سبحان الله (1) معناها، وأهميتها، وحكمها

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. شدة حاجة المؤمن إلى ذكر الله .
  2. التسبيح تنزيه لله عن النقائص .
  3. وجوب إثبات الكمال والجلال والعظمة لله وحده .
  4. تأملات في مواضع ذكر التسبيح في القرآن والسنة .
  5. ضرورة الإكثار من تسبيح الله وذكره عند حلول الفتن .
  6. أهمية التسبيح المقرون بالصبر والتوكل. .

اقتباس

حِينَ تُصِيبُ المُؤْمِنَ هُمُومٌ وَغُمُومٌ، وَتُحِيطُ بِهِ كُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا أَصَابَ أُمَّتَهُ مِنْ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا فِي الْفَزَعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّعَلُّقِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، مَعَ لَهَجِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَهَذَا دَأْبُ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْمِحَنِ وَالْكُرُوبِ؛ فَالِاسْتِغْفَارُ إِقْرَارٌ بِالذُّنُوبِ وَطَلَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهٌ للهِ -تَعَالَى- مِنْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ فِي الْكَوْنِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَإِقْرَارٌ بِحِكْمَتِهِ فِي فِعْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ الْمَحْمُودِ بِأَلْسِنَةِ المُؤْمِنِينَ وَقُلُوبِهِمْ، المُسَبَّحِ بِحَمْدِهِ فِي غُدُوِّهِمْ وَآصَالِهِمْ، المُكَبَّرِ فِي كُلِّ عَظِيمٍ مِنْ شُئُونِهِمْ، المَذْكُورِ فِي كُلِّ أَزْمَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) [الأعراف: 205].

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَصَّهُ المُؤْمِنُونَ بِنُعُوتِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، وَأَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ أَهْلُ الضَّلَالِ (وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَيُعَظِّمُهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَيُسَبِّحُهُ فِي غُدُوِّهِ وَآصَالِهِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَاقْدُرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَنْ يَقْدُرَ عَبْدٌ رَبَّهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَهْمَا عَمِلَ؛ فَشَأْنُ اللهِ -تَعَالَى- أَعْظَمُ، وَقَدْرُهُ فِي وَصْفِهِ وَفِعْلِهِ أَكْبَرُ، وَنِعَمُهُ عَلَى عِبَادِهِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الذَّاكِرِينَ الشَّاكِرِينَ (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزُّمر:7]

أَيُّهَا النَّاسُ: حَاجَةُ المُؤْمِنِ إِلَى الذِّكْرِ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى النَّفَسِ؛ فَبِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- تَحْيَى الْقُلُوبُ كَمَا تَحْيَى الْأَبْدَانُ بِالْهَوَاءِ، وَمِنْ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا نُلْهَمُ نَحْنُ النَّفَسَ؛ فَالتَّنَفُّسُ عَمَلِيَّةٌ اعْتِيَادِيَّةٌ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، لَا يُفَكِّرُ فِيهَا، وَلَا تَشْغَلُهُ كَمَا يَشْغَلُهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ، وَيَتَنَفَّسُ فِي كُلِّ حَالٍ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَنَائِمًا وَرَاقِدًا وَمَاشِيًا وَرَاكِبًا وَخَائِفًا وَآمِنًا وَحَزِينًا وَفَرِحًا، وَفِي كُلِّ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِالنَّفَسِ. وَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ لَذَّةٍ وَنِعْمَةٍ أَنْ يُلْهَمَ الْعَبْدُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُ النَّفَسَ!

وَالتَّسْبِيحُ هُوَ تَنْزِيهُ اللهِ -تَعَالَى- عَنِ النَّقَائِصِ، وَإِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِذَا قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِ صَلَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: «وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَنْزِيهٌ لِلَّهِ -تَعَالَى- سَبَّحَ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَالْوَارِدُ فِي الرُّكُوعِ تَسْبِيحُ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ وَتَعْظِيمٌ.

وَلِأَهَمِّيَّةِ التَّسْبِيحِ فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِ، وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- فَإِنَّهُ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوٍ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا، وَافْتُتِحَتْ بِهِ سَبْعُ سُوَرٍ سُمِّيَتْ (المُسَبِّحَاتِ) وَخُتِمَتْ بِهِ سُوَرٌ أَرْبَعُ، وَجَاءَ بِصِيَغٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَاسْتُخْدِمَ فِيهِ الْمَاضِي (سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [الحديد:1].

وَالمُضَارِعُ (يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [الجمعة:1] وَالْأَمْرُ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ) [الواقعة:74]، وَالمَصْدَرُ (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 91].

وَمَا تَكْرَارُ التَّسْبِيحِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَعْدَادُ صِيَغِهِ إِلَّا لِإِثْبَاتِ أَنَّ التَّسْبِيحَ للهِ -تَعَالَى- هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَدَأْبُهُمْ فِي المَاضِي وَالمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ المُؤْمِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَلَا يَفْتُرُ لِسَانُهُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنِ المَلَائِكَةِ المُسَبِّحِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20].

وَمِنْ عَظَمَةِ التَّسْبِيحِ وَأَهَمِّيَّتِهِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ التَّسْبِيحَ فَيُسَبِّحُوا اللهَ -تَعَالَى- (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفتح: 8-9].

وَالتَّسْبِيحُ -وَإِنْ كَانَ قَوْلًا- فَهُوَ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ مَعَ قَوْلِ اللِّسَانِ، بِأَنْ يَعْتَقِدَ المُؤْمِنُ وَهُوَ يُسَبِّحُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّسْبِيحُ مِنْ تَنْزِيهِ اللهِ -تَعَالَى- وَتَعْظِيمِهِ، مَعَ حُضُورِ قَلْبِهِ أَثْنَاءَ تَسْبِيحِهِ؛ لِيَجْتَمِعَ عَمَلُ الْقَلْبِ مَعَ عَمَلِ اللِّسَانِ فَيَكُونَ التَّسْبِيحُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ الْقَلْبُ انْتِفَاعًا كَبِيرًا.

وَقَدْ يُسَبِّحُ المُؤْمِنُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَيُفْرِدُ التَّسْبِيحَ قَائِلًا (سُبْحَانَ اللهِ) أَوْ (سُبْحَانَ رَبِّي) أَوْ (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ).

وَقَدْ يَقْرِنُهُ بِالْحَمْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة:30]، وَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [الحجر:98]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان:58]، فَالتَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَالتَّحْمِيدُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يُحْمَدُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا.

وَقَدْ يَقْرِنُ المُؤْمِنُ التَّسْبِيحَ بِالتَّهْلِيلِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31] وَفِي دَعْوَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87] فَيَكُونُ التَّهْلِيلُ تَوْحِيدًا، وَيَكُونُ التَّسْبِيحُ تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا.

وَقَدْ يَقْرِنُ المُؤْمِنُ التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنِ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَالمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) [الشُّورى:5].

وَخُوطِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [غافر:55]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النَّصر: 3]، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا وَفِي الرُّكُوعِ وَفِي السُّجُودِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- حِينَ أَمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ مَعَ التَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ.

وَالتَّسْبِيحُ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، لَا يُصْرَفُ إِلَّا للهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَسْبِيحُ مَخْلُوقٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ (سُبْحَانَ اللهِ) كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللهُ -تَعَالَى- لِنَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ -تَعَالَى- قَدْ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لِغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (سُبْحَانَ اللهِ) اسْمٌ لَا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يَنْتَحِلُوهُ.  

وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَكَلِمَةُ (سُبْحَانَكَلِمَةٌ مُمْتَنَعَةٌ، لَا يَحُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا غَيْرُ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ المُبَالَغَةَ فِي التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى".

وَالتَّسْبِيحُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَإِمَّا كَانَ أَمْرَ إِلْزَامٍ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ المُؤْمِنُ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»، فَلَمَّا نَزَلَتْ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

وَنَدَبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى التَّسْبِيحِ المُطْلَقِ، وَالتَّسْبِيحِ المُقَيَّدِ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ الْوَارِدِ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ، وَبَيَّنَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يُرَطِّبَ لِسَانَهُ بِالتَّسْبِيحِ، وَلَا يَفْتُرُ عَنْهُ؛ لِيَنَالَ عَظِيمَ الْأَجْرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) [الحجر: 98-99].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ.... 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ تُصِيبُ المُؤْمِنَ هُمُومٌ وَغُمُومٌ، وَتُحِيطُ بِهِ كُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا أَصَابَ أُمَّتَهُ مِنْ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا فِي الْفَزَعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّعَلُّقِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، مَعَ لَهَجِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَهَذَا دَأْبُ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْمِحَنِ وَالْكُرُوبِ..

فَالِاسْتِغْفَارُ إِقْرَارٌ بِالذُّنُوبِ وَطَلَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهٌ للهِ -تَعَالَى- مِنْ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ فِي الْكَوْنِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَإِقْرَارٌ بِحِكْمَتِهِ فِي فِعْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُرُوبَ وَالْهُمُومَ تُضْعِفُ الْإِنْسَانَ، فَقَدْ يَتَسَلَّطُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ هَذِهِ؛ لِيَقْذِفَ فِي قَلْبِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِاللهِ تَعَالَى؛ فَيَهْلِكَ بِسَبَبِ سُوءِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ التَّسْبِيحُ رِبَاطًا عَلَى الْقَلْبِ يُثَبِّتُهُ فِي المُلِمَّاتِ، وَيَطْرُدُ عَنْهُ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ.

وَلمَّا كَانَ المُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقَوْلِ الَّذِي يُوهِنُ الْقُلُوبَ، وَيَسْتَجْلِبُ الْهُمُومَ، أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالصَّبْرِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَأَذَاهُمْ مَعَ التَّسَلُّحِ بِالتَّسْبيحِ (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130].

وَفِي مَقَامٍ آخَرَ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ وَعْدَهُ سُبْحَانَهُ حَقٌّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى المُؤْمِنِينَ بِالِانْتِصَارِ وَالْفَلَاحِ، وَعَلَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالْخُسْرَانِ، وَلَوْ بَدَا أَنَّ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ أَقْوَى مِنَ المُؤْمِنِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً، كَمَا أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ؛ لِأَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبٌ لِحَجْبِ النَّصْرِ وَلِتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [غافر:55].

وَفِي مَقَامٍ آخَرَ أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ مَعَ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ فِي التَّوَكُّلِ تَبَرُّؤًا مِنَ الْحَوْلِ وَالطَّوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلُجُوءًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان:58].

وَفِي مَقَامٍ آخَرَ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالصَّبْرِ وَالتَّسْبِيحِ مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْفَظُهُ مِنْهُمْ، وَيَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الطُّور: 48-49] وَمَنْ كَانَ بِعَيْنِ اللهِ -تَعَالَى- وَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْتَغْفِرٌ مُسَبِّحٌ فَلَنْ يَرْهَبَ أَيَّ قُوَّةٍ مَهْمَا كَانَتْ، وَلَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ بِمَكْرِ الْأَعْدَاءِ مَهْمَا بَلَغَ.

فَلْنَعْلَمْ -عِبَادَ اللهِ- أَهَمِّيَّةَ التَّسْبِيحِ المَقْرُونِ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذَا الظَّرْفِ الْعَصِيبِ؛ لِيُرْبَطَ عَلَى الْقُلُوبِ فَلَا تَمِيدُ بِالْمِحَنِ، وَتَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ فَلَا تَحِيدُ عَنْهُ إِلَى الْفِتَنِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ... 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي