إن من رحمة الله بخلقه أنه لم يتركهم في غفلتهم، بل حذرهم، وذكّرهم بدنوِّ الساعة، وبيّن لهم علامات قربها، وذكر لهم أشراطها وآياتها، وهذا بمثابة الإنذار والتحذير، والدعوة إلى التوبة.
الحمد لله الذي خلقنا من العدم، وأسبغ علينا النعم، وهدانا لصراطه المستقيم، أشهد أن لا إله إلا الله...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: لقد جعل الله الدنيا دار ممر والآخرة هي دار المستقر، فالدنيا دار فانية ومآلها إلى الزوال، فامتداد هذه الحياة سوف ينقطع لا محالة، وسيفنى الوجود كله، سوف يأتي يوم على الشمس فتُكوّر، والبحار تُسجّر، والجبال تُسيّر، والأرض تتشقق وتتصدّع، وهذا اليوم هو بداية النهاية.
إنه يوم الساعة التي قال الله عنها: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج:7]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه: 15]، وقال: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) [غافر:59].
معاشر المؤمنين: لقد أخبرنا الله -عز وجل- بأن هذا اليوم قريب، فقال: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]، وقال -عز وجل-: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1]، ومن نظر حوله بقلب مبصر وعقل متدبر أيقن قربها واستشعر دنوَّها.
ولعل قائلاً يقول: أخبرنا الله -تعالى- بقربها، وقد مضى على هذا الخبر أربعة عشر قرناً؟! وهؤلاء قال الله عنهم: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:6-7].
وقربها يعني أنه لم يبق من الدنيا إلا الشيء اليسير مقارنة بما مضى منها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس" رواه البخاري.
عباد الله: إن من رحمة الله بخلقه أنه لم يتركهم في غفلتهم، بل حذرهم، وذكّرهم بدنوِّ الساعة، وبيّن لهم علامات قربها، وذكر لهم أشراطها وآياتها، وهذا بمثابة الإنذار والتحذير، والدعوة إلى التوبة.
فمن علامات الساعة: بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بأصبعيه هكذا -الوسطى والتي تلي الإبهام- وقال: "بُعثت أنا والساعة كهاتين"، وفي كتب السيرة أن اليهود كانوا يتحدثون عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه يبعث مع الساعة.
ومن علامات الساعة: موته -صلى الله عليه وسلم-: ففي صحيح البخاري عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم -أي: موت كثير بسبب طاعون أو نحوه-، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا".
فموته -صلى الله عليه وسلم- أكبر مصيبة أصيب بها المسلمون، ومن أراد أن تهون عليه مصيبته فليذكر وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن علامات الساعة: نار تخرج من أرض الحجاز: ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى"، وقد وقع ذلك سنة أربع وخمسين وستمائة بعد الهجرة، وتواتر خبرها، حيث ظهر نار عظيمة فهرع الناس إلى المساجد والبيوت يبكون على أنفسهم؛ لأنهم علموا صدق النبوة ووقوعها.
ومن علامات الساعة: توقّف الخراج والجزية: فقد كان كفار أهل الكتاب يدفعون الجزية للمسلمين أيام عزّتهم وغلبتهم، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الجزية ستنقطع، وذلك بسبب ما يصيب المسلمين من ضعف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّأْمُ مُديهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ" رواه مسلم.
قال النووي: "الأشهر في معناه أن العجم والرّوم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين"، ثم ذكر قول جابر: "يوشك أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم"، قلنا: من أين ذلك؟ قال: "من قِبَل العجم، يمنعون ذلك" رواه مسلم.
ومن علامات الساعة: كثرة الفتن والقتل: روى أحمد عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ بين يدي الساعة الهَرْج"، قالوا: وما الهرج؟ قال: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ"، قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ"، قَالُوا أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ إِنَّا لَنَقْتُلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا"، قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَيُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلاَ الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ". وها نحن نرى ونسمع اليوم ما يحدث في بلاد المسلمين من تقاتل وخلافات وفتن، نسأل الله السلامة والعافية.
فاتقوا الله عباد الله، فإنها حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، واحذروا الفتن، فإنها تسري في هذه الأمة سريان النار في الهشيم، ولا ينجو منها إلا من رحم الله، ومن تعرّف على الله في الرخاء، عرفه الله في الشدة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمداً لا يبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي وعد الشاكرين بالمزيد، وحذّر الكافرين الوعيد الشديد، والصلاة والسلام على سيد الأحرار والعبيد، محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله حق التقوى.
أيها المسلمون: ومن علامات الساعة: فشوّ الزنا، وشرب الخمر، وكثرة الجهل، وقلة العلم: فعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ قَيِّمَ خَمْسِينَ امْرَأَةً رَجُلٌ وَاحِدٌ" رواه البخاري وأحمد واللفظ له. فرفع العلم يكون بقبض العلماء، وانتشار الجهل واقع نشاهده في هذا العصر، فلم تعرف الأمة الإسلامية تطاولاً على العلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مثلما نراه في هذا العصر.
أما كثرة شرب الخمر وفشو الزنا فحدّث عنه ولا حرج، بل في بعض بلاد المسلمين تُحرَس أماكن الدعارة والفجور، وازداد انتشارها يوم أن انتشرت القنوات الفضائية واستخدم الناس الشبكة العنكبوتية.
ومن علامات الساعة أن يُسند الأمر إلى غير أهله، وتُضيّع الأمانة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ"، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: "الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ" رواه أحمد.
وروى مسلم في حديث جبريل- عليه السلام -: "إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا"، ومعنى قوله: "المرأة تلد ربها" أنَّ الفتوح تكثر حتى تكثر الإماء، وتنجب من أسيادها من يكون سيدا لها.
والتطاول في البنيان: هو التنافس في الإطالة المبالغ فيها، وهو دليل على الركون إلى الدنيا، والإعراض عن الآخرة.
نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا الثبات على دينه إلى يوم نلقاه، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه.
عباد الله: صلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، حيث أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي