تذكير الأمةْ بـ(كنتم خير أمة)

خالد بن علي أبا الخيل
عناصر الخطبة
  1. فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  2. الحسبة والاحتساب سبب للنجاة من مصائب الدنيا وعقوبات الآخرة .
  3. ثمرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع .
  4. جهود الهيئة وأعمالها .
  5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الجميع .
  6. عواقب ومفاسد تعطيل الحسبة والاحتساب في المجتمع. .

اقتباس

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصورًا على أحدٍ بعينه من الأشخاص، أو الهيئات، وإنما هو واجب كل مسلم، وكلٌّ على قدر استطاعته بحسب منزلته ومكانته، فالأب مسئول عن أسرته وأهله وأولاده، والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والإمام في إمامته، والتاجر في سوقه، والخطيب في خطبته، وكلٌّ على ثَغر، وكلٌّ راعٍ ومسئول عن رعيته، بل المسلم حيثما حل ووقع أفاد ونفع.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي شرَّف هذه الأمة فجعلها خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران:110]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "أنتم خير أمة: -صلى الله عليه وسلم- وبارك على نبي الملحمة والرحمة وسيد الأمة.

أما بعد: عباد الله: فاتقوا الله –جل في علاه-.

ويا إخوة الملة والدين، لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: القطب الأعظم في الدين والمهم الذي ابتعث الله له النبيين وبه استقامة العباد وصلاح البلاد؛ جعله الله علامة بارزة وصفة لازمة لعباده المؤمنين، فقال في كتابه المبين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [التوبة:71].

 وندب إليه عباده وجعل الفوز والفلاح حليفه، فقال سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، ووصف الأمة بالخيرية إذ هي قامت به (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران:110].

 وأثنى على أمة الإسلام، وجعلهم من الصالحين، وجعل من أسمى صفاتهم وأبرز خصالهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 113-114].

 وامتدح سبحانه القائمين به فقال عز اسمه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [التوبة:112]، ثم قال: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:112].

 والقيام به سبب للنجاة من مصائب الدنيا وعقوبات الآخرة، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].

 وتركهما سبب للعن والترك وحلول النقم والعقاب في الدنيا والآخرة، فقال –عز وجل-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].

وجعل سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فارقًا بين المؤمنين والمنافقين، فقال في وصف المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [التوبة:71]، وقال في وصف المنافقين: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة:67].

 وقدَّمه على الصلاة والزكاة، فقال سبحانه -جل في علاه-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [التوبة:71]، فتقديمه يدل على عظم شأنه وعلو درجته، والتمكين في الأرض لأهله القائمين به، والنصر للمتصفين به، فقال سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)[الحج:40-41]

ومن أسباب الرحمة والقيام به ففي أوصافهم: (أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) [التوبة:71]، فتحقيق هذه الشعيرة والقيام بهذه الوظيفة به حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب وصلاحٌ وإرضاء لعلام الغيوب، فيكثر الخير وينتشر، ويضمحل الفساد ويقتصر.

وبإضاعته تكون العواقب الوخيمة، والكوارث العظيمة، والشرور المستطيرة، وتركه سبب لتفرقة الأمة وقسوة القلوب فتظهر الرذائل ويظهر صوت الباطل وقبيح الخصائل، وبالقيام به حفظ للضروريات الخمس في الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، أما إذا عُطلت رايته، وقل العامل به ترتب على ذلك الهلاك والعذاب (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، وعندها تحل اللعنة، وتقع العقوبة كما في الآية السابقة (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [المائدة:78-79].

وعند الترمذي عن حذيفة مرفوعًا: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَ بالْمعرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهِ، ثُمَّ تَدْعُونَّهُ فلا يَسْتَجابُ لَكُمْ".

 وفي حديث زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث" (متفق على صحته).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينان لا يفترقان، والبعض يأمر بالمعروف فقط، فيرغِّب ولا يرهِّب، والنصوص جاءت بالخوف والرجاء والرغبة والرهبة، والأمر والنهي والإنذار والتبشير.

أيها المسلمون: (الأقربون أولى بالمعروف) أمرًا ونهيًا، فيجب أمر الأولاد والأزواج والجيران والأصحاب والزملاء وهو من الحقوق العامة لجميع الأمة، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران:110].

أيها الإخوة في الدين: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر عاقبته حميدة، فيه حياة القلوب، وصلاح الأحوال، وكثرة البركات، ونجاة المجتمعات، وعز الطاعة، وذل المعصية، والأمن والأمان والراحة والاطمئنان.

إن بعض الناس -هداهم الله- شابوا وشاخوا وليس لهم منه نصيب، ولا في العمل بسهم للبعيد والقريب، والواجب النصيحة والدعوة والأمر والنهي، والقدوة.

إخوة الإسلام: أرأيتم لو أن فردًا أُصيب بمرض عُضال في جزء من جسمه فأهمله، أليس ينتشر المرض في جسده كله فيعسر علاجه ويتعذر شفاؤه؟

فكذلك المنكر –عباد الله- إذا ظهر وتُرك فلم يُغيَّر، فإن الناس يستمرءونه عليه وينشئون فيعسر عندئذٍ تغييره وإزالته فتعم المنكرات وتنتشر الفواحش وتغرق السفينة، ومن شب على شيءٍ شاب عليه.

ولهذا ضرب الرسول أروع الأمثلة وأبين وأصدق عبارة، وعند البخاري وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير –رضي الله عنهما- مرفوعًا "مثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا لم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا".

ولو تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتعطلت آثار النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، واستشرى الفساد وخربت البلاد.

إن هذه الشعيرة العظيمة: سببٌ لحياة الأمة وسعادتها الأخروية، من سعى لإحيائها فاز عند الله بالحظ الأكبر وظفر بالنصيب الأجزل الأوفر، هذه الشعيرة من أجمل الخصال وأشرف الأعمال وأحسن الأقوال، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ) [فصلت:33]، القائم بها خليفة الأنبياء وقدوة العلماء، لا تستقيم الحال والمآل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيد السفهاء قبل الاستفحال والوباء.

لو أُنكر المنكر لم يشتهر بين *** الورى فسق وعصيانُ

لو دُفع الباطل بالحق لم يعـ *** ـمل لذي الباطل بنيانُ

والخيرية منوطة بصلاح البرية، ولما قيل للإمام أحمد: فلان يُنكر ويُغير، قال: "ما زلنا في خير وفينا من ينكر"، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]، قال ابن عقيل: "لو سكت المحقون ونطق المبطلون، لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا".

وقال بلال بن سعد: "إن المعصية إذا خفيت لم تضرَّ إلا صاحبها، وإذا أُعلنت ضرَّتِ العامة"، والمانع والحائل من نزول العذاب هو الإصلاح، لا مجرد الصلاح، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117]، وكما في الحديث السابق: "أنهلك وفينا السابقون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث".

أيها الإخوة المباركون: الآمرون بالمعروف وللمنكر ناهون، الهيئة ورجال الحسبة رمز هذه المملكة، وشعار هذه الدولة هم صمام الأمان، وحفظ البلدان، وصيانة الإنسان، وحفظ أعراض النساء وحماية الأبناء، فكم ابتزازٍ في مهده قضوا! وكم خمرٍ أهدروا! وكم معاكس نصحوا! وكم تاركٍ للصلاة ومتساهلٍ نبهوا! وكم فتاة كاد عرضها يضيع فوقفوا معها في حصنٍ منيع! وكم شاب تائهٍ كاد أن يهلك فأوقفوه عن المهلك! وكم ضالٍ غاوٍ كانوا سببًا لهدايته وحمايته واستقامته!

فجهودهم مشكورة، وأعمالهم مستورة، ونصائحهم مبذولة بالحكمة، والموعظة الحسنة، والستر والسر والوقاية، وليسوا معصومين ومن الخطأ محجوبين؛ ولكنهم في جهاز دولتنا في رقي وفهم وثقافة وعلم، كيف ووظيفتهم مستمَدة من الكتاب والسنة، ولهم كيانٌ ومقام عند الدولة فهي جهات محسوبة ووظيفتها رسمية محكومة، فلا غرو أن تجد لها الشانئين وآخرين مغرضين وثالثين متربصين، ورابعين منافقين وكتابٍ معارضين؛ لأنهم يحولون بينهم وبين ما يشتهون، لأنهم يحولون بينهم وبين ما يشتهون.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفورًا رحيمًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله لا رب سواه، أحمده جل في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ومصطفاه.

 أما بعد: أحبتي في الله: فقد أشاد علماء الإسلام، والأئمة الكرام عند هذا الركن بأبلغ كلام:

يقول ابن عقيل في الفنون: "من أعظم منافع الإسلام وآكد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح، فهذا أشق ما يحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات ويمقتوه أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع"، إلى أن قال: "ولو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا".

ويقول الغزالي: "فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وانتشرت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يُشعر بالهلاك إلا يوم التناد".

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو من الدين".

وقال الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان: في كلامٍ جميلٍ وتلخيصٍ نبيل: "الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:

الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال سبحانه: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].

الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالح القوم الذي اعتدى بعضهم في السبت (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) [الأعراف:164]، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)[الذاريات:54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملومًا.

الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف:164]، وقال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، انتهى كلامه.

وقال النووي -رحمه الله-: "وهو باب عظيم به قوام الأمر ومِلاكه، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله أن يعتني به فإن نفعه عظيم"، انتهى.

وقال حمد بن عتيق -رحمه الله-: "فلو قدر أن رجلًا يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمعَّر وجهه، ولا يحمر، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دينًا، وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه". انتهى.

عباد الله: قيام العبد بهذا المنهج القويم، ودعوة الناس إلى صراط الله المستقيم، وتحذيرهم وتنبيههم من مزالق الهلاك والدمار هو النصح الصحيح، وهو من أفضل العمال، وأحسن الخصال: وهو محض الإخوة الدينية، وحب الخير للبشرية.

أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصورًا على أحدٍ بعينه من الأشخاص، أو الهيئات، وإنما هو واجب كل مسلم، وكلٌّ على قدر استطاعته بحسب منزلته ومكانته، فالأب مسئول عن أسرته وأهله وأولاده، والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والإمام في إمامته، والتاجر في سوقه، والخطيب في خطبته، وكلٌّ على ثَغر، وكلٌّ راعٍ ومسئول عن رعيته، بل المسلم حيثما حل ووقع أفاد ونفع.

"مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى منه عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالْحُمَّى والسَّهَرِ"، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق.

ووالله يا عباد الله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:3]، ووالله يا عباد الله لو كلٌ قام بهذه الشعيرة فيمن حوله ومن تحت يده لصلحت الأحوال، واستقامت الأمور، واضمحل الشر والفساد، لكن المصيبة إما عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التثبيط عن ذلك، أو أن هذا من التدخل في شئون الآخرين وخصوصياتهم أو عبارة: مالي وماله، أو القائم به فضول، أو يتدخل فيما لا يعنيه، أو لست مكلفًا، أو عليك بنفسك، أو عليك بخاصة نفسك.

هذا ويجب على الآمر والناهي أن يكون عالمًا فقيهًا فيما يأمر وينهى، فيأمر على بصيرة وعلى نور فقبل أن يقدم ويقول ويعمل ويسهم يكون عارفًا عالمًا.

ومن جميل تراجم إمام المحدثين البخاري في صحيحه: باب العلم قبل القول والعمل، وكذا يكون رفيقًا حال أمره ونهيه، رحيمًا مشفقًا في توجيهه ونصحه على حسب منازلهم ودرجاتهم وأحوالهم، وثالثًا حليمًا، صابرًا فيما يعرض له من الأذى، محتسبًا الأجر من رب الأرض والسماء، ويجب كذا النظر في العواقب وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد.

ومن القواعد المقررة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وكذا من القواعد ما ينبغي أن يعلمه كل قائمٍ وقاعد: ألا ينكر منكر فيترتب على إنكاره أكبر وأعظم منه.

وثالث الفوائد من تلك القواعد: ارتكاب أدنى المفسدتين، وأقل الضررين لدفع أعلاهما.

ورابعها: الوقاية خير من العلاج، والدفع أسهل من الرفع.

وخامسها: النصيحة سرًّا، فالمؤمن يصلح وينصح، ويسر ولا يفضح.

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله..

يا خير مولود تعاظم فخرهُ *** وأتى بأشرف ملة وكتابِ

صلى عليك الله يا خير الورى *** ما انْهل في الآفاق قطْرُ سَحابِ

والله أعلم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي