وأعَدّ -جل وعلا- لمن أطاعه جنة عرضها السماوات والأرض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)" [السجدة:17].
الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد عباد الله: فاتقوا الله حق التقوى.
معاشر المؤمنين: خلق الله الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وابتلاهم بهذه الحياة ليختبر إيمانهم، وصدق طاعتهم لربهم، قال -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2].
وأعَدّ -جل وعلا- لمن أطاعه جنة عرضها السماوات والأرض، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)" [السجدة:17].
أسأل الله -جل وعلا- أن نكون من أهل الجنة بفضله وكرمه، لا بأعمالنا القاصرة الضعيفة.
عباد الله: من هم أهل الجنة؟ يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107]، ويقول -تعالى-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [البقرة:25]، ويقول: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [آل عمران:15]، ويقول: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء:13]، والآيات في ذلك كثيرات واضحات في كتاب الله.
لقد أعد الله للجنة ثمانية أبواب، كل باب منها مخصص لصنف من المؤمنين يُدْعون للدخول منه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "... فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَة أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ..." رواه أحمد.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
عباد الله: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون مما تشتهي أنفسهم، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت:30-31]، وقال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:17-19]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المرسلات:41-43]، وقال -عز وجل-: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف:70-73].
وهم في تحصيل أكلهم وشرابهم لا يتعبون ولا ينصبون، بل يأتيهم رزقهم وهم جالسون مستريحون، قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:19-24]، وقال -تعالى-: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة:27-33].
ولهم خدم مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور، يطوفون عليهم بأكواب من فضة يملؤونها من عيون الجنة الصافية الطيبة، كما قال -تعالى-: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) [الإنسان:15-19].
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ"، قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: "جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ".
قال -جل وعلا-: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [محمد:15].
أما ملابس أهل الجنة: فقد قال الله -تعالى-: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف:31]، وقال: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ) [الدخان:53]، وقال -تعالى-: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) [الإنسان:21]، وقال -سبحانه-: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج:23].
وأما نساؤهم، فقد وعدهم ربهم بزوجات باهرات الجمال، حسنات الأخلاق، طاهرات مطهرات، قاصرات الأطراف، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [الدخان:54]، وفي وصفهن قال: (عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة:37-38]، وقال: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن:56]، وقال: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن:58].
لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً وعطراً وشذى، ولطمست ضَوْءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم.
حورٌ عِين، راضياتٌ لا يسخطن أبداً، ناعمات لا يبأسن أبداً، خالدات لا يزُلْنَ أبداً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ -يَعْنِي سَوْطَهُ- خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" رواه البخاري.
عرش الرحمن سقف الجنة، والمسك والزعفران تربتها، واللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنهم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ: مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: "لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلهَا يَنْعَم وَلَا يَبْأَس، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ".
يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمداً، تحيون ولا تموتون أبداً، وتَصِحّون ولا تمرضون أبداً، وتشبون ولا تهرمون أبداً، وتنعمون ولا تبأسون أبداً، يحل عليكم رضوان ربكم فلا يسخط عليكم أبداً. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر:73-74].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، إنها دعوة من الحي القيوم، ورسالة من رب كريم، لسكنى دار الخلد وجنة المأوى، الحياة فيها رضية، والعيشة فيها سعادة أبدية.
عباد الله: إن ما سمعتم من أوصاف الجنة ما هو إلا جزء يسير جداً من نعيمها، ولا نستطيع -بل يستحيل- أن نقدر قدرها، وكيف يُقدَّرُ قدر دارٍ غَرَسَها الرحمنُ بيده، وجعلها مقراً لأحبائه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، ومُلْكَها بالمُلْكِ الكبير.
فالجنة قُرَّةُ عيونِ المحبين، ومحطُّ أشواقِ قلوبِ العارفين، أسهروا ليلهم في سبيلها، وأظمؤُوا نهارهم من أجلها، وبذلوا كلَّ غالٍ ونفيسٍ مهراً لها، فالطريق إلى الجنة يحتاج إلى زادٍ من التقوى، وعمل متواصل من الخير، وجهد مبذول في سبيل الله، وجهاد دؤوب للشيطان، وعِراك مستمر مع النفس والهوى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" رواه مسلم.
فاجتهدوا -عباد الله- في طلب الجنة، فقد قال -تعالى-: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]
كيف لا يكون فائزا وهي دار فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ أهلها أبناء ثلاث وثلاثين على صورة آدم -عليه السلام-، على صورة القمر.
أعظم نعيم يتنعمون به رؤية الله -جل وعلا-، يجتمعون في الوادي الأفيح، ويأمر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه فينصب، حتى إذا استقرتْ بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟ ألم يُبيّضْ وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله، وتقدست أسماؤه، قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة: سلام عليكم. فلا تُردّ هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلامُ، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- يضحكُ إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكونُ أول ما يسمعون منه -تعالى-: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، فهذا يومُ المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي. هذا يوم المزيد فسلوني. فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب -جل جلاله- الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله -سبحانه وتعالى- قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا.
فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم! ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة! (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) [القيامة::22-25].
هؤلاء هم أصحاب الجنة، (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات:17-19]، بربهم يؤمنون، وهم من خشيته مشفقون، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. لأماناتهم وعهدهم راعون وبشهاداتهم قائمون، كثر استغفارهم فحطت خطاياهم.
فيهم الشهيد المحتسب، والعفيف المتعفف، والضعيف المتواضع، فيهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فيهم صاحب القرآن، وفيهم تارك المراء ولو كان محقاً، وتارك الكذب ولو كان مازحاً، فيهم من أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، فيهم من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
فاتقوا الله -رحمكم الله- وبادروا وشمروا، واعملوا وأحسنوا وأبشروا.
فإن ضاقت الدنيا عليـك بأسرها *** ولم يك فيها منـزلٌ لـك يُعلـمُ
فحـي على جنـات عـدن فإنها *** منازلـك الأولى وفيهـا المخيـم
وأقدم ولا تقنع بعـيش منغـص *** فما فاز باللـذات من ليـس يقدم
ولكننا سبي العـدو فهـل تـرى *** نعــود إلـى أوطاننـا ونسلّـم
وقد زعموا أن الغـريب إذا نـأى *** وشطت به أوطانـه فهـو مُغـرَم
وأي اغتراب فـوق غربتنـا التي *** لهـا أضحت الأعـداء فينا تَحكّمُ
وحيَّ على يـوم المزيـد الذي به *** زيـارة رب العرش فاليوم موسـم
فيا بائعـاً هـذا ببخـسٍ معجلٍ *** كأنـك لا تدري، بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تـدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تـدري فالمصيبة أعظـم
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونسألك أن لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، يا رب العالمين.
عباد الله: صلوا على المبعوث رحمة للعالمين؛ فقد أمركم ربكم بذلك في كتابه المبين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي