العدل

عبد الله بن ناصر الزاحم

عناصر الخطبة

  1. أمرُ اللهِ الحَكَمِ العدْلِ عبادَهُ بإقامة العدل
  2. حقوقٌ واجبٌ على المرء أداؤها لإقامة العدل

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد بالكمال والجلال، له الحمد في الأولى وفي الآخرة وإليه المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له…

أما بعد عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

أيها المسلمون: إن الله -جل وعلا- دعا عباده إلى مكارم الأخلاق، ونهاهم عن سفاسفها، فما من فعلٍ حسنٍ إلا أمر به وحضَّ عليه، ولا رذيلةٍ إلا حذَّرَ منها وأمر بالبعد عنها؛ لذلك قال -تبارك وتعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90].

وقد أجمع جمهور العلماء على أن هذه الآية أجمعُ آيةٍ في كتاب الله -جل وعلا-، وكانت هذه الآية سبَبَ إسلامِ بعض المشركين.

فالله -جل وعلا- يحب العدل، وأقام السماواتِ والأرضَ على العدل، وهو أعدلُ العادلين؛ وأمَرَ بالعدل الخلقَ أجمعين؛ ليستوفي الإنسانُ كاملَ حقوقه، ويهنَأَ بالعيشِ، وتصفوَ الحياةُ، ويستقرَّ الأمن.

لقد فطَر الله النفوسَ على محبّة العدل، واتَّفقتْ على حُسنِه الفِطَرُ السليمَة، والعقولُ الحكيمة، وجاءت به الرِّسالاتُ السّماوية، وقد بعث الله نبينا -صلى الله عليه وسلم- لإخراجِ الناس من جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام…

فواجب على الإنسان أن يعدِلَ في جميع شؤونه: مع ربِّهِ، مع نفسِهِ، مع أهلِهِ وإخوانِهِ وسائرِ الناس.

أيها الأحباب: لقد قامت هذه الحياة على أمرين أساسين: العدل والإحسان، فأداء الواجبات من العدل، والقيام بالفضائل والمكارم من الإحسان.

فكلُّ إنسانٍ في هذه الحياة عليه واجباتٌ مطالبٌ بأدائها، وله حقوقٌ من حقِّهِ المطالبةُ بها، ومن العدلِ والمروءةِ أن لا يطالبَ المرءُ بحقوقِهِ إلاَّ بعد أداءِ واجباتِه، ومن طالب بحقُوقِهِ وهو مُقصِّرٌ في واجباتِه فهو من المطففين الذين توعدهم الله بقوله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين:1].

عباد الله: إن لله حقوقاً على العباد، ولهم حقوقٌ عند الله، فعن معاذ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يَا مُعَاذُ، تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟". قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ -عز وجل- أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"…

ولنفسِ العبدِ وأهلِهِ حقوقٌ يجب القيامُ بها، وفي مقدمةِ تلك الحقوق: اتقاءُ عذاب الله، قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6].

فعليه أن يأخُذَ بزمامِ نفسِهِ، ويتغلَّبَ على هواه، ويؤطرَ نفسه على الحق، وأن يعامل الآخرين بما يحب أن يعاملوه به، وكما يُحِبُّ أن يتمتعَ بحقوقِهِ كاملةً؛ فعليه أن يُؤَدِّيَ واجباتِهِ كاملةً، فقد أوضحت تعاليمُ الشريعةِ الحقوقَ والواجبات، وهذا أمرٌ مُهِمٌّ يجبُ على كلِّ فردٍ أن يفقهَهُ جيداً؛ لأنَّ كثيراً من المشكلات بين الناس، بل وفي داخل الأسر، ناتجةٌ عن التقصيرِ في الواجبات.

فكلُّ فردٍ من أفراد المجتمعِ يطالبُ بحقوقِهِ، ولكنَّهُ لا ينظُرُ إلى واجباتِهِ، وماذا عمل فيها، وهل أداها إلى أهلها كما يُراد…

كما أن للأزواج والأبناء والأقارب وغيرهم من المسلمين حقوقاً، قال -تعالى-: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء:26].

وهنا يجدُرُ أن نُذَكِّرَ بحقوق الزوجين وواجباتهما، فكثير من المشكلات الزوجية لا تنشأ إلا بسبب التقصير في الواجبات، فمن العجيب أن نرى زوجاً يُعدِّدُ حقوقه على امرأته ويُفندُ واجباتِها، وهو مُقصرٌّ في كثيرٍ من حقوقها الواجبة عليه! وعجباً لامرأةٍ تُعدّدُ حقوقَها، وتحفظُ واجباتِ زوجِها، وهي مُقصِّرةٌ في كثير من واجباتها!.

فأسباب المشاكل: إِمَّا رجُلٌ مُقصِّرٌ في واجباته، أو امرأةٌ لا تؤدي للزوج حقَّه، فلو أدى كل منهما ما يجب عليه لوفَّى بحقوقِ صاحِبِهِ، ورَضِيَ كلٌّ منهما عن الآخر، وقُلْ مثلَ ذلكَ مَعَ بَقِية حقوق الآخرين.

ومن حقوق الأبناء الواجبة: العدل بينهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ".

وعن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ أَبَاهُ وهبه مِنْ مَالِهِ، فَأَخَذَه بِيَدِه فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ليُشْهِدَهُ عَلى الهبةِ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بَشِيرُ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: "أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟". قَالَ: لاَ. قَالَ: "فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذًا؛ فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ".

فالإسلام يأمر بأن يُعطَى كلّ ذي حقٍ حقَّه، وهذا هو العدل، بل أمر بالعدل حتى مع الكفّار، فقال -تعالى-: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة:2]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:8].

فاتقوا الله عباد الله، واعدلوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء:58].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم… 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه…

أما بعد عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين…

عباد الله: إنَّ مقامَ العدلِ في الإسلامِ عظيم، وثوابُه عند الله جزيل، فالإمام العادِل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والله يحِبّ المقسطين، وعلى الحاكم أن يُقسط ويعدل: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:28].

واعلموا -عباد الله- أن صلة الأرحام من الأمور التي أوجبها الله -تعالى-، وحذَّر من القطيعة فقال -تعالى-: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد:22].

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ". عن سُفْيَانَ أنه قال: يَعْنِى قَاطِعَ رَحِمٍ.

وفي الصحيح: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ". وفي الصحيحين: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ".

فمَن أحسن علاقته مع الناس وبادلهم المحبة أمد الله بحياته، ونفعه بأيامه، وبارك في أعماله، وجعل محبته في قلوب الناس أجمعين؛ ومن أحبه الناس أحبه الله، جاء عند النسائي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمَلَائِكَةُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ".

نسألك اللهم خشيتك في الغيب والشهادة، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر.

ونعوذ بك من هوىً مُتَّبعٍ، وشُحٍ مُطاعٍ، وإعجابِ المرءِ بنفسه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين…

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع