الدنيا (2)

زيد بن مسفر البحري
عناصر الخطبة
  1. أمثلة تبين حقارة الدنيا .
  2. الدعوة للكفاف والأخذ من الدنيا بقدر الحاجة .
  3. كيفية تأصيل مبدأ الكفاف في النفس .

اقتباس

مازال الحديث متواصلا عن تلك الأمثلة التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- عن حقارة الدنيا، في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، فقد ذكر -رحمه الله- اثنين وعشرين مثالاً، ذكرنا منها في الخطبة الماضية ما تيسّرَ، ونستكمل شيئا منها، إذ اخترنا من هذه الأمثلة أجملها، وأخصرها، وأشملها.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عبادَ الله، مازال الحديث متواصلا عن تلك الأمثلة التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- عن حقارة الدنيا، في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، فقد ذكر -رحمه الله- اثنين وعشرين مثالاً، ذكرنا منها في الخطبة الماضية ما تيسّرَ، ونستكمل شيئا منها، إذ اخترنا من هذه الأمثلة أجملها، وأخصرها، وأشملها.

فمما ذكره -رحمه الله- عن هذه الدنيا أنه قال: مثلها كمثل رجلٍ بنى داراً، زيّنها، جملها، أحسن بنــاءها، ثُـم وضع فيها من الآلات والمتع ما يستلذُّ بها الناظرون، ومــا يستمتـع بها الراؤون، ثُمّ دعا الناس إليها، فكلما دخل داخلٌ أجلسه في هـــذه الدار، وأجلسه على فراشٍ وثير، وقدم له طبقاً من ذهبٍ عليه لحم.

فدخل الناس في هذه الدار، فالعاقلُ منهم استمتع بتلك الآلات التــي قُدمتْ، وبتلك الأواني الفاخرة التي وُضِعت، فعلم أنّ ذلك كله متاع صاحبِ الدارِ، فلم يشغل قلبه بها، ولم يشغل فكرَه بها، وإنمــــــــا يجلس حيث أجلسه صاحبُ الدار، يأكل مما قُدم له، ولا يسأل عمّا وراء ذلك؛ اكتفاءً بصنيع وكرم صاحب الدار، فدخـــل هذه الــــــدار كريما، وتمتّعَ بها كريما، ثمّ فارقها كريما.

وأما الأحمق فإنه لمـــا دخل هذه الدار انشغل قلبه بما فيها، فحدّثَ نفسه بامتلاك هذه الدار، وبحوز تلك الأواني العجيبة، والآلات الفاخرة، فماذا صنع؟ تخيـــــّرَ من المجالس أحسنها فجلس فيها، وأخذ من تلك المتع ووضعها فـي حَوْزةٍ من تلك الدار، وكلما قُدمَ إليه إناءٌ فاخر جعل ينقله إلى ذلـــك المكان، وربُّ الدار يشاهد ما يصنع، ويرى ما يفعل، حتى إذا ظنّ ذلك المسكين الأحمق أنه استبد بتلك الآلات والأواني، وأنه امتلكهـا واستوطنَ تلك الدار، أرسلَ ذلك الرجل عبيده فأخرجوا هذا الأحمق من هذه الدار إخراجا عنيفا، وسلبوه كل شيء، ولم يصحبــــه شيء من تلك الآلات، وحصل على مقـتِ وغضــب وسخـــط رب الدار، وحصل على افتضاحه عنده وعند مماليكه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فليتأمل المسلم حسنَ هذا المثـال، فإنه مُطابقٌ للحقيقة والواقع".

مثالٌ آخر: قال -رحمه الله-: ملِكٌ بنى دارا، فحسنها، وجمـــــــــلها، ولم يسمـــع السامعون بمثيلها، ولم يرَ الراؤون بنظيرها، فنصب لها طريقـــا، ودعـا الناسَ إلى الدخول فيها، لكنه أقعدَ على ذلك الطريق، أقعــــد عليه امـــرأة جميلة قد زُيِّنتْ بأحسن الحلل، وجُمّلتْ بأحسن الثيــــاب، وجعل لتلك المرأةِ أعواناً وخدما، وجعل معــها الزاد لمــن أراد أن يتزود في هذا الطريـــــق للوصول إلى تلك الدار الجميلة، وقـال: مـــن غضّ طرفه عنكِ، ولم ينشغل بكِ، وابتغــى منـــــــــكِ زادا فزوّديه، واخدميه، وأعينيه، ولا تُعيقيه عن سفره، وأما من مدَّ إليكِ عينَــه، واستمتــــع بكِ، وانشغـــــل بكِ، وآثركِ، فسوميهِ سوءَ العذاب، وأوليـه غايةَ الهوان، واجعليه يركضُ خلفكِ ركض الوحش، وكلما بالغَ في الإقبال إليكِ، فقابليهِ بمثلِ ذلك إهانةً، وقلقا، وحزنا، وتوتــــــرا، وكلما بالغ في ذلك، فبالغيهِ بالهمِّ حتى تنقطعَ عليه الحسرات عليكِ...

قال -رحمه الله-: "فتأمل حالَ خطَّابِ الدنيا، وحالَ خطّاب الآخرة".

مثالٌ آخر: قال -رحمه الله-: "ملِكٌ خطَّ مدينةً في أحسنِ المواضـع، فأحسن هواءها، وأجرى أنهارها، وشقَّ مياهها، وغرسَ أشجارها، وجعل فيها من كل ما تستلذُّ به النفس، ويتمتع به الفؤاد، فقـال لرعيته: تسابقوا إلى هذه الدار، فمن سبق حاز على أعلى المنازل، ومــن تأخَّر فاتته تلك المنازل.

فنصبَ لهم إلى هذه الدار ميداناً للسباق، وجعل في هذا الميــــدان شجرةً لها ظلٌّ ظليل، وتحتها مياهٌ جارية، وفيها من كل أنواع الفواكه، وفيها طيورٌ عجيبة الأصوات، وقال: لا تغترُّوا بهذه الشجرة، فعن قليلٍ تُجتثُّ من أصلها، وتيبس أوراقها، وتذبُلُ فروعها؛ وأمّا مدينة الملك، فأكلها دائمٌ، وظلها مستمر، ونعيمها سرمدي.

فسمع الناس بهذه الدار، فخرجوا كلهم، يتشوَّفون إلى هذه الدار، خرج كلهم فمروا على تلك الشجرة ذات الظل الظليل، مروا بها علـــى أثر نصبٍ، وتعبٍ، وغبار، فاستراحوا تحتها، فطال مقامهم، فقيل لهم: إنما نزلتم تحت هذه الشجرة لتستظلوا بظلها، ولِتحموا أنفسَكم حتى تصلوا إلى دار الملك. فقال الأكثرون: كيف نقتحم هذه الحلبةَ، وهذا الميدان، وفيه نصب، وتعب، وغبار؟ وكيف ندع هذا الظل الظليل، والماء العــذب السلسبيل؟ وكيف نبيع هذا النقدَ الحاضر بالنقد النسيئة إلى الأجـــل البعيد؟ وكيف نقدم ما سمعناه على ما رأيناه؟ خذ ما رأيته ودع شيئا سمعتَ به فإنه طويل الأمد، وهذا عيشٌ حاضر، كيف تقدم عليه العيشَ الآجل؟.

فنهضَ من هؤلاء من كل ألفٍ واحد، وقالوا: والله ما مقامنا تحت هذا الظل لهذه الشجرة، وترك دار الملك إلا من أسفه السفه، وخرجوا، وقالوا لإخوانهم: وهل يليقُ بالمسافر إذا استظلّ تحــت شجرةٍ أن يضربَ عليها خباءه، وأن يدعَ النعيم السرمدي؟

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ

فاقتحموا حلبةَ السباق، وخاضوا ذلك الميدان، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق،  فما هو -والله- إلا قليل حتى اجتثت تلك الشجـــــــرةُ من أصلها، ويبست فروعها، وجفّ ماؤها، وماتت طيورها، فأصبح هؤلاء الذين هم الأكثر في حرِّ السموم يتقلبون، وعلى ما فاتهم من ذلك الظل تحت الشجرة يندمون.

أحرقها قيِّمُها فأصبحت نارا تتأجج، فقالوا: أين الركبُ الذين كانوا معنا ثم ارتحلوا؟ فقيل لهم: انظروا إلى الأعلى، فنظروا في منازلهم في أعلى علِّيين، فتضاعفت لهم الحسرات، لمَّا لم يلحقوا بهم.

مثالٌ آخر: قال -رحمه الله-: الدنيا كحَوْضٍ كبير مليءٍ بالمياه، فجُعلَ هذا الحوض مورداً للأنام والأنعام، فجعل الناسُ والأنعام تشرب منـــه، حتى لم يبقَ منه إلا قليلٌ، وهذا القليل قد بالت فيه هذه الأنعام وخاضت فيه.

ويدل لِذلك ما جاء في صحيح مسلمٍ، عن عتبةَ بن غزوان، أنه خطبهم فقال: "إنّ الدنيا قد آذنتْ بِصُرم -يعني بانقطاع- وولتْ حذَّاءَ -يعني أنها سريعةُ السير وسريعة الانقطاع- وإنكم مرتحـــــــلون إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم".

قال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "إنّ الله -جلّ وعلا- خلق الدنيا قليلة، ولم يبقَ منها إلا القلــــيل، وهذا القليــل كالثعب -يعني كالغبيط- شُربَ صفوه، وبقيَ كدرُه".

ولقد مُثلتْ الدنيا بحيةٍ، حسنة الملمس، ناعمة الملمس، لكن فـــي ضربتهـا الموت. يقول ابن القيم -رحمه الله-: والعجب، أنّ عشاقها يتهافتون حولها، ويرون إخوانهم صرعى في خِضمِّها، فيتنافسون في مصارعهم، قال -جلّ وعلا-: (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) [إبراهيم:45].

ولقد عُرضتْ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعرض عنها، ولم يردها، ولو أخذها -عليه الصلاة والسلام- لكان أشكر الناس لها. انتهى كلامه -رحمه الله-.

أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إن ربي كان توابا رحيما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عــدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحيـن، وأشهـد أن محمدا عبده ورسوله إمام المهتدين المتقين، صـلـى الله عليه وعلى آله، وصحابته، وسلم تسليمـا كثيرا إلى يـوم الديـن.

أما بعد، فيا عبادَ الله: يظن البعض أننا عندما نتحدث عن الدنيا، وعن حقارتها، أننا ندعــو إلى تركها، وإلى العزلة عنها، وليس هذا هو المراد، ونحن طالما نشير إلى أن مَن أخذ مِن هذه الدنيا بقدر حاجته، فإنه يقع في مقـــام المدح، وأما مَن أخذ منها بأكثر من حاجته، وانشغف بها؛ فإنه يقــع في الذم.

فالطريق السليم الصحيح هو الطريقة الوسطى: أن تأخذ من هذه الدنيا بقدر حاجتك، ولا ينشغل قلبك بما وراء ذلك، فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام يدعــو إلى الرهبانيــة، أو إلى أن يتقوقع الإنسان في المسجد، وأن يدعَ الدنيا، كلّا! الإسلام يريد منك أن تجعل لنفسك مركزا اجتماعيا، وأن يكون لــك مال طيب حلال حتى تستغلَ ذلك في إعزاز دين الله -عـزّ وجـلّ-، فالمسلمون يجب أن يكونوا أقوياء ماديا، وعلميا، واقتصاديا، وفي سائر ميدان الحياة.

ولكن؛ حذارِ حذارِ أن تجرفك زهرةُ الدنيا! وأن يقودك هذا المال إلى الضلال، وإلى الفسق، وإلى الفجور!.

ولكي تُؤصِّل هذا المبدأ في نفسك، وهو أن تأخذ بقدر حاجتك مــن هذه الدنيا، وأن تغفل ما زاد عن ذلك، لكي تؤصل هذا المبدأ تذكَّر مَن كان قبلك؛ والله! لقد عاش على هذه الأرض ملوكٌ وأمراء، ووزراء، وأغنياء، أين أموالهم؟ أين قصورهم؟ أين نساؤهم؟ أدعُ الجواب لك!.

كُتبَ الموت على الخلقِ فكم *** فلّ من جــــيشٍ ودولْ

أين نمرود وكنعان ومَن *** ملكَ الأرضَ وولّى وعزل

أين الملوك التي كانت مُسَلْطِنَةً *** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** ودارنا لخراب الدهر نبنيـــــــها

وتذكرْ تلك المقولة: "لو دامت إلى مَن قبلك ما وصلتْ إليك"، والله، لو دامت إلى من قبلنا ما وصلت إلينا هذه الدنيا!.

يقول الشاعر:

لو يجمع الله ما في الأرض قاطبةً *** عند امرئٍ لم يقل حسبي فلا تزدِ

كلٌ يروح من الدنيا الغرور كما *** أتى منـها بلا عــتاد ولا عُدد

لو كان يأخذ شيئا قبلنا أحدٌ *** لم يبق شيء لنا من سالف الأمد


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي