حديثنا اليوم عن امرأة أنزل الله عز وجل من أجلها كبير الملائكة الذي كان لا ينزل إلا للأمور الجسام العظام التي تفصل في مصير البشرية؛ أنزل من أجلها جبريل عليه السلام؛ ليراجع في شأنها صفوة خلقه، وخير رسله؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. حديثنا اليوم سيكون عن أم من أمهاتنا الأطهار، وزوجةٍ من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام وصفها ..
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأرشد فهدى، وأعطى فكسى، وأسبغ فحمى، الحمد لله الذي أرسل المرسلين، وأقام البراهين، فهدى الحائرين، وأرشد التائهين، ونصر المؤمنين، وأضل الكافرين، والصلاة والسلام على من أقام منار الدين، وصبر وجاهد حتى أتاه اليقين، خاتم المرسلين، وسيد العالمين، وإمام العاملين، وقدوة السالكين، نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأزواجه المطهرين، وصحبه الغر المحجلين، صلاة ترضى عنا بها إلى يوم الدين-.
أما بعد:
عباد الله: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وخير الوصايا تقوى الله -عز وجل-، فأوصيكم ونفسي بتقوى العلى الحكيم.
حديثنا اليوم عن امرأة ليست كباقي النساء، أمٌ ليست كسائر الأمهات، وصحابية ليست كسائر الصحابيات، وزوجة ليست كسائر الزوجات. حديثنا اليوم عن امرأة أنزل الله -عز وجل- من أجلها كبير الملائكة الذي كان لا ينزل إلا للأمور الجسام العظام التي تفصل في مصير البشرية؛ أنزل من أجلها جبريل -عليه السلام-؛ ليراجع في شأنها صفوة خلقه، وخير رسله؛ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
حديثنا اليوم سيكون عن أم من أمهاتنا الأطهار، وزوجةٍ من زوجات النبي -عليه الصلاة والسلام- وصفها جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنّها صوّامةٌ قوامة وإنّها زوجتك في الجنة".
من هي تلك الزوجة التي استحقّت أن ينزل جبريل؛ لتزكيتها بأمرٍ من ربّ العزّة -تبارك وتعالى-، ويشهد لها شهادة تظلّ على مدى الأيام مفخرة الدنيا وسعادة الآخرة؟! من تلك الصوّامة القوامة التي حازت الشرف في أن تكون زوجةً للنبي -عليه الصلاة والسلام- في الدنيا والآخرة؟!
إنها أمّ المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطّاب -رضي الله عنهما-.
وُلِدت قبل البعثة بخمس سنوات في عام بناء قريش للكعبة، فنشأت في بيت يعج بالإيمان والتقى والصلاح.. والدها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأمها الصحابية زينب بنت مظعون أخت الصحابي الجليل عثمان بن مظعون -رضي الله عنهما-، وأخوها الشقيق عبد الله بن عمر.
ولما بلغت سنّ الزواج تقدّم إليها الصحابي خُنَيس بن حذافة السهمي وكان أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المهاجرين إلى الحبشة، وقد عاد مع من عادوا عندما سمع الخبر المزعوم عن إسلام قريش، كان زواج خنيس من حفصة بعد عودته من الحبشة.
مكثت حفصة عند خنيس سنوات عديدة، وهاجرت معه إلى المدينة المنورة لما أذن الله ورسوله بالهجرة، فكانت وزوجها من السابقين الأولين والمهاجرين، فاجتمع لهم الشرف فوق الشرف، السبق بالإيمان والهجرة.
مع أن حفصة لم ترزق بولدٍ من زوجها خنيس إلّا أنها كانت صابرةً محتسبةً، راضية بما قسم الله لها، فلم تتسخط، ولم يكدر خنيس -رضي الله عنه- خاطرها بالحديث عن الإنجاب والشوق إلى الولد، بل لم يفكر حتى بالزواج من غيرها، فقد أرخى المولى سدول الرضا على قلبي الزوجين الصغيرين فعملا بقوله -تعالى-: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) [البقرة:216].
عكفت حفصة على تعلم العلم والأدب فتعلمت القراءة والكتابة على يد الصحابية الجليلة شفاء العدوية، وكانت حفصة إحدى فصيحات قريش وبليغاتها، والقليلات التي تعلمن القراءة والكتابة.
أما قصة زواجها من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعجب العجاب، فبعد الهجرة ما هو إلا قليلٌ حتى بدأت مرحلة المواجهة بين المؤمنين وأعدائهم، فكان خنيس من أوائل المدافعين عن حياض الدين، فقد شهد بدراً وأحداً، وأبلى فيهما بلاء حسنا، لكنّه خرج منهما مثخناً بجراحات كثيرة، ولم يلبث بعدها إلا قليلا حتى فاضت روحه سنة ثلاث للهجرة، مخلّفا وراءه حفصة -رضي الله عنها-.
وعانت حفصة مرارة الترمّل، وفقد الحبيب الأنيس، فتأثر عمر بن الخطّاب والدها لمّا رأى ابنته الشابة ذات العشرين عامًا تعاني من الوحدة والترمّل، أحزنه أن يراها باكية متألّمة فبدى له بعد تفكيرٍ طويل أن يختار لها زوجًا يؤنس وحدتها ويزيل وحشتها.
فعرض الأمر على أبي بكر ثم عثمان على التوالي، فجاء الرد صادما له حيث رفض الاثنان على التوالي، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر، قال عثمان: سأنظر في أمري، فلبث عثمان ليالي، ثم اعتذر لعمر بأنه لا رغبة له في الزواج.
قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر، فسكت أبو بكر، ولم يُرجِع إلى عمر بجواب، قال عمر: فكان غضبي من فعل أبي بكر وعدم ردّه أشدّ من غضبي لرد عثمان، قال عمر: فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فزوّجته إياها، فلقيني أبو بكر، فقال: لعله كان في نفسك شيءٌ عليّ حين لم أُرجع إليك جواباً في حفصة؟، قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني من ذلك إلا أني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركها لقبلتها.
فانظر إلى هذا الأدب والخلق الرفيع من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-. وتمّ الزواج المبارك بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين حفصة بنت عمر على صداقٍ قدره أربعمائة درهم، وبساط ووسادتان وكساء يفترشانه في الصيف والشتاء ورداءان أخضران.
ولنا هنا وقفةُ تأمّل نتحدّث فيها عن أمرين:
أوّل هذين الأمرين: عرضُ عمر -رضي الله عنه- ابنته على من رضي خُلُقه ودينه وتوسّم فيه الخير والصلاح والحفظ والصون، في هذا السلوك العُمَريّ الرفيع إشارةٌ جميلةٌ اليوم إلى كلّ والد أن ليس عليك حرج في أن تعرض ابنتك على من ترتضي دينه وخُلُقه وأمانته، ولا عيب ولا عار ولا مخجلة فلك في عمر بن الخطّاب أُسوةٌ حسنة بل لك أُسوةٌ حسنةٌ في نبيّ الله شعيب -عليه السلام- حين قال لموسى -عليه السلام-: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) [القصص:27]، فليس في هذا ما يقلّل من شأنك -أيها الوالد- أو من شأن ابنتك، وليس فيه مايهين أو يَشين.
النقطة الثانية التي أحبّ أن أتوقف عندها: هو ذاك المهر البسيط الذي أمهره النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجته حفصة بنت عمر والذي سيمهر مثيله لزوجته أم سلمة هند بنت أبي أميّة، الواقع أنه كان أكثر مهرٍ أمهره النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه كان أربعين مثقالًا ذهبًا، وهو ما يساوي أربعمئة وثمانون درهمًا فضّة في ذلك الوقت. فالتيسير في المهور من السنن المهجورة التي بغيابها ملئت الأرض فسادا وانحرافها.
وهكذا شرّفها الله -سبحانه-؛ لتكون زوجة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، تقتبس من أنواره، وتنهل من علمه، بما حباها الله من ذكاءٍ وفطنةٍ، وشغفٍ للمعرفة، ونلمس ذلك من أسئلتها التي تلقيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ استفهاماً للحكمة، واستيضاحاً للحقيقة، فمن ذلك أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي جيش من قبل المشرق يريدون رجلا من أهل مكة، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم، فرجع من كان إمامهم لينظر ما فعل القوم، فيصيبهم مثل ما أصابهم". فقالت: يا رسول الله، فكيف بمن كان منهم مُسْتَكْرَهاً؟، فقال لها: "يصيبهم كلهم ذلك، ثم يبعث الله كل امرئ على نيته".
وخلال السنين التي عاشتها في كنف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذاقت من نبيل شمائله وكريم خصاله، ما دفعها إلى نقل هذه الصورة الدقيقة من أخلاقه وآدابه؛ سواءٌ ما تعلّق منها بهديه وسمته، ومنطقه وألفاظه، أو أحوال عبادته، فنجدها تقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى، وتقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده وقال "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك" ثلاث مرات.
وقد روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ستين حديثا في الصحيح والسنن، ونقلت عنه علما غزيرا انتفعت به الأمة المحمدية من بعدها أعظم انتفاع، فجزاها الله خير الجزاء على الوفاء والاخلاص وجميل الأخلاق، ورضي الله عن أمنا حفصة بنت الفاروق عمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب السموات السبع وما أظللن، الحمد لله رب الأرضين السبع وما أقللن، الحمد لله خالق الإنس والجن، وخالق الملائكة والشياطين، وهو على كل شيء قدير، وأصلى وأسلم على خاتم المرسلين، وهادي المؤمنين، وقدوة السالكين، وإمام العارفين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اشتهرت أم المؤمنين حفصة بنت الفاروق بالغيرة كما هي عادة النساء حتى ولو كن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، والغَيرة في المرأة أمر من الأمور الملازمة لطبيعتها وشخصيَّتها، خاصَّة إذا كانت لها في زوجها ضرائر، فكل واحدة منهن تريد أن تستحوذ عليه بحبِّها وعطفها وقربها، وأن يكون لها دون سواها؛ لذا فقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها-: أن نساء النبي كنَّ حزبين؛ حزب فيه: عائشة، وحفصة، وصفيَّة، وسودة، وحزب فيه: أُمُّ سلمة، وسائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت هذه الغيرة الشديدة سببا لطلاقها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد طَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة -رضي الله عنها-، فلمَّا علم عمر بن الخطاب بطلاقها، حثى على رأسه التراب، وقال: "ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد اليوم"؛ فعن قيس بن زيد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلَّق حفصة بنت عمر تطليقة، فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: "والله ما طلَّقني عن شبع"؛ تقصد عن زهد فيها وكراهية لها. فنزل جبريل -عليه السلام- بنفسه -وليس كالمعتاد بالوحي- بأمر من رب السماء لنبيه أن يراجع حفصة، وذكر جبريل -عليه السلام- حيثيات القرار الإلهي، فقد قال له جبريل -عليه السلام-: "راجعْ حفصة؛ فإنها صَوَّامة قوَّامة، وإنها زوجتك في الجنة".
فيالها من براءة وشهادة عظيمة من رب السماء لهذه المرأة المخلصة التي يتجرأ على مقامها الزنادقة والمجرمون، ويتناولونها بالسب واللعن، لعنة الله عليهم وعلى كل من سب أمهات المؤمنين وصحابة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
أما أعظم مناقبها -رضي الله عنها-، فهو اختيارها لتحفظ نسخة المصحف الأولى، والتي جمعها أبوبكر -رضي الله عنه- من أيدي الناس بعد أن مات أكثر القرّاء، وظلت معها حتى خلافة عثمان وعاشت -رضي الله عنها- تحيي ليلها بالعبادة وتلاوة القرآن والذكر، حتى أدركتها المنيّة سنة إحدى وأربعين بالمدينة عام الجماعة، فرضي الله عنها وعن أمهات المؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي