يوم فارق في حياة الموظفين ‘التقاعد‘

عمر بن عبد الله المقبل
عناصر الخطبة
  1. إحصائية حول عدد المتقاعدين .
  2. قانون التقاعد ما له وما عليه .
  3. التقاعد الوظيفي لا يعني التوقف عن العمل .
  4. استغلال مرحلة التقاعد بالأعمال الصالحة .
  5. تنوع العبادات تبعا لاختلاف أحوال الإنسان .
  6. مضاعفة العطاء قبل وبعد مرحلة التقاعد .
  7. بلوغ مرحلة التقاعد نذير بقرب الأجل .

اقتباس

هذا التصنيف الوظيفي "متقاعد، وغير متقاعد" فرضتْه أنظمةُ العمل؛ ليَحُل موظفٌ بدل موظف آخر، ولكنه ليس حُكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيفٌ لا يَصح أبداً أن يَسري إلى بقيةِ حياةِ المتقاعد...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...

أما بعد:

فهذا اليوم -الأول من رجب- يمثل منعطفاً تاريخيًا في حياة كثير من الموظفين؛ إنه يوم الإحالة على ما يُعرف ب"التقاعد".

وقد بلغ عددُ المتقاعدين في العام المالي المنصرم: أكثر من 42000 ألف موظفٍ حكومي، انظَمُّوا إلى نحو نصفِ مليون موظفٍ حكومي سبَقوهم في هذا الطريق حسب الإحصاءات الرسمية [المصدر: الموقع الرسمي لمصلحة التقاعد على الشبكة: http://www.pension.gov.sa].

إنهم فئةٌ تستحق أن نتحدث إليها، وأن نتذاكر معها ما هي عالمةٌ به، فالانتفاع بالذِّكرى ليس له سنٌّ معيَّن، ولا زمنٌ مؤقّت.

أيها الإخوة: المؤكَّد أن "التقاعُد" مرحلةٌ نعيش جوّها، إما ببلوغها أو بالعيش مع مَن بَلَغها؛ لتمضي سُنّة الحياة، ضَعْفٌ ثم قوةٌ ثم ضَعف، جيلٌ يَعقبه جيل، لتتم سُنة الاستخلاف، وعمارة هذه الأرض.

هذا التصنيف الوظيفي "متقاعد، وغير متقاعد" فرضتْه أنظمةُ العمل؛ ليَحُل موظفٌ بدل موظف آخر، ولكنه ليس حُكماً على الإنسان بالموت، ولا منعاً له من العطاء في ميادين أخرى، فهو تصنيفٌ لا يَصح أبداً أن يَسري إلى بقيةِ حياةِ المتقاعد.

ولنا -في هذا المقام- وقفاتٌ عابرات:

الوقفة الأولى: إن لكلِّ مرحلةٍ من العُمر جمالها، فالتقاعد عن العمل الرسمي هو في حقيقته انتقالٌ من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى من العطاء، والعمل، إذ لا توقف في حياة العبد: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 37].

وصاحب الهمّة العاليةِ إذا بلغ هدفاً بحث عن هدفٍ آخر مثلَه أو أعلى منه ليَصل إليه، ولا يوقّفه عن السباق إلى مجدِ الدنيا والآخرة إلا توقفُ نفَسِهِ، فإذا توقفتْ دورةُ الدوام الرسمي، فلن تتوقف عجلةُ النفع والانتفاع، بعمل صالح، وصدقةٌ جارية، أو بذل جاهٍ، ونحو ذلك.

لذا يجب أن يُفهم كلامُ العلماء -الذين يتحدثون عن الاستعداد للآخرة- على وجهه، فحينما يؤمَر صاحبُ هذه السِّن بالذات بالإقبال على الله -تعالى-، والدار الآخرة، فهذا لا يَعني صورةً محدّدة من الطاعة، فالعبادات "كالصلاة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والصدقة، والصيام، والحج والعمرة" كلها ألوانٌ من القربات، والجهاد بالمال والنفسِ لونٌ من ألوانِ القربات، والتصدي لحل مشكلاتِ الناس لونٌ، والشفاعة لمن يحتاجها عند المسؤولين لونٌ، المهم أن يجتهد في عمارةِ وقته بكل قربةٍ يستطيعها، وهذا ما فهمه أهل الإيمان من الأوائل والأواخر.

مَنْ منا لا يَعرف ذلك الشيخ الذي ضعُفت قواه، وقارب التسعين، ويدير أعمالاً أثقلت كاهل عشرات الشباب، ولكنه يعمل بروحٍ لا تعرف الكَلل، دأب في العلم والعمل، ونفعِ الخلق حتى آخر لحظة من لحظات حياته؟ إنه الشيخ الإمام عبد العزيز ابن باز -رحمه الله-!

لم يكن سببُ ذلك -كما يظن البعض- علميةُ الشيخ، فمِن العلماء مَن يصيبه ما يصيب كثيراً من الناس بسبب طريقة نظرته لهذه المرحلة، فالقضيةُ هي حياة الروح، وحملُ الهم، وتربيةُ النفس على العمل للآخرة في كل وقت.

وأعرف رجلاً بلغ الثمانينَ يحمل شيئاً يسيراً من العلم، فبعد أن تقاعد قرّر أن يبلغ ما معه مِن العلم اليسير، أخذاً بحديث: "بلّغوا عني ولو آية" [صحيح البخاري ح(3461)]، فطاف البلاد، وهو شيخٌ كبير يُقاد بعربة، حتى توفاه الله، رحمه الله رحمةً واسعة.

وأعرف رجلاً قرّر أن يحفظ القرآنَ بعد أن تقاعد فحقَّق مرادَه؛ إنها حياة الروح!

وإذا كانت النفوسُ كبارا *** تَعبت في مرادها الأجسامُ

الوقفة الثانية: بلوغ هذه السن نعمةٌ عظيمةٌ من الله ينبغي شكرها واستثمارُها؛ فإن الفَسْحَ في أَجَلِ المؤمن خيرٌ له، فهو فرصةٌ للتزوّد من الأعمال الصالحة -الدينية والدنيوية-.

دخل سليمانُ بن عبد الملك المسجد، فرأى شيخاً كبيراً، فدعا به، فقال: يا شيخ! أتحب الموت؟ قال: لا، قال: ولم؟! قال: ذهب الشباب وشرّه، وجاء الكِبَر وخيرُه، فإذا قمتُ قلت: بسم الله، وإذا قعدتُ، قلت: الحمد لله! فأنا أُحِب أن يبقى لي هذا [تاريخ دمشق لابن عساكر (68/ 173)].

فانظر كيف قلبَ هذا الشيخُ نظرتَه للحياة، فقد نظر إليها نظرةً إيجابية، فهي فرصةٌ للتزود، ومَلء خزائنِ الآخرةِ بمثل هذه الأذكار التي تدل على تعلّقٍ بالله.

ولما وقعتْ إحدى الفتن -في زمان التابعين- قال أحدهم لصاحبه: يا فلان! طاب الموت؟! فقال له: "يا ابن أخي! لا تفعل، لساعةٌ تعيش فيها تستغفر الله، خيرٌ لك مِن موتِ الدهر" [العمر والشيب لابن أبي الدنيا (ص: 57)].

ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمني الموت بسبب ما يصيب الإنسان من مصائب وآلام، كما في كما في صحيح مسلم قال: "لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً" [صحيح مسلم ح(2682)].

الوقفة الثالثة: بلوغ هذه المرحلة يعني تجاوز سن الأشد -وهو الأربعين- بعشرين سنة، وهذا ما يجعل العبد المؤمن يفكر كثيراً في نصيبه من هذه الآية الكريمة: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15].

قال بعض المفسرين: "وفي هذا دليل على أن اشتغال الإنسان بطاعة الله يقوى في هذا الوقت، ففي الأربعين تناهى العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه" [تفسير القرطبي (14/ 353)].

الوقفة الرابعة: ديننا دينٌ عظيم، فلم يقصر العبادة على لون معين، أو طريقة خاصة، بل قد جعل الله فرصاً في التعبد تناسب أحوال الإنسان من صحة ومرض، وحل وترحال، وقوة وضعف، سأل رجلٌ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن شرائعَ الإسلام قد كثرت عليّ؛ فدلني على عمل أتشبث به؟ فيقول له الناصح الرحيم صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله -عز وجل-" [رواه الترمذي، وأحمد، وسنده صحيح].

وأَجَلُّ أنواع الذكر: القرآن، ونِعم الصاحبُ هو للشيب والشباب، ولكنه في حق الشيب له شأنٌ آخر!

الوقفة الخامسة: ما أجمل العطاء، وفي مثل هذه السن خصوصاً! إنه يُنبئ عن فقهٍ صحيح لحقيقة هذا المال الذي عما قريب سينتقل إلى الورثة: "فمَالُ الإنسان ما قَدَّمَ، ومالُ وارثِه ما أخَّرَ" [صحيح البخاري ح(6442)] كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فإن كنتَ ممن وسّع اللهُ عليك، ورزقك من فضله؛ فكم هو جميلٌ أن تبادر إلى تثبيت صدقةٍ جارية لك، يمتد أثرُها لك من بعد موتك..بادر بها أنت الآن، فلعلك ترى ثمرتَها قبل أن تموت، ولا تُمهل، وتقول: سأوصي الأولاد أن ينفّذوها، فخيرُ البِر عاجلُه، والوصية قد يَعتري تنفيذَها ما يعتريه، والإنسانُ عندما يريد السير في طريقٍ مظلمة فإنه يجعل السراج أمامَه لا خلفه.

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الوقفة السادسة: تجاوُز الستينَ من العمر، يعني الدخول إلى معترك المنايا، ففي الترمذي وغيره -بسند حسن- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" [سنن الترمذي ح(3550)].

وأبلغ من هذا: ما ثبت في البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعذر الله إلى امرئ أخّر أجلَه حتى بلّغه ستين سنة" [صحيح البخاري ح(6419)].

ومعنى: "أعذر الله" "أي: أزال الله عذره، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية" [ينظر: عمدة القاري (23/ 36)].

"وإنما كانت الستون حداً لهذا؛ لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع، وترقّبِ المنية، فهذا إعذارٌ بعد إعذار، لطفاً من الله بعباده" [ينظر: شرح صحيح البخارى، لابن بطال (10/ 152)].

اللهم متّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقُوَانا، أبداً ما أبقيتنا.

اللهم اجعلنا ممن طال عمرُه، وحسُن عملُه.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي