فأما الأول وهو الصبر على طاعة الله فمما لا شك فيه أن في الطاعة مشقة؛ ففي الصلاة إتعاب للبدن وحرمان من النوم، وفي الصوم مشقة الجوع والعطش ومنع النفس من تناول شهواتها، وفي الصدقة بذل للمال المحبوب إلى النفوس، وفي الجهاد تعرض للخطر بالقتل والجراح، وهذه المشاق لا تلائم رغبة النفس لأنها ميالة إلى الراحة، شحيحة بالمال، حريصة على الحياة والبقاء والشيطان يخذلها ويكسلها فهي بحاجة إلى الصبر الذي تستطيع به الثبات على الطاعة وتحمل المشقة
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، أمر بالصبر وأثنى على الصابرين ووعدهم أجراً عظيماً، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكفى بالله عليماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى في جميع أحوالكم واصبروا على ما ينالكم، فإن الإنسان في هذه الدنيا يبتلى بالخير والشر فهو بحاجة إلى الصبر ، ولقد ذكر الله الصبر في القرآن في تسعين موضعاً وهو نصف الإيمان –فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر.
والصبر هو حبس النفس؛ وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فأما الأول وهو الصبر على طاعة الله فمما لا شك فيه أن في الطاعة مشقة؛ ففي الصلاة إتعاب للبدن وحرمان من النوم، وفي الصوم مشقة الجوع والعطش ومنع النفس من تناول شهواتها، وفي الصدقة بذل للمال المحبوب إلى النفوس، وفي الجهاد تعرض للخطر بالقتل والجراح، وهذه المشاق لا تلائم رغبة النفس لأنها ميالة إلى الراحة، شحيحة بالمال، حريصة على الحياة والبقاء والشيطان يخذلها ويكسلها فهي بحاجة إلى الصبر الذي تستطيع به الثبات على الطاعة وتحمل المشقة كما أنها بحاجة إلى الإيمان الذي تدرك به حسن عاقبة الطاعة فيسهل عليها تحمل المشاق طعماً بحسن العاقبة، وربما يعتاد الطاعة بعد ذلك ويألفها ويتلذذ بها ولا يصبر عنها بعد أن كان في الأول ينفر منها ويحتاج إلى الصبر عليها.
والصبر على طاعة الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
صبر قبل فعل الطاعة، وهو الصبر على إخلاص النية لله وترك الرياء فيها.
وصبر في أثناء أداء الطاعة بأن يؤديها على الوجه المشروع بأركانها وواجباتها وسننها بحيث يتقنها ولا ينقص شيئاً من أحكامها.
وصبر بعد أداء الطاعة بأن يصبر على كتمانها وعدم إفشائها طلباً للرياء والسمعة وعن إتباعها بما يبطلها كإتباع الصدقة بالمن والأذى.
وأما الصبر عن معصية الله؛ فمن المعلوم أن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فهي ميالة إلى تناول شهواتها ولو كان في ذلك مضرتها وسوء عاقبتها، والشيطان يزين لها ذلك فإذا لم يمسكها صاحبها بزمام الصبر جمحت به إلى حظيرة المحرمات، وحينئذ يصعب عليها استرجاعها، فحبسها عن المعصية من الأول –وإن كان فيه مشقة- أسهل من استرجاعها بعد أن ترتع في الشهوات واقتلاعها بعد أن تغوص في أوحالها.
ومما يعينه على الصبر عن المعصية شيئان:
الأول: النظر في العاقبة وسوء المصير، فإن الصبر عن لذة عاجلة أسهل من الوقوع في نار حامية- فإذا قارن العاقل بين اللذة العاجلة والفانية وبين الخسارة والحسرة الآجلة الباقية فإنه يدرك الفرق الذي يحمله على الكف عن المعصية.
الشيء الثاني: الحياء من الله تعالى الذي خلقه وأنعم عليه ونهاه عن معصيته، فكيف يبارزه بفعل ما نهاه عنه وهو مطلع عليه في كل أحواله وجميع تصرفاته؟! فإن العبد إذا استحضر ذلك ترك المعصية حياء من الله كما قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات 40: 41] ثم لو تأمل العبد أحوال العصاة في الدنيا وما هم فيه من ذلة وانحطاط نفسي وفكري ونظر الناس إليهم بعين الاحتقار لكفاه ذلك زاجراً عن الوقوع في المعاصي.
وأما الثالث: من أنواع الصبر –فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة بما يجري على العبد من المصائب، وهو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والندب والنياحة، وحبس الجوارح عن الأفعال المحرمة كلطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية. والصبر على ذلك يكون فور نزول المصيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصبر عند الصدمة الأولى"- وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصابرين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة 155: 156] فواجب المؤمن أن يصبر على ما يصيبه.
ويسهل عليه الصبر على ذلك أمور:
منها إيمانه بقضاء الله وقدره وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد :22]
ومنها: طمعه في الجزاء الحسن من عند الله وحسن العاقبة فقد وعد الله الصابرين على المصائب بعظيم الجزاء فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155: 157]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء" ومن الأمور التي تعين على الصبر على المصائب انتظار الفرج بزوالها- قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح 5: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً".
ومما يستعان به على الصبر على المصائب تذكر نعم الله على العبد، فإن لله على العبد من النعم أكثر وأكثر مما فقد في المصيبة، فإذا تفكر في ذلك هانت عليه المصيبة وعرف فضل الله عليه.
كما أن على المصائب أن يعلم أن ما أصابه بسبب ذنوبه –قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى :30] فإذا تذكر ذلك أوجب له التوبة والخوف من عقوبة أشد فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. وعلى كل فالصبر شأنه عظيم وفضله كبير، قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران :186] وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]
وقد أمر الله به، وأثنى على أهله وبشرهم، ووعدهم أن يوفيهم أجرهم بغير حسا، ووعدهم بالنصر والإمامة في الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" ثم تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24] اللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين، وعند النعماء من الشاكرين اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي