لقد دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق، وحث عليها، ورغب فيها؛ فدعا إلى العشرة الطيبة، والمعاملة الحسنة، كما دعا إلى لين الجانب، وبذل الندى، وكفّ الأذى، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن كفَّ الأذى من أفضل خصال الإسلام، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله! أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" متفق عليه.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنار لنا طريق الإيمان، وهيأ لنا سبل الإحسان، أحمده حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله حق تقواه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها المسلمون: لقد دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق، وحث عليها، ورغب فيها؛ فدعا إلى العشرة الطيبة، والمعاملة الحسنة، كما دعا إلى لين الجانب، وبذل الندى، وكفّ الأذى، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن كفَّ الأذى من أفضل خصال الإسلام، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله! أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" متفق عليه.
قال الإمام البغوي -رحمه الله تعالى- : "أفضلُ المسلمين: من جمع إلى أداء حقوق الله -تعالى- أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم".
عباد الله: لقد دلت النصوص الشرعية على تحريم إيذاء المسلم بأيِّ وجهٍ من الوجوه بغير حقٍّ، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب:58].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يتناجَى اثنان دون واحد؛ فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله -عز وجل- يكره أذى المؤمن" رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والجلوسَ في الطرقات!"، فقالوا: يا رسول الله! ما لنا بُدٌّ من مجالسنا! نتحدَّثُ فيها. فقال: "فإذا أَبَيْتُم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّهُ"، قالوا: وما حقُّه؟ قال: "غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر" متفق عليه.
وعن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهم- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبرَ، فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفضِ الإيمان إلى قلبه: لا تُؤذوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضَحه ولو في جوف رحله".
ونظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة، فقال: "ما أعظمك وأعظم حُرمَتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك" رواه الترمذي.
وعن سهل بن معاذ، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن رمى مسلمًا بشيءٍ يريد شَيْنَهُ به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال" رواه أبو داود.
أيها المسلمون: إن إيذاء المسلمين سبب لدخول النار، وكف الأذى عنهم من أسباب دخول الجنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يُذكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تُؤذِي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذكَر من قلة صيامها وصلاتها، وصدقتها، وأنها تصدَّق بالأتوار من الأقِط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في الجنة" رواه أحمد.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمُ أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ" رواه مسلم.
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" رواه مسلم.
فاتقوا الله عباد الله، وكُفوا أذاكم عن المسلمين، واشتغِلوا بعيوبِكم عن عيوب الآخرين، وتذكَّروا يوماً تُوقَفُون فيه بين يدي ربِّ العالمين.
يقول يحيى بن معاذ: "ليكن حظُّ المؤمن منكَ ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تُفرِحهُ فلا تغُمّه، وإن لم تمدحه فلا تذُمّه".
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز: "اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطهم أخًا، فأيُّ أولئك تحب أن تُسيء إليه؟!".
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله"، قال: قلتُ: أيُّ الرقاب أفضل؟ قال: "أنفَسُها عند أهلها، وأكثرها ثمناً"، قال: قلت: فإن لم أفعل، قال: "تُعينُ صانعاً، أو تصنع لأخرق"، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعُفتُ عن بعض العمل؟ قال: "تكُفّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك" متفق عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: أيها المسلمون، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
أحبتي في الله: اعلموا أن إيذاء المسلمين يأتي على صور شتى، بعضها يجهله الناس، وبعضها يتساهلون في أمره، وليس من الممكن ذكر جميعِ صورِ الأذى، ولكن سأذكر بعضاً من الصور لتُعرف وتتقى ويقاسُ عليها غيرها.
فمن صور إيذاء المسلم: مكايدتُه، وإلحاقُ الشر به، واتهامُهُ بالباطل، ورميُهُ بالزور والبهتان، وتحقيرُه، وتصغيرُه، وتعيِيرُه، وتنقصُّهُ، وثَلْمُ عِرضِهِ، وغِيبَتُهُ، وسَبُّه وشتمُه، وطعنُهُ ولعنُهُ، وتهديدُه، وترويعُه، وابتزازُهُ، وتتبُّعُ عورته، ونشرُ هفوته، وإرادةُ إسقاطِه وفضيحتِه، وتكفيرُه، وتبديعُه، وتفسيقُه، وقتالُهُ وحملُ السلاح عليه، وسلبُه ونهبُه، وسرقتُه، وغِشُّه، وخداعُه، والمكرُ به، ومُماطَلتُهُ في حقه، وإيصالُ الأذى إليه بأيِّ وجهٍ أو طريق.
كل ذلك ظلمٌ وجُرْمٌ وعدوان لا يفعلُهُ إلا من شُحِن جوفه بالبغضاء والضغناء، وأُفعِمَ صدره بالكراهية والعداء؛ يفعل ذلك من أجل أن يُحزِنَ أخاهُ ويؤذِيَه، وأن يُهلِكَه ويُردِيَه، وكفى بذلك إثما!.
ومن صور الإيذاء: التشويشُ على المُصلِّين في المساجد برفع الأصوات، والمزاحمة، والمدافعة، وتخطِّي الرقاب، والإتيان إلى المسجد بالروائح الكريهة المنتنة.
فعن عبد الله بن بُسْر -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ يتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال: "اجلس فقد آذيت" رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: اعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: "ألا إن كلكم مُناجٍ ربَّه، فلا يؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة" رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنَّ مسجدنا، ولا يؤذينَّا بريح الثوم" رواه مسلم، وفي لفظ: "فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الناس يسكنون العالية، فيحضرون الجمعة وبهم وَسَخٌ، فإذا أصابهم الرَّوح سطعت أرواحهم فيتأذَّى بها الناس، فذُكِرَ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أولا يغتسلون؟!" رواه النسائي.
ومن صور الأذى: التخلِّي في طرق الناس وأفنيتهم، وقضاء الحاجة في أماكن تنزُّههم، وجلوسهم، وتنجيسها، وتقذيرها بالأنجاس والمهملات؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا اللعَّانَيْن"، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلَّى في طريق الناس، وظِلِّهم" رواه مسلم.
وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! دُلَّني على عملٍ يُدخِلُني الجنة، قال: "اعزِلِ الأذَى عن طريق المسلمين" رواه أحمد.
ومن صور الإيذاء والاعتداء: إيذاء الرجلِ زوجتَه بالجور، والظلم، والقهر، والقسوة، والغلظة، والبخل، والحرمان، والتهمة، والظن، والتخوين، والشك في غير رِيبة، ومعاملتها بالخلق الدنيء، واللسان البَذِيء الذي لا تَبْقَى معه عِشْرَة، ولا يدوم معه استقرارٌ ولا سكونٌ ولا راحة.
ومن الرجال من يترك زوجته مُعلَّقة، لا ذات زوجٍ ولا مُطلَّقة، ليحمِلَها على الافتداء ودفع عِوَضِ المُخالعة ظلماً وعدواناً، ومن الرجال من يحرم المرأة أولادها بعد تطليقها إمعاناً في الإساءة والأذى.
ومن صور الأذى: إيذاء المرأة زوجَها بالمعاندة والمعارضة والمكايدة والاستفزاز، وعدم رعاية حقِّه في المغيب والمشهد، إلى غير ذلك من الصور التي يرفضها الشرع الحكيم، ويأباها الطبع السليم، والعقل المستقيم.
فاتقوا الله أيها المسلمون وكُفُّوا الأذى، وابذلوا الندى، تنالوا الحسنى وطيب الذكرى، وتسعَدوا، وتسلَموا في الدنيا والأخرى.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية؛ فقد أمركم الله -تعالى- بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي