إن حياة القلب تكون بثلاثة أشياء: قصر الأمل, وتدبر القرآن, وتجنب مفسداته، فأما قصر الأمل، فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، وعبر- سبحانه- عن يوم القيامة بالغد، للإشعار بقربه، وأنه آتٍ لا ريب فيه، وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه...
الحمد لله ذي النعم الكثيرة والآلاء، الغني الكريم الواسع العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العلا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام النجباء، وعلى أتباعهم في هديهم القويم إلى يوم النداء، والمأوى وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بدينكم الذي شرعه نبيكم فهو العروة الوثقى، واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي تسعدون به في حياتكم وبعد مماتكم وعند قيامكم لرب العالمين.
عباد الله: إن حياة القلب ونعيمه وسروره وبهجته بالإيمان بالله، ومعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله، فإنه لا حياة أطيب من هذه الحياة، ولا نعيم فوق نعيمها؛ إلا نعيم الجنة الذي يجتمع فيه كمال الإيمان، وكمال النعيم.
وإن معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين, معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس.
وحين أن تكون حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فطابت كما طاب، وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، هذه هي النتيجة الطيبة للعمل الصالح الذي يبتغي به صاحبه وجه الله والدار الآخرة، وأن يظفر معها بصلاح البال، وسعادة الحال، فيجمع الله له حظين من الجزاء، حظًّا في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة، وحظًّا في الآخرة. وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
عباد الله: إن حياة القلب تكون بثلاثة أشياء: قصر الأمل, وتدبر القرآن, وتجنب مفسداته، فأما قصر الأمل، فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، وعبر- سبحانه- عن يوم القيامة بالغد، للإشعار بقربه، وأنه آتٍ لا ريب فيه، وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى فيها زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.
وقصر الأمل من أنفع الأمور للقلب، فإنه يبعثه على تدارك الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب، ويثير عزمات القلب إلى دار البقاء والخلود، ويزهده في الدنيا، ويرغّبه في الآخرة؛ كما قال -سبحانه-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف: 35].
وأما تدبر القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر؛ كما قال -سبحانه-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، فالحكمة من إنزاله أن يتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها؛ فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد أخرى تدرك بركته وخيره؛ ليتفكروا فيما اشتملت عليه آياته من أحكام حكيمة، وآداب قويمة، وتوجيهات جامعة؛ لما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.
وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود، كما أنه ذكرى لأولي العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لآياته كل علم ومطلوب، وموعظة لأصحاب العقول السليمة بما جاء فيه من قصص وعبر عن السابق.
ومن وُفّق للتدبر، والعيش مع القرآن، فقد أمسك بأعظم مفاتيح حياة القلب، كما يقول ابن القيم: "التدبر مفتاح حياة القلب"، وسيجد أن العيش مع القرآن لا يعادله عيش!, ألم يقل الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:2]؟, لا -والله- ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمةً، ونورًا، ودليلاً إلى الجنة كما قال قتادة -رحمه الله-.
عباد الله: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر، وتدله على مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صور الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وتحضره بين الأمم السابقة، وتريه أيام الله فيهم، وتشهده عدل الله وفضله، وتُعرّفه ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله وما يبغضه، وتريه طريق أهل الجنة، وأهل النار، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وتُطلعه على تفاصيل التكاليف الشرعية -الأمر والنهي-، والحكم والقدر، والحلال والحرام، والترغيب والترهيب، والمواعظ والصبر وغيرها.
وحياة القلب يا عباد الله: لها مظاهر ودلالات على طريق المراقبة الذاتية تقدم لمن وجدها بشائر تشد أزره، وتشحذ همته وتثبت خطاه على طريق الاستقامة، كما يؤدي فقدانها إلى الخوف على الحال والمال، ومن ثَم فهي في الحقيقة وسيلة مهمة في المحافظة على حياة القلب وسلامته، بل إنها أداة فعَّالة إذا حسن استخدامها؛ فالله -سبحانه- وتعالى رتَّب على صلاح القلوب صلاح الأقوال والأفعال، بل وطيب الحياة في الدارين.
ومن أهم تلك علامات: وجل القلب من الله -سبحانه-، وشدة خوفه منه، كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
ومنها: القشعريرة في البدن، ولين الجلود والقلوب عند سماع القرآن، كما قال الله -سبحانه-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].
ومنها: خشوع القلب عند ذكر الله -سبحانه-، كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
ومنها: الإذعان للحق والإخبات له، كما قال الله -سبحانه-: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج: 54].
ومنها: كثرة الإنابة إلى الله وأخبر أن الجنة سينالها كل من: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق: 33].
ومنها: السكينة والوقار كما قال الله -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4].
ومنها: خفقان القلب بحب المؤمنين، كما قال الله -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
ومنها: سلامة القلب من الأحقاد كما قال الله -سبحانه-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
ومنها عدم التقديم بين يدي الله ورسوله، وعدم رفع الصوت فوق صوت النبي، وغض الصوت عنده، أي الانقياد المطلق لأمر الله ورسوله والخضوع له، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 1 - 3].
ومنها امتلاء القلب بحب الله، والأنس به، وإجلاله وتعظيمه، والإنابة إليه والخضوع له والخوف منه، وتعلق القلب به ورجاؤه وحده، والاطمئنان إليه والتوكل عليه، وغير ذلك من أعمال القلوب التي تميز المؤمنين عن الكافرين، وجماع ذلك كله محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته، فذلك أطيب ما في هذه الدنيا، وحياة القلب بذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني إنما هو في الحياة مع الله، ومن كان كذلك دله قلبه عن الدنيا وانصرف كله إلى الآخرة، بل وعن كل شيء سوى الله تعالى، فهذه هي حال قلوب المنيبين إلى الله.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي إِذِ اسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟" قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ حَقًّا، قَالَ: "انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، أَوْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: "أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ" فَقَالَ: " [تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (1 / 233) ضعيف]، وهو مصداق لما جاء في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-ما، قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر، يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" [البخاري (6416)].
فيتحصل مما سبق أن من أبرز مظاهر حياة القلوب وعلامات صحتها وسلامتها: شدة التعلق بالله، ودوام ذكره، واطمئنان القلب بذلك، والاهتمام بصحة العمل بتصحيح النية وتحقيق المتابعة، والشح بعرضه كشح ذي المال البخيل، والحزن على فوات الطاعات والاشتياق إليها، واجتماع الهم بالله والسعي في مرضاته، وشهود نعمة الله والإحساس بالتقصير في حقه، وذهاب الهم بالصلاة والارتياح بها، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتألم بورود القبائح على النفس، والنفور من المعاصي، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. والقلب إن لم تسكنه محبة الله سكنته محبة المخلوقين، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، وأكرمنا بتقواك، وأصلح لنا قلوبنا، وارزقنا المنازل العلا من الجنة، في الفردوس الأعلى مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله ربكم، واعبدوه، واشكروه على ما أنعم به عليكم، واحمدوه، واعرفوا نعمته عليكم وما منَّ به من الفضل والإنعام.
عباد الله: إن للقلب مفسدات منها: كثرة الخلطة، والتمني, والتعلق بغير الله, وكثرة الشبع، وكثرة النوم, فهذه الخمسة أكبر مفسدات حياة القلب.
القلب السليم يسير إلى الله تعالى والدار الآخرة، لكن هذه الخمسة تسعى دائما أن تطفئ نوره، وتضعف قواه، قاطعة له عن الوصول إلى ما خُلق له، وجُعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه؛ وإذا استحكمت هذه الأمراض بالقلب أصابته بالوهن، ثم يزداد ضعفه حتى يموت القلب، وإذا مات قلب العبد تعطلت جوارحه عن الطاعة والعبادة, ولم يؤد حق الله من الطاعة والعبودية, ولم يعمل بكتاب ربِّه, ولا بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وعادى الرحمن, ووالى الشيطان، واستنفذ نعم الله ولم يؤد شكرها, وشاهد الموتى ولم يعتبر, ورأى القبر ولم يستعد, وأقبل على الدنيا يعمرها ويجمعها وينافس في جمع حطامها, بغية سعادته ورجاء سلامته؛ وما زاده ذلك إلا ضنكا، وما جمع سوى الشقاء: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].
يقول الحسن -رحمه الله-: "داوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته، ومن عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه". يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر".
إنه لا نعيم للقلب ولا لذة، ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والابتهاج بقربه، والشوق إلى لقائه، فهذه جنته العاجلة، كما أنه لا نعيم له في الآخرة، ولا فوز ولا فلاح إلا بجوار ربه في دار النعيم في الجنة الآجلة، فله جنتان, لا يدخل الثانية حتى يدخل الأولى، وهذه الأشياء الخمسة قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه.
عباد الله: إن محركات القلوب إلى الله -عزَّ وجلَّ- ثلاثة: المحبة وهي أقواها، ويحركها في القلب كثرة ذكر المحبوب، ومطالعة آلائه ونعمائه، فيسير إلى محبوبه الذي يرى كل نعمة منه.
والخوف، المقصود منه المنع والزجر عن الخروج عن الطريق, ويحركه في القلب مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب والنار وأهوالها، والعقوبات التي حلت بالمجرمين.
وأما الرجاء، فيقود الإنسان إلى الطريق, ويحركه في القلب مطالعة الكرم والإحسان، والحلم والعفو، والعطاء والمنّ.
عباد الله: إن قلوب العباد جميعهم بيد الله، فمن أقبل على الله أقبل الله بقلوب عباده إليه فأحبوه، ومن أعرض عن الله أعرض الله بقلوب عباده عنه، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96]. وفي الحديث عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" [البخاري(3209)].
والعاقل -يا إخواني- من يسعى دائمًا لحياة قلبه وصلاحه قبل أن يموت عليه وهو حي، فيصبح حطبًا لجهنم. قال أحد الصالحين: "يا عجبًا من الناس يبكون على من مات جسده, ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد"، فقد يكون الإنسان حيًّا بجسده ميتًا بقلبه, وهنا يجب عليه أن يبحث عن أسباب حياة قلبه لا حياة جسده، أو يبحث على الأقل عمن يرشده إلي حياته؛ لكي يعيش حياة هنيئة.
إن موت البدن يقطعك عن الدنيا وأهلها، لكن موت القلب يقطعك عن الله والدار الآخرة، فشتان ما بينهما، فاحرصوا -أيها الأحبة- على حياة قلوبكم، وسلامتها.
نسأل الله أن يملأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي