسيما في النوازل، فواجب العلماء عظيم ويجب عليهم أن يقوموا بسد هذا الثغر، فليس لهم بعد الله سبحانه -عز وجل-.

ولا بد أن يتحلوا بالسماحة، ولا بد أن يتحلوا بالصفاء، ولا بد أن يعلموا الناس بالفعل قبل القول؛ أنه بالتصافي والتسامح وطيب القلوب أعظم باب لِلَمّ الشمل وأعظم باب لوحدة الصف.

إني ناصح لنفسي أولاً، وللدعاة ثانيًا، الأمة محتاجة إليكم، وأنزلوكم منزلة عظيمة، فاتقوا الله في هذه المكانة، قد أنزلوكم منزلة شامخة، فاتقوا الله في هذه المكان؛ فإن الله قد سائلك عنها..

أسأل الله أن يغفر لنا وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي