ألا وإن من أعظم ما تعمر به الأوطان، وتستقر به البلدان، ويأمن به الناس على أمور معاشهم: تقوى الله، وطاعته، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم طاعة ولي الأمر الشرعي، فطاعته قربة وطاعة، وفي الخروج عليه مفسدة وفتنة.
أيها المؤمنون: لقد جاءت الشريعة الإسلامية موافقة لمقتضى العقل والنقل، شريعة سمحة غراء، محققة لمتطلبات النفس البشرية، والجبلية الفطرية، ومن ذلك سعيها لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ؛ والتي أقرتها كل الشرائع السماوية، وجاءت برعايتها والمحافظة عليها.
ولما زلت أقدام كثير من الناس في مواطن الشرك والفرقة والتناحر، وانتشار قتل النفس بغير حق، والتعدي على الأعراض والأموال بغير حق، كان لزاماً معرفة مكمن الخلل.
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب [في مسائل الجاهلية]: "وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين أنه قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولّاه أمرَكم"، ولم يقع خللٌ في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها".
ولعظيم شأن سياسة الناس واجتماعهم، وأن هذا الدين، وعمارة الدنيا، لا تقوم مع الفوضى، واختلال الأمن، جاءت النصوص الدالة على وجوب تنصيب الأئمة والأمراء الذين من أعظم مهامهم إقامة الشريعة، وحفظ الأمن، وبهم تتحقق مقاصد كثيرة من مقاصد الشريعة.
ففي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت بنو إسرائيل تَسوسهم الأنبياءُ، كلما هلك نبيٌّ خلَفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببَيعة الأول فالأول، أعطُوهم حقَّهم؛ فإن الله سائلُهم عما استرعاهم" متفق عليه.
أيها المؤمنون: ألا وإنه من المقرر عقلا وشرعا أنه لا تستقر أحوال أي مجتمع دون وجود حاكم وولي أمر شرعي، يُقيم القسط، وينشر العدل، ويحوط الأمة في دينها ودنياها.
ومن سمات الشريعة: التوازن في العلاقة بين الراعي والرعية، وهذا منهج شرعي قويم، إذ لما أوجبت الشريعة على الراعي واجبات عديدة، فرضت له في مقابلها حقوقًا على رعيته، وكذا، لما أوجب الشرع على الأمة طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله -تعالى-، فإنه أوجب للرعية على ولاة الأمور حقوقًا.
وعندما يحدث الخلل، ويبحث كلٌّ عن مصالحه وينسى واجباته؛ تصيب الأمة كوارث ومحن، وإن من أسباب كثير من الاضطرابات والفتن التي يعجّ بها العالم من حولنا: الأنانية، والتطفيف، وعدم أداء الواجبات قبل البحث عن الحقوق.
ويتجلى ذلك عندما ينظر الحاكم إلى أمته نظرة استعلائية، وفي المقابل تنظر الشعوب إلى حكامها نظرة احتقار وازدراء.
ومما يزيل بعض أسباب هذا التنازع أن يحرص كل من الحاكم والمحكوم على أداء واجباته قبل أن يبحث عن حقوقه.
ولما كان مبدأ السمع والطاعة شاقاً على النفوس مع وجود المعصية أو الظلم من الأئمة، جاءت الأحاديث النبوية بتربية النفوس وتطويعها على هذا المبدأ الذي يشقّ على النفس، وهو السمع للإمام وإن جار وظلم، لماذا؟ لأن مفسدة مخالفتِه والخروج عليه أعظمُ عند الله من مراعاة حظّ النفس الخاصة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم - مخاطباً أمّته: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي، كأن رأسَه زبيبة" أخرجه البخاري.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر".
أيها المؤمنون: ألا وإن من أعظم ما تعمر به الأوطان، وتستقر به البلدان، ويأمن به الناس على أمور معاشهم: تقوى الله، وطاعته، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم طاعة ولي الأمر الشرعي، فطاعته قربة وطاعة، وفي الخروج عليه مفسدة وفتنة.
فعن عَوْف بْن مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُم، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، (أي: تدعون لهم ويدعون لكم)، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ"، قَالُوا: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّه، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ (أي: نعزلهم). قَالَ: "لَا؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، لَا؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاة،َ أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ" رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال. اهـ.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
أيها المسلمون: إن المصالح التي تترتب على تنصيب الأئمة والولاة عظيمةٌ وجليلة، يُدركها العاقلُ بوضوح، سيما بعد أثر غياب السلطان في عددٍ من الدول من حوْلنا، حتى مع جور بعضهم، إلا أن التذكير بهذه المعالم الشرعية صار من المهمات، خاصة وقد نشأت أجيالٌ لا يُدركون التأصيل الشرعي لهذا المعنى، ويَظنونه مبدأً سياسياً محضًا، وهو ليس كذلك، إذ إنه أصل شرعي عليه مدار الدين، واستقامة أحوال العباد، ومعاشهم ومعادهم.
ولذا؛ كان من أصول الإيمان معرفة حقوق ولاة الأمر: ماذا لهم وماذا عليهم؟ قال الإمام البربهاري -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم انه صاحب سُنة إن شاء الله".
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان".
ومن بديع ما نقل عن عمرو بن العاص لابنه: "يا بُني! احفظ عني ما أوصيك به: إمامٌ عادل خير من مَطرٍ وابل، وأَسدٌ حَطوم خير من إمامٍ ظلوم، وإمامٌ ظلوم غشوم خيرٌ من فتنة تدوم".
ثم صلوا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي